ملخص
مع سقوط نظام بشار الأسد انتهت حقبة الدولة الأمنية المركزية الصلبة وبقيت المناطق السورية تخضع لنفوذ قوى سياسية وعسكرية محلية مختلفة من دون الوصول إلى شكل نهائي ومتفق عليه دستورياً وسياسياً حتى الآن، فالأطراف تسعى لتثبيت اللامركزية في البلاد في حين أن العاصمة تصر على جمع السلطات في مراكزها السياسية والتشريعية والاقتصادية إلا أن العوامل والظروف تشي بغير ذلك.
أنهى الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024 عقوداً طويلة من حكم حزب البعث وعائلة الأسد، ومعها سقطت جميع أركان الدولة المركزية المتصلبة تجاه الأطراف على رغم خروج مساحات واسعة عن سيطرة النظام السابق وإدارتها من قبل جهات محلية مختلفة مع تأثير وتبعية واضحة في مناطق الشمال السوري لتركيا.
طبعت سوريا على مدى عقود طويلة في مظهرها السياسي بنظام مركزي محكم، بل أصبحت هويتها التي لا يمكن القبول بغيرها في الفكر السياسي المحيط بالسلطة وحتى المتحالف معها، وذلك من خلال جمع الصلاحيات واختزالها بداية في حزب واحد ثم في شخص الرئيس، فمع وصول حزب البعث العربي الاشتراكي الذي قاد ضباطه انقلاباً عسكرياً في الثامن من مارس (آذار) 1963 ثبت مبدأ أن "البعث" هو قائد الدولة والمجتمع ومن حينها لم تخرج دفة الحكم من يد أعضاء هذا الحزب بل جرى تداولها بين ضباطه عبر انقلابات دموية وأحياناً بيضاء، لكنها ترسخت واستقرت في يد حافظ الأسد الذي سيطر على السلطة بشكل محكم عام 1970 ومعه تثبت حكم "البعث" دستورياً في 1973 في المادة الثامنة، ثم كان الأسد ينتخب شكلياً كل سبعة أعوام حتى وفاته في العاشر من يونيو (حزيران) 2000، ليكمل ابنه بشار الأسد من بعده حكم البلاد عائلياً من خلال الحزب وأجهزة السلطة المختلفة لا سيما من خلال الجيش والأمن بالدرجة الأولى.
تراجع مؤسسات الدولة
خلال حكم الأسدين تراجع دور مؤسسات الدولة بصورة كبيرة لصالح السلطة، فقد عمد الأب والابن على ترسيخ الحكم من خلال عدة أجهزة أمنية تعمل بنشاط داخل مراكز قوى الدولة والمجتمع وتضمن خلالها استقرار الحكم المركزي الذي يعتمد في كل قراراته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية والتشريعية على قرار الرئيس في المحصلة.
أي إن سوريا فقدت من خلال قواها السياسية والاجتماعية وحتى الاقتصادية أي وزن في إصدار القرارات أو الحكم من خلال آليات الحكم المحلي، لتصبح دمشق وأجهزتها الأمنية وحزب البعث والقصر الرئاسي بالدرجة الأولى هي مصدر القرارات في الدولة.
اعتمد النظام السوري في إحكام قبضته الأمنية تنوعاً في أجهزة الاستخبارات والأمن وكل منها له هيكليته الخاصة، تبدأ من أعلى الهرم وقيادتها في العاصمة دمشق وتتكون من فروع ومفارز في جميع المحافظات السورية ومدنها وبلداتها إلى جانب جهاز أمني داخلي في الجيش وكذلك داخل أجهزة الأمن نفسها، وبذلك حافظ على مؤسسة الجيش أو الأجهزة الأمنية من أي حالات تمرد، فيما شهدت في أعوام الاحتجاجات التي بدأت في مارس 2011 انشقاق أفراد من رتب مختلفة، ولربما كان هذا درساً تعلمه الأسد الأب من ممارساته وأقرانه عند القيام بانقلابات وتمرد باستثناء حالة سرايا الدفاع التي كان يقودها أخوه رفعت الأسد في الثمانينيات، وانتهت بخروج الأخ إلى فرنسا مصطحباً معه مئات الملايين من الدولارات شرط ألا يتدخل في الحكم وذلك عقب وساطة عائلية وعربية.
وكان أبرز الأجهزة الأمنية في سوريا في زمن الأسدين هو أمن الدولة والأمن السياسي والاستخبارات العسكرية والاستخبارات الجوية، فيما كانت الفروع والأقسام بمثابة سجون ومعتقلات خارج النطاق القضائي، وكانت هذه الأجهزة الرقيب على النظام المركزي في دمشق، إذ تتدخل في قرارات الوزارات وتراقب عملها من الداخل، ناهيك بالتدخل في تعيين الوزراء أنفسهم بدلاً من نظام انتخابي أو أصول تشكيل الحكومات وكان فيها الولاء والانتماء الحزبي وحتى الطائفي معياراً سابقاً للكفاءة العلمية والعملية، وهذه الوزارات نفسها كانت مركزية في قراراتها تجاه مديرياتها وفروعها في المحافظات والمدن، فجميع القرارات الإستراتيجية والكبيرة تتخذ في الوزارة ولا يكون للأطراف دور في تحديدها أو اتخاذها على عكس الأنظمة الاتحادية في مختلف دول العالم، حتى مع وجود صلاحيات لمجالس المحافظات، إلا أنها لم ترق إلى اتخاذ القرارات من دون الرجوع إلى المركز والوزارات المتخصصة أو نيل رضا الأجهزة الأمنية التي كانت أساساً جزءاً من أي نقاش إداري أو اقتصادي داخل العاصمة أو المحافظات وحتى في المدن والبلدات الصغيرة المترامية في أطراف البلاد.
تجربة توسيع الإدارة المحلية
على رغم إصدار بشار الأسد مرسوم القانون 107 لعام 2011 ويقضي بتوسيع الإدارة المحلية لصالح المحافظات والتقليل من تدخل المركز أو العاصمة ولاحقاً تعديلاته في عام 2015، فإنه لم يستطع التخلص من شدة المركزية في التعيينات وإصدار القرارات، فمثلاً تعيين المحافظ بقي ضمن صلاحيات رئيس الجمهورية، ومن ثم أفرغ الانتخابات المحلية من مضمونها التي بقيت على تعيين أعضاء مجلس المحافظة وبقية الهيكلية الفرعية إلى جانب آلية اتخاذ القرارات التي تتدخل فيها الحكومة على حساب الهيكليات التي من المفترض أن تكون تشريعية في مقصدها وكذلك تحول النظام الإداري إلى لا مركزي.
على رغم الدور المحوري لأجهزة الأمن للحفاظ على مركزية القرارات فقد أبقى الأسدان حزب البعث كإطار سياسي أساس ضابط وناظم للحياة العامة والخدمية وحتى الاقتصادية في البلاد، فتحولت فروعه ومراكزه إلى مديريات ومراكز لمناقشة السياسات والقرارات الإستراتيجية في أي مدينة وبات مسؤولوها جزءاً من اتخاذ قرارات المؤسسات المختلفة والبعيدة عن التبعية الحزبية أو السياسية، حتى حينما كان الانتساب إلى الحزب يخضع للترغيب والترهيب بين المواطنين السوريين، إضافة إلى اعتباره فرصة للولاء للنظام الحاكم وتسهيل لتبوء المناصب في الدولة، في حين أن أحزاباً يسارية كانت محظورة إلى جانب غياب الإخوان والأحزاب الكردية عن العمل السياسي لتتفرغ الساحة للبعث والأحزاب المتحالفة معه في ما كانت تعرف بالجبهة الوطنية التقدمية، وبذلك لم تكن المطالبة باللامركزية السياسية واردة من الأحزاب السياسية أو تحت قبة البرلمان الذي كان أعضاؤه ينتخبون ويفوزون بمقاعدهم برضا من السلطة نفسها.
اللامركزية مطلب كردي
لم تسجل في تاريخ الأحزاب السياسية أي مطالبة باعتماد اللامركزية السياسية في البلاد باستثناء ما صدر عن بعض الأحزاب الكردية، التي رأت في تسعينيات القرن الماضي ضرورة اعتماد الإدارة الذاتية كشكل مناسب لإدارة المناطق الكردية من قبل سكانها، لكن تلك المطالب لم تلق أي قبول من قبل السلطات، بل كان ناشطو هذه الأحزاب عرضة للاعتقال والسجن بتهمة "سلخ أجزاء من أراضي الجمهورية العربية السورية وإلحاقها بدولة أجنبية"، لذلك لم تتجرأ الأطراف السياسية على الخوض في المطالبة بحكم لا مركزي خوفاً من البطش والقمع.
وكذلك كان يدار الاقتصاد الوطني من دمشق في جميع قطاعاته الإستراتيجية سواء الزراعة أو الصناعة أو استخراج الثروات الباطنية المنتشرة في مختلف المناطق السورية، كذلك فإن الموازنات المخصصة للمحافظات كانت تقر في العاصمة دمشق من دون أن تستفيد تلك المحافظات، لا سيما في الأطراف، مما تنتجه مناطقهم مثل المناطق الشمالية الشرقية في البلاد المتمثلة بمحافظات (الحسكة والرقة ودير الزور) حيث كانت مصدراً لمعظم النفط والغاز المنتج في سوريا، إلى جانب الغنى والتنوع في القطاع الزراعي في وقت كانت بعيدة من خطط التنمية الاقتصادية والخدمية، بل إنها كانت توصف بالمحافظات النامية وكانت حتى أعوام ما قبل الأزمة تفتقد لوجود جامعات فيها.
سوريا مقسمة بالواقع
مع بدء الاحتجاجات الشعبية في سوريا وزيادة رقعتها داخل البلاد ودخولها مرحلة المواجهة العسكرية وخسارة النظام مناطق واسعة من الأراضي، تشكلت إدارات وحكومات الأمر الواقع لإدارة شؤون تلك المناطق، بدأ بعضها بمجالس محلية وأخرى بحكومة تشكلت في تركيا، حيث كانت تدار محافظة إدلب وبعض المناطق المحيطة بها من قبل حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام، في حين كانت الحكومة السورية الموقتة تدير مناطق الشمال السوري التي دخلها الجيش التركي في ثلاث عمليات عسكرية وهي "درع الفرات" و"غصن الزيتون" و"نبع السلام" وجميعها كانت تدار من قبل منسقين يتبعون للولاة الأتراك، في حين كان الجنوب السوري لا سيما درعا يدار من قبل الفصائل وعودة رمزية لدوائر النظام، كذلك كانت السويداء، ومع ازدياد قوة الفصائل الدرزية فيها ارتخت القبضة الأمنية التابعة للنظام، بينما كانت مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية تديرها الإدارة الذاتية لكنها خسرت مناطق مثل عفرين وسري كانيه (رأس العين) وتل أبيض في عمليات عسكرية تركية، وبذلك تقلصت سيطرة النظام السوري على الجغرافيا السورية لصالح قوى محلية وإقليمية بما فيها تنظيم "داعش" خصوصاً في البادية السورية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في الثامن من ديسمبر 2024 مع سقوط النظام السوري تبدلت لوحة السيطرة بصورة كبيرة لصالح الفصائل المعارضة وهيئة تحرير الشام، إذ سيطرت على كامل المنطقة التي كانت تتبع للنظام السوري السابق، في حين بقيت مناطق الإدارة الذاتية التابعة لقوات سوريا الديمقراطية بالمساحة ذاتها مع فقدان بعضها في منطقة الشهباء واكتساب أخرى بريفي حلب والرقة، وكذلك محافظة السويداء بقيت فيها الفصائل الدرزية المسيطرة على المحافظة بصورة كاملة تقريباً.
الدفع نحو الانفصال
شكلت الهجمات والأحداث التي جرت في الساحل السوري في مارس الماضي وكذلك اجتياح السويداء في يوليو (تموز) الماضي مع إعلان دستوري لا يطرح بديلاً للدولة المركزية السابقة إضافة إلى طرح مفاوضي الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية والقوى الكردية في سوريا بضرورة تحول سوريا إلى دولة لا مركزية، كل هذا دفع المشهد السوري الحالي إلى وضع متداخل ما بين الحكومة الموقتة المتمسكة بمركزية الدولة والأطراف التي تدفع نحو مزيد من توزيع السلطات وحكم الأطراف لنفسها من خلال أشكال مختلفة من الحكم المحلي.
فالقوى السياسية العلوية وهي الأقل تنظيماً وتفاعلاً على مستوى الشارع المحلي تطالب بالفيدرالية لمناطق الساحل، إذ دفعها مقتل أكثر من 1500 شخص وعدم معرفة مصير آخرين إلى التمسك بخيار ألا تكون دمشق مسيطرة ومتحكمة بمناطقها، خصوصاً أن نبرة الخطاب الطائفي ما زالت تحتفظ بشعبية بين أوساط مقربة من السلطة والفصائل المسلحة، وعلى رغم تشكيل لجنة للتحقيق في الأحداث من قبل الحكومة وإعلان اعتقال عدد من عناصر الأمن والفصائل المنضوية إلى وزارة الدفاع، فإن مطلب الحكم المحلي يحظى بقبول الفئات السياسية والشعبية العلوية بصورة ملحوظة.
أما السويداء التي قتل فيها أكثر من 1700 شخص غالبيتهم من المدنيين العزل في يوليو الماضي، فهي تحظى بزعامة دينية واضحة تقود المطالب السياسية والإدارية في المحافظة، فبعد تلك الأحداث شكلت الرئاسة الروحية للموحدين الدروز نظاماً إدارياً خاصاً بالمحافظة ومستقلاً عن دمشق من خلال ما تعرف باللجة القانونية، ورفعت مطلب الانفصال عن دمشق، لا سيما أن لجنة خاصة من السويداء نظمت حملة لجمع التواقيع لحق تقرير المصير وتجاوزت 100 ألف توقيع بحسب مصادر محلية، في حين كان الحضور الإسرائيلي من خلال ضرب قوات الأمن الداخلي والدفاع السورية وكذلك ضرب مبنى الأركان في دمشق بقصف جوي، إلى جانب تصريحات إسرائيلية صارمة بحماية الدروز، مما عزز من التمسك بتلك المطالب التي كانت قبل تلك الأحداث مقتصرة على المشاركة في إدارة مناطقها ضمن دولة مدنية ديمقراطية وتعددية، في حين أن اتفاقاً ثلاثياً بين الولايات المتحدة والأردن والحكومة السورية الموقتة جرى توقيعه في عمان قضى بتثبيت وقف إطلاق النار في السويداء وإبقاء انتشار القوات الحكومية في الأطراف الإدارية للسويداء، بينما لم تمس البنود شكل التعامل مع داخل المحافظة، بل ركزت على جهود المصالحة بين الحكومة والمحافظة الدرزية.
الملف الأثقل
أما ملف شمال وشرق سوريا الذي يعيش فترة حكم محلي شبه مستقل عن دمشق منذ عام 2014 فهو الأثقل وزناً في اتجاه سوريا نحو دولة لا مركزية، فهذه المنطقة التي تحظى بنظام إداري واضح وكذلك تشريعي وأمني وعسكري مستقل تماماً عن السلطة المركزية تشكل نحو ثلث مساحة سوريا، وتمثل رافعة اقتصادية مهمة للبلاد لاحتوائها على معظم حقول النفط والغاز والمحاصيل الزراعية، ناهيك بملفات سياسية وأمنية حيوية متمثلة في محاربة الإرهاب من خلال الشراكة مع قوات التحالف الدولي منذ أكثر من 10 أعوام.
وشكل اتفاق العاشر من مارس بين الرئيس السوري وقائد قوات سوريا الديمقراطية والقاضي بدمج قوات سوريا الديمقراطية والمؤسسات الإدارية والمدنية في نظيراتها الحكومة مع تسوية الملفات الشائكة بما فيها الاعتراف الدستوري بحق الكرد في سوريا وضمان حقوقهم، شكل ذلك الاتفاق نقطة ارتكاز لبدء عملية مفاوضات تعرقلت خلال الفترة الماضية مع بروز تأثير واضح لتركيا في هذا المسار، إذ توازن ما يجري مع ملف الكرد داخل أراضيها، إلا أن مطالب شمال وشرق سوريا وحراكها السياسي يتركز على تحويل سوريا إلى دولة تضمن حقوق مختلف مكوناتها مع نظام سياسي لا مركزي اتحادي، وقد أكدت القوى السياسية الكردية هذه المبادئ وذلك في مؤتمر جمعها في مدينة القامشلي في أبريل (نيسان) الماضي، وتبع ذلك مؤتمر آخر في مدينة الحسكة تحدثت فيها مرجعيات دينية علوية ودرزية، واتفقت على ضرورة تحول سوريا إلى دولة لا مركزية يغلب فيها اعتماد الشكل الاتحادي الفيدرالي بين المحافظات والعاصمة.
المركزية غير ممكنة
كشف مسؤول سياسي في مجلس سوريا الديمقراطية تبدل توجهات القوى الغربية في تعاملها مع ملف اللامركزية في سوريا منذ بداية سقوط النظام السابق، حين كان الدبلوماسيون الغربيون يشددون في البداية على حصر السلطات في العاصمة واعتماد المركزية في الحكم بقيادة الرئيس السوري الموقت ويضغطون في هذا الاتجاه، إلا أن هذه الآراء خفت وتراجعت مع وقوع أحداث في السويداء والساحل وكذلك إصرار شمال وشرق سوريا على لا مركزية الحكم في البلاد.
أخيراً فإن زوار الرئيس أحمد الشرع من المتخصصين الغربيين يؤكدون أنه بات منفتحاً أكثر من السابق على مناقشة اللامركزية في البلاد من دون تحديد صورة نهائية لها، شرط أن تكون ما دون الانفصال عن البلاد.