Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جدل عسكري- سياسي في فرنسا ومخاوف من تهديد روسي محتمل

تساؤلات حول استعدادات باريس وأوروبا لملاقاة قوة موسكو العسكرية إذا ما استتب لها الوضع في أوكرانيا

قائد القوات المسلحة الفرنسية الجنرال فابيان ماندون (حسابه على إكس)

ملخص

يرى متابعون للشأن الأوروبي أنه "لا يمكن الفوز بحرب عبر رفض خوضها. فإذا كان الهدف هزيمة روسيا، فلا بد، عاجلاً أم آجلاً، من مواجهتها على أرض الواقع".

تتزايد في الأوساط السياسية والعسكرية الفرنسية مؤشرات القلق حيال المسار الذي تسلكه روسيا في أوروبا، وسط تقارير استخباراتية وتحليلات استراتيجية تحذر من احتمال اندلاع مواجهة مفتوحة مع الغرب بحلول عام 2030.

في موازاة ذلك، فجّر قائد القوات المسلحة الفرنسية الجنرال فابيان ماندون عاصفة من الجدل بعدما أطلق تحذيره من أن بلاده "يجب أن تكون مستعدة لقبول خسارة أبنائها في حرب مستقبلية للدفاع ضد هجوم روسي محتمل". وأضاف ماندون، خلال كلمته أمام مؤتمر رؤساء البلديات في باريس الثلاثاء الماضي، أن فرنسا لا يمكنها أن تفترض استمرار السلام، منبهاً أن البلاد ستكون في خطر إذا لم تكُن مستعدة لتقبّل خسارة أبنائها، ولتحمّل الأعباء الاقتصادية التي سيفرضها إعطاء الأولوية للإنتاج الدفاعي.

وبعد يومين على هذه التصريحات التي أثارت جدلاً واسعاً، عاد المتحدث باسم هيئة أركان الجيوش العقيد غيوم فيرنيه ليؤكد دعمه لتصريحات ماندون، مشدداً على أن "الجيوش هي أبناء الأمة".

وقال فيرنيه إن خوض حرب عالية الحدة يعني الاستعداد لتكبّد خسائر عسكرية ومعاناة اقتصادية، مضيفاً أن "البلد الذي لا يتهيأ لتقبّل ذلك، هو بلد ضعيف".
وأثارت عبارة ماندون "خسارة أبنائنا" غضباً واسعاً في الأوساط السياسية التي رأت أنه تجاوز حدود صلاحياته.

من جانبه وصف الأمين العام للحزب الشيوعي الفرنسي فابيان روسيل مداخلة الجنرال ماندون بأنها "خطرة"، فيما تقدم النائب فرانسوا روفين بسؤال رسمي إلى وزيرة القوات المسلحة وشؤون المحاربين القدامى كاثرين فوتران للاستفسار عما إذا كان الرئيس إيمانويل ماكرون على علم بهذه الخطابات وما إذا كان صادق عليها.

وفي سياق متصل، كان رئيس أركان الدفاع السابق تييري بوركارد حذر في وقت سابق هذا العام من ضرورة أن تأخذ فرنسا على محمل الجد "التهديد الدائم" الذي تمثله روسيا. من جهته قال نائب رئيس حزب "التجمع الوطني" المنتمي إلى أقصى اليمين سيباستيان شينو إن ماندون غير مخول بإثارة قلق الفرنسيين بمثل هذه التصريحات.

وكتب روسيل على منصة "إكس"، "نعم للدفاع الوطني، لكن لا لخطابات تأجيج الحرب التي لا يمكن القبول بها".
وفي مطلع الشهر الجاري حذر الرئيس الصربي ألكسندر فوسيتش من إمكان اندلاع صراع مسلح في أوروبا، وأكد أن جميع الأطراف تستعد لمواجهة محتملة.

 

استعداد فرنسا لملاقاة القوة العسكرية الروسية

وتحدث الباحث السياسي في الشأن الفرنسي نبيل شوفان عن تقديرات الجيش الفرنسي التي تفيد بأن روسيا قد تواجه الغرب بحلول عام 2030، موضحاً أن هناك عناصر عدة تستند إليها هذه التقديرات ومن بينها ما هو رسمي، إذ تشير الوثيقة الفرنسية الرسمية للمراجعة الاستراتيجية الوطنية لعام 2025 بوضوح إلى أنه "خلال السنوات المقبلة حتى عام 2030، ستشكل روسيا بالنسبة إلى فرنسا وأوروبا خطر حرب مفتوحة على قلب أوروبا، خصوصاً أنها عززت قواتها المسلحة في مناطق المواجهة وهي تزيد باستمرار عديد أفراد جيشها ودباباتها وطيرانها وصواريخها العابرة للقارات، كما أنها تحارب الاتحاد الأوروبي وتعدّه تهديداً وجودياً. ولا بد من الإشارة إلى تضاعف العمليات الهجينة الروسية كالهجمات السيبرانية وحروب التضليل والتخريب وتحليق الطائرات المسيّرة فوق مطارات مدنية أوروبية، وخرق الأجواء المستمر لدول ’الناتو‘ الشرقية".

وعن سؤال حول مدى استعداد فرنسا عسكرياً واقتصادياً لمواجهة محتملة مع قوة كبرى مثل روسيا، أكد شوفان أن "فرنسا، إلى حد ما، تتحرك باتجاه هذا الاستعداد، إذ تلتزم في وثيقة الاستراتيجية الوطنية الفرنسية 2025 تعزيز 'دفاعها العملياتي عن أراضيها'، وتحسين التنسيق المدني والعسكري وسلاسل التوريد وتوقع الأزمات الدولية الكبرى، وتتعهد في هذه الوثيقة بأن تعزز 'الدفاع العملياتي عن الإقليم'، ولأجل ذلك ستزيد موازنة الدفاع إلى أكثر من الضعف بحلول عام 2030، علماً أن فرنسا بدأت بالفعل بتحديث جيوشها ومعداتها والذخائر والطائرات المسيّرة، وتستعد لوجستياً لمواجهة الحروب الإلكترونية والسيبرانية والتضليل".

ومع ذلك، يلفت شوفان إلى أن "فرنسا تواجه تحديات مهمة مقارنة ببعض حلفائها، بخاصة في بعض المجالات كالصناعة الدفاعية وسلاسل الإمداد والأفراد والقدرة على دعم حرب عالية الكثافة، كما أن الإنفاق يواجه صعوبات وسط ضغوط الدين العام".

وفي ما يخص تحقيق توازن بين تعزيز الدفاع ومنع إثارة الذعر بين المواطنين، يفيد شوفان بأن "هناك مؤشرات على وجود استراتيجية، لكن التواصل يبقى حساساً وعلى سبيل المثال فإن دليل السلامة العامة يقول إن فرنسا تأخذ في الحسبان 'احتمال نشر عدد كبير لقواتنا في الخارج'، وتستعد للتصدي لهجمات هجينة مرتبطة بصراع واسع، مما يظهر رغبة الحكومة في إعداد الناس لإدراك أن هناك بعدين مدني وعسكري للأزمة". ويضيف أن "نقاشات الموازنة بحد ذاتها إخطار للناس بأن البلاد تعيش وسط تصعيد وحرب في قارتها وهذا ما تحدث عنه رئيس الوزراء سيباستيان لوكورنو خلال خطابه عن الموازنة حين نجا من تصويت ثقة البرلمان".

 

في المقابل أكد المفكر السياسي الفرنسي وأستاذ العلوم السياسية نيكولا تينز أن "التهديد الروسي لأوروبا ليس مجرد فرضية نظرية، بل واقعاً ملموساً يجب التعامل معه بجدية"، وقال "لأعوام، أكدت أجهزة الاستخبارات في معظم الدول الأوروبية بوضوح أن لدى روسيا خطة لتدمير أوروبا. وأثرتُ هذه النقطة بنفسي قبل أكثر من 15 عاماً، وخصصتُ لها مساحة واسعة في كتابي 'حربنا: الجريمة والنسيان'". وأوضح تينزر أن "هذا التحذير لا يعني بالضرورة أن روسيا تملك القدرة على إرسال دبابات إلى الشانزليزيه في باريس، أو إلى برلين أو بروكسل أو أية دولة أخرى في أوروبا الغربية. إلا أن دول البلطيق مهددة بصورة مباشرة. لكن التهديد الروسي سيزداد قوة إذا لم يُهزم عسكرياً بصورة حاسمة في أوكرانيا". وأضاف "إذا لم تُهزم روسيا في أوكرانيا، فستكون أوروبا التالية على القائمة. إن ما يسمى ’خطة السلام الأميركية- الروسية‘ التي أملتها موسكو في الواقع، لن تعزز سوى قوة الكرملين، بالتالي تشكل تهديداً مباشراً لأوروبا".

وتابع تحليله للموقف الأوروبي قائلاً إن "روسيا ستعمل على تعزيز قواتها على نحو أكبر إذا رُفعت العقوبات عنها، وستكون قادرة بعد ذلك على مهاجمة أجزاء من أوروبا، في البداية الوسطى والشرقية، وستتمتع بحرية كاملة في شن هجمات إرهابية على دول أوروبية أخرى".

وأكد أنه "يجب الإبقاء على العقوبات وتعزيزها حتى تسحب روسيا قواتها من أوكرانيا وتعيد الأطفال المرحّلين وتدفع تعويضات الحرب لأوكرانيا وتسلم مجرميها إلى العدالة الدولية. علاوة على ذلك، فقد وقعت بالفعل هجمات مماثلة شنتها روسيا على أوروبا، وسنشهد أيضاً تزايداً في الاغتيالات المستهدفة والتخريب المميت والترهيب بجميع أنواعه. تذكروا أيضاً محاولة اغتيال رئيس شركة ’راينميتال‘، وهي شركة ألمانية رائدة في تصنيع الأسلحة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

خط المواجهة الحالي

لذا، يرى تينزر أن "التهديد ليس متخيلاً إطلاقاً، إنه تهديد حقيقي، فكل شيء في اعتقادي يعتمد على ما يحدث في أوكرانيا، هذا هو مفتاح الدفاع الأوروبي اليوم، أي خط المواجهة الأوروبي".

وفي الاتجاه نفسه أوضح أن "تصريحات الجنرال ماندون، رئيس أركان الجيش الفرنسي، بديهية. وعلاوة على ذلك، معظم منتقديه ينتمون إلى أقصى اليمين أو أقصى اليسار، وأظهروا باستمرار قدراً من التساهل تجاه موسكو". وقال "لا يمكننا أن نتجاهل حقيقة، من المؤسف أن الجنود الشباب الفرنسيين الذين هم من المحترفين، دفعوا بالفعل ثمناً باهظاً خلال العمليات الخارجية التي نفذتها فرنسا، بخاصة في أفغانستان ولبنان ومنطقة الساحل، ولا سيما في مالي".

وأشار إلى أن "التضحية جزء من وعي المؤسسة العسكرية"، لكنه شدد على ضرورة توضيح الحقائق للرأي العام، "فالقدرة على قبول التضحيات ليست مجرد قول، بل حقيقة يعرفها العسكريون الملتزمون جيداً. ومع ذلك، من المهم التأكيد على أن أحداً لم يفكر يوماً في إعادة العمل بالتجنيد الإجباري في فرنسا، فالأمر لا يتعلق بإرسال كل الشباب الفرنسيين إلى القتال في أوكرانيا. كما أن التجنيد العام سيكون من الناحية العسكرية غير مجدٍ".
وأوضح أن "ما يجري تداوله من مخاوف حول تجنيد الشباب يدخل في إطار حملة تخويف سياسية. وهذا النوع من الحديث يندرج ضمن دعاية اليمين المتطرف التي تهدف إلى بث الخوف بين الفرنسيين، كما لاحظنا سابقاً عندما ألمح الرئيس ماكرون في الـ26 من فبراير (شباط) عام 2024 إلى إمكان إرسال قوات محترفة إلى أوكرانيا".

وشدد تينزر على أنه "لا يمكن الفوز بحرب عبر رفض خوضها. فإذا كان الهدف هزيمة روسيا، فلا بد، عاجلاً أم آجلاً، من مواجهتها على أرض الواقع". وقال إن "الجنرال ماندون ردد بحق ما أعلنه سلفه الجنرال بوركارد ’لكسب الحرب، لا بد من المخاطرة‘. وهذا ما أتفق معه تماماً".

ورأى أن "اللحظة الحالية تتطلب وضوحاً سياسياً وإعلامياً غير مسبوقين، بخاصة وسط تصاعد التهديد الروسي ووتيرة الحرب في أوكرانيا"، مضيفاً أنه "خلال هذه المرحلة، يجب أن نكون في كامل قوانا العقلية. هناك حاجة إلى جهد إعلامي شامل لتوضيح مدى التهديد الروسي وطبيعته المباشرة للفرنسيين والأوروبيين. علينا أن نفعل ذلك أكثر مما نفعله اليوم، وأن نتحدث أكثر عن الجرائم الجسيمة التي ترتكبها روسيا".

وفي ما يتعلق بقدرة باريس وأوروبا على مواجهة موسكو، أكد تينزر أن "الأمر لا يرتبط بدولة منفردة بقدر ما يرتبط بالقوة الأوروبية المشتركة، فهل تمتلك فرنسا الإمكانات؟ بالطبع، الأمر لا يقتصر على فرنسا فقط. لا يمكن لأحد أن يتخيل دولة أوروبية واحدة تقف في وجه روسيا. ومع ذلك، إذا نظرنا إلى أوروبا ككل، نجد أن ناتجها المحلي الإجمالي لا يفوق ناتج روسيا بـ10 أضعاف وحسب، بل إن قواتها المسلحة عموماً أقوى، على رغم نقص الصواريخ والدبابات".

 

"روسيا تمثل خطراً"

ورأى تينزر أن أوروبا تملك القدرة على دعم أوكرانيا والدفاع عن نفسها، مضيفاً أن "أوروبا ككل، الاتحاد الأوروبي، وكذلك المملكة المتحدة والنرويج، ليست بلا دفاع ضد روسيا. وحتى لو انسحبت الولايات المتحدة، فإنها تمتلك الإمكانات لتقديم مزيد من المساعدات لأوكرانيا والدفاع عن نفسها. لنأخذ في الاعتبار أننا لا نخصص سوى 0.1 في المئة من ناتجنا المحلي الإجمالي للمساعدات العسكرية لأوكرانيا، يمكننا، بل يجب علينا، أن نبذل جهداً أفضل".
وشدد على أن "روسيا تشكل خطراً كبيراً، لكنها ليست بمنأى عن الهزيمة. لنأخذ في الاعتبار أنها لم تتمكن خلال ما يقارب أربعة أعوام من هزيمة أوكرانيا، وهي دولة يقل عدد سكانها ثلاثة أضعاف عن روسيا. لكن دعونا لا نضيع الوقت، فروسيا تزداد قوة، وإذا نُفذت خطة ترمب- بوتين، فستكتسب قدرات أكبر. يجب أن ندرك هذا الخطر الكبير، لكن لا يمكننا أن نعتمد نهجاً انهزامياً".
وحذر تينزر من انزلاق أوروبا إلى موقف دفاعي متأخر، قائلاً "الوقت يداهمنا، فروسيا تزداد قوة عسكرياً كل يوم لأنها تضحي بكامل اقتصادها من أجل الحرب، وجيشها يعوّض نقص فاعليته بالعدد. وإذا قُدّر له أن ينتصر في الحرب في أوكرانيا، فسيكون قادراً على حشد كل قوته لمهاجمة أوروبا".

وفي ختام حديثه، دعا تينزر إلى تسريع إعادة تسليح أوروبا وإعادة بناء قوتها العسكرية، "الآن، لا يزال هناك كثير من العمل الذي يتعين القيام به، فيجب علينا تسليح أنفسنا على نحو أكبر وتسريع وتيرة بناء قدراتنا العسكرية. في يونيو (حزيران) عام 2022، أعلن ماكرون أن أوروبا بحاجة إلى اعتماد اقتصاد حرب، وكان محقاً، لكن لم تفعل أية دولة أوروبية ذلك. من ناحية أخرى، اعتمدت روسيا بالفعل اقتصاد حرب، ولا يمكننا أن نتخلف عن الركب. وإذا فشلت أوروبا في هزيمة روسيا في أوكرانيا، فستكون دفنت صدقيتها ومبادئها وشرعيتها وأمنها".

في المحصلة، يبقى المشهد الأوروبي معلقاً بين حسابات الأمن ومصالح الاقتصاد، فيما تتقدم روسيا كعامل لا يمكن تجاهله في صياغة سياسات القارة. وبينما تتزايد التحذيرات من سيناريوهات تبلغ ربما عتبة تفعيل المادة 5 من ميثاق "الناتو"، يواصل الأوروبيون البحث عن معادلة توازن دقيقة، ردع لا يجر إلى المواجهة وانفتاح لا يفرّط بالأمن. وهكذا، يظل السؤال الأبرز هل تتجه أوروبا نحو مرحلة جديدة من التصعيد، أم ستنجح في رسم حدود واضحة تمنع الانزلاق إلى صدام أوسع؟

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير