ملخص
المساعي الحالية القائمة لعقد اتفاق بين إسرائيل وسوريا ليست جديدة بل سبقتها جولات من المحادثات بدأت عقب حرب عام 1973 واستمرت عقوداً.
للدخول أكثر في مساعي المفاوضات التي كانت قائمة بين تل أبيب ودمشق منذ عقود، تنفرد "اندبندنت عربية" بنشر وثائق أميركية سرية أعدتها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "سي آي إيه" قبل عقود، تكشف عن جانب كبير من نظرة سوريا إلى السلام والتطبيع مع إسرائيل خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، والدور الذي لعبه الرئيس السابق حافظ الأسد في هذا السياق، ناهيك عن مقاربة سوريا لنفوذها وموقعها عربياً وللسلام المصري - الإسرائيلي.
"علاقة محكومة بالحرب ومحاولات السلام المتقطعة"، لعل هذا التوصيف يلخص عقوداً من عداء معلن أحياناً وسلم مخفي في أحيان أخرى بين إسرائيل وسوريا، وهي علاقة بين دولتين توصف بأنها من الأكثر تعقيداً في منطقة الشرق الأوسط، وسط حكم الجغرافيا المترابطة وأحداث المنطقة، وكذلك تشابك التحالفات الإقليمية والدولية.
وعلى رغم الحروب الدامية بين البلدين التي حصلت خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وما تلاها، بقيت محاولات إحياء مسار السلام قائمة وآخرها عام 2008 بوساطة تركية، قبل أن تنطلق الثورة السورية عام 2011 والتي تحولت إلى حرب دامية انتهت في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024 بسقوط نظام بشار الأسد وتولي أحمد الشرع الحكم.
عادت مسألة التطبيع أو عقد اتفاق سلام بين تل أبيب ودمشق بقوة خلال الأسابيع الأخيرة بعد تأكيد وسائل إعلامية عقد اجتماعات ثنائية بين البلدين، آخرها في العاصمة الفرنسية باريس في الـ 26 من يوليو (تموز) الجاري، وقد جمع وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني ووزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر برعاية الموفد الرئاسي الأميركي إلى سوريا توم براك.
يشكك كثر في فرص نجاح هذه المساعي وبخاصة وسط اضطرابات ميدانية تفجرت أخيراً مع أحداث منطقة السويداء الجنوبية التي قصفت على إثرها إسرائيل العاصمة دمشق، لكن أخرين يؤكدون أن المصالح المشتركة بين البلدين ستكون الدافع الأبرز والأقوى لأي اتفاق مستقبلي قد يجمعهما، ولا سيما في ظل التحولات الإقليمية المتسارعة وتراجع النفوذ الإيراني بصورة كبيرة في المنطقة وتبدل أولويات اللاعبين الدوليين، ناهيك عن التحديات الداخلية الكبيرة التي تواجهها الإدارة الجديدة في سوريا والمرتبطة بالاستقرار الداخلي وإعادة الإعمار والخوف من العزلة الإقليمية، بينما تسعى تل أبيب إلى تحييد جبهتها الشمالية وتقييد النفوذ الإيراني عند حدودها، مما يجعل السلام أو حتى تهدئة طويلة الأمد خياراً مطروحاً ولو في الكواليس.
جولات سابقة من المحادثات بين إسرائيل وسوريا
المساعي الحالية القائمة لعقد اتفاق بين الدولتين الجارتين ليست جديدة بل سبقتها جولات من المحادثات بدأت عقب حرب عام 1973 واستمرت عقوداً، وبعضها وصل إلى مراحل جدية قبل أن تطل عقدة الجولان المحتل برأسها في اللحظات الأخيرة فتعود الأمور لمربعها الأول.
للدخول أكثر في مساعي المفاوضات التي كانت قائمة بين تل أبيب ودمشق، تنفرد "اندبندنت عربية" بنشر وثائق أميركية سرية أعدتها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "سي آي إيه" قبل عقود، تكشف عن جانب كبير من نظرة سوريا إلى السلام والتطبيع مع إسرائيل خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، والدور الذي لعبه الرئيس السابق حافظ الأسد في هذا السياق، ناهيك عن مقاربة سوريا لنفوذها وموقعها عربياً وللسلام المصري - الإسرائيلي.
سوريا: الأسد وعملية السلام
تحمل الوثيقة الأولى عنوان "سوريا: الأسد وعملية السلام" تحت رقم التصنيف (CIA-RDP89S01450R000600580001-8) ويعود إعدادها لشهر نوفمبر (تشرين الثاني) 1989، وقد أعدها مكتب تحليل شؤون الشرق الأدنى وجنوب آسيا في الوكالة، ويبدأ نص هذه الوثيقة السرية بخلاصة من أسطر محدودة مفادها أن حافظ الأسد كان يحتفظ بقدرة شبه منفردة على تقويض أي تقدم نحو تسوية سياسية للصراع العربي – الإسرائيلي، وهو لا يعارض تسوية سلمية للنزاع المستمر منذ 40 عاماً مع إسرائيل لكنه مصمم على عرقلة أية مبادرة سلام لا تأخذ بالكامل المصالح السورية في الحسبان، وبخاصة مسألة استعادة مرتفعات الجولان، وكذلك خلص معدو هذه المذكرات إلى أن الأسد حينها كان مستعداً للقيام بأية خطوات يراها ضرورية لمنع الفلسطينيين، وبخاصة منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، من التفاوض مع إسرائيل بصورة منفردة لأنه يخشى أن يتجاهلوا مصالح دمشق.
مرونة تكتيكية جديدة
ويكشف هذا الملف السري كيف أنه في أوائل عام 1987 بدا أن الأسد خفف من موقفه المتشدد في شأن تسوية الصراع العربي - الإسرائيلي عندما أكد خلال اجتماعه مع الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر التزام سوريا بحل دبلوماسي للنزاع المستمر منذ 40 عاماً، قبل أن يلمح في اجتماع آخر من العام نفسه للمرة الأولى إلى أن المحادثات المباشرة مع إسرائيل قد تكون ضرورية.
أما في عام 1988 فقد التقى الأسد مبعوثين أميركيين خلال مناسبات عدة لمناقشة أحدث مبادرة سلام أميركية، في مرحلة كانت دمشق تعيش نوعاً من المشكلات مع موسكو وصعوبات اقتصادية داخلية قوضت قدرتها على المواجهة العسكرية مع إسرائيل.
وقد جاء في الوثائق "لقد لعبت السياسة السوفياتية في الشرق الأوسط دوراً في تشكيل تكتيكات الأسد الأخيرة تجاه قضية السلام، فعلى رغم أن وجهات النظر السوفياتية والسورية حول التسوية متشابهة لكنها لا تتطابق في بعض الجوانب المتعلقة بتمثيل الفلسطينيين والوضع النهائي، ومع ذلك تبدو دمشق مصممة على التقليل من أهمية هذه الخلافات، ويبدو أن جهود الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف لتحسين العلاقات مع العرب المعتدلين وإسرائيل جعل الأسد أقل ميلاً لإغضاب راعيه الرئيس... وعلى رغم أن الأسد خفف من لهجته العدائية تجاه عملية السلام علناً لكننا لا نعتقد أنه سبق أن كان مستعداً لأي تحرك دراماتيكي نحو السلام كما فعل الرئيس محمد أنور السادات في مصر"، في إشارة إلى اتفاق السلام الموقع بين القاهرة وتل أبيب في كامب ديفيد عام 1978.
العلاقات الإسرائيلية والسورية: مراحل أساس
وفي مراجعة سريعة للعلاقة بين إسرائيل وسوريا يمكن التوقف عند مراحل أساس تبدأ منذ النكبة الفلسطينية عام 1948 حين شارك الجنود السوريون في الحرب العربية ضد إسرائيل، وقد استمرت المناوشات العسكرية الحدودية بين الطرفين حتى اندلاع حرب يونيو (حزيران) 1967 التي انتهت بخسارة الدولة السورية سيطرتها على مرتفعات الجولان لمصلحة إسرائيل، وبعدها أتت حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 التي شنت خلالها سوريا هجوماً لاستعادة الجولان وتمكنت من تحقيق اختراق ميداني موقت قبل أن تنسحب بعد أيام، وعلى إثر هذه الحرب توصل الطرفان إلى اتفاق فض اشتباك أنهى المعارك الميدانية من دون أن يحسم الصراع التاريخي بين الطرفين.
وبعدها أخذت الحرب طابعاً مختلفاً، إذ لم تعد هناك اشتباكات مباشرة إنما ما اصطلح بعضهم على تسميته "الحرب الباردة" بين الطرفين، وكانت دمشق خلالها تدعم الحركات التي تقاتل ضد إسرائيل مثل "حزب الله" في لبنان وأيضاً الفصائل الفلسطينية.
وعن هذه المرحلة تكشف الوثيقة الأميركية نفسها العائدة لعام 1989 كيف أن النظام السوري دخل في مواجهة غير مباشرة مع إسرائيل منذ اجتياح لبنان عام 1982 عبر تكتيكات عدة ولكن من دون اللجوء للحرب المباشرة، مع التنويه إلى دعم دمشق العمليات الإرهابية التي استهدفت مصالح أميركية أو شخصيات محددة في لبنان بين عامي 1982 و 1984، مثل اغتيال الرئيس اللبناني السابق بشير الجميل عام 1982 وتفجير السفارة الأميركية في بيروت عام 1983.
ويضيف النص أنه "في عام 1986 تخلت سوريا عن العمليات الاستشهادية في جنوب لبنان لمصلحة الإرهاب في أوروبا، فقد تورطت دمشق بصورة مباشرة في محاولتين لتفجير طائرات تابعة لشركة 'العال' الإسرائيلية، الأولى في مطار هيثرو بلندن في أبريل (نيسان) 1986، والثانية في يونيو بمدريد خلال العام نفسه، ونعتقد أن قرار مهاجمة طائرات 'العال' جرى اتخاذه على أعلى مستويات الحكومة السورية، وعلى رغم أننا لا نستطيع تأكيد مسؤولية الأسد الشخصية فإننا نعتقد أن هذه العمليات جرت ضمن المبادئ التي وضعها الرئيس".
الاستفادة من عامل الزمن
في تلك المرحلة كانت هناك محاولات عربية وعالمية لإيجاد حل للقضية الفلسطينية، لكن الأسد كان واثقاً من ألا خطر حقيقياً سيُجبره على التفاوض مع الإسرائيليين، كما تذكر المذكرات السرية التابعة لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، مقتنعاً أن أي تحرك نحو مؤتمر دولي سيفشل لأن القادة السياسيين الإسرائيليين لا يرغبون فعلاً في السلام، وفي الوقت نفسه فإن "عدم قدرة الولايات المتحدة على انتزاع موقف موحد من الإسرائيليين لدعم عملية السلام خفف الضغط على سوريا لتليين مواقفها أو قبول ضمانات قبل التفاوض على إعادة الأراضي المحتلة عام 1967".
كذلك رأى معدو الوثائق أن الرئيس السوري السابق حافظ الأسد على قناعة أن الزمن في صفه، وأن التوازن الإستراتيجي بين دمشق وتل أبيب سيتغير في نهاية المطاف لمصلحة سوريا، وفي اجتماع مع مسؤولين أميركيين خلال تلك المرحلة قال إن الإسرائيليين سيضطرون إلى تسريع حركتهم نحو السلام أو "سيبتلعهم العرب"، باعتبار أن عدد سكان سوريا يزداد بمعدل 500 ألف نسمة سنوياً، مضيفاً "كل ستة أعوام نمنحهم جيلاً جديداً".
وينتقل هذا الملف الأميركي إلى ذكر لقاء آخر جمع جيمي كارتر بحافظ الأسد، قال الأخير خلاله بسخرية إن "من الغريب الإصرار على حدود آمنة على أراضي الآخرين، فالإسرائيليون يقولون إنهم أخذوا الجولان لحماية مستوطناتهم، لكنهم أقاموا مستوطنات جديدة على الجولان بعضها لا يبعد أكثر من 300 متر عن أراضينا، فلماذا تكون الحدود الآمنة على بعد 50 كيلومتراً من دمشق ولكنها على بعد 350 كيلومتراً من تل أبيب؟"
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مرونة سورية مشروطة في شأن فلسطين
تكشف السفارة الأميركية في دمشق عن نظرة السلطات السورية خلال تلك المرحلة إلى القضية الفلسطينية، وهذا ما تتطرق إليه الوثائق بنصها، وفيه "تتجنب الدعاية السورية بصورة متعمدة أي صيغ محددة لقيام دولة فلسطينية، فالأسد في الحقيقة لا يحبذ فكرة الدولة الفلسطينية لأنها قد تقوض قدرته على إدارة الصراع مع إسرائيل وتضعف نفوذ سوريا الإقليمي، ولن يسمح الأسد للفلسطينيين بالتفاوض بصورة مستقلة لأنه يخشى أن يتجاهلوا المصالح السورية".
وتتوقف عند حادثة حصلت في يونيو 1988 عندما قام بسام أبو شريف، وهو المتحدث الرسمي باسم عرفات، بتوزيع وثيقة خلال القمة العربية في الجزائر تدعو إلى تسوية سياسية للصراع العربي - الإسرائيلي، مما أعاد إحياء مخاوف الأسد من أن تسوية تستبعد سوريا قد تنهي عملية السلام، وهو ما يعني حكماً اضطرار دمشق إلى استعادة الجولان من طريق الحرب.
وبعد ظهور وثيقة أبو شريف سارعت سوريا إلى تصعيد حملتها لإضعاف منظمة التحرير عسكرياً عبر تجديد هجماتها العسكرية على أنصار عرفات في العاصمة اللبنانية، وقد نتج من هذه الحملة طرد "منظمة التحرير" من معاقلها في مخيمي شاتيلا وبرج البراجنة للاجئين الفلسطينيين.
نظرة سوريا للجهود الأميركية في مساعي السلام
على رغم عدم وجود عداء مباشر بين واشنطن ودمشق لكن الأسد كان يشك في جهود السلام الأميركية داخل الشرق الأوسط، إذ يراها، وفقاً للسفارة الأميركية في دمشق، ضمن إستراتيجية تهدف إلى عزل سوريا وتطويقها عبر خطوات تدرجية تتضمن اتفاقات سلام متفرقة مع إسرائيل في المنطقة، ومنها اتفاق "كامب ديفيد" مع مصر، واتفاق الـ 17 من مايو (أيار) في لبنان (لم يجر السير فيه خلال المراحل الأخيرة عام 1984)، وتحالف الملك الأردني الحسين بن طلال مع عرفات في شأن الأردن والضفة الغربية (في يوليو 1988 أعلن الملك الأردني فك الارتباط القانوني والإداري لبلاده مع الضفة الغربية، واعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني).
وتعود الوثائق لما قبل ذلك بأعوام لتذكر ما قاله الأسد لمساعد وزير الخارجية الأميركي ريشارد مورفي خلال اجتماع عام 1986 من أن سوريا سترد عندما تتلقى مقترح سلام عادل، معتبرة أن مفهومه لـ "السلام العادل" يتضمن معرفة النتيجة النهائية قبل بدء التفاوض، وفي الوقت عينه كان الأسد على قناعة بأن النهج الأميركي سيؤدي إلى اتفاقات منفصلة تعزز التفوق العسكري الساحق لإسرائيل، ومعه ستكون سوريا بمفردها وعاجزة عن استعادة أراضيها المفقودة.
تبدل في الموقف السوري والخلفيات
كان الأسد يجاهر علناً برفضه أية صيغة تقضي بمفاوضات مباشرة مع إسرائيل، لكن في عدد مجلة "تايم" الصادر في أبريل 1987، أعلن الرئيس كارتر أنه كان مفوضاً من قبل الرئيس السوري لتأكيد دعم بلاده فكرة عقد مؤتمر دولي للسلام بمشاركة سورية، وأنه من الواضح أن كثيراً من القضايا العالقة يجب التفاوض عليها خلال محادثات مباشرة بين إسرائيل والدولة المعنية.
وعلى رغم أن كلاً من كارتر والملك حسين أشارا إلى أن الأسد وافق سراً على فكرة تشكيل لجان ثنائية داخل إطار مؤتمر السلام، لكن السفارة في دمشق أشارت إلى أن الأسد لم يكرر هذا الاستعداد أمام مسؤوليها، وعندما جرى الضغط على وزير الخارجية السوري فاروق الشرع في شأن هذه المسألة، قال إن هناك مكاناً للجان (في إشارة إلى اللجان الثنائية مع إسرائيل).
وفي نص الوثيقة الأميركية "السفارة (الأميركية في دمشق) ترى أن السوريين سيجبرون على التفاوض مباشرة، واحداً لواحد مع الإسرائيليين في شأن الجولان، وهو ما يضعهم في موقف تفاوضي ضعيف، كما أنهم سيجدون أنفسهم مستبعدين من المفاوضات حول الضفة الغربية وغزة ولبنان إذا ما توصل الأردنيون والفلسطينيون أو اللبنانيون إلى اتفاقات منفصلة مع إسرائيل، بينما لم تفعل سوريا".
وفي سياق متصل اعتبر الأميركيون حينها أن الأسد كان يخشى أن يتعرض نفوذ بلاده الإقليمي للتحدي أو حتى للإقصاء في حال عادت مصر، بعد توقيع "اتفاق كامب ديفيد" لواجهة العمل السياسي العربي، ولذلك حاول أن لا تعود القاهرة لمركز الثقل السياسي من خلال إبقاء التركيز العربي على القضية الفلسطينية، وخيانة مصر بتوقيعها اتفاق سلام منفصل.
وفي الإطار نفسه دعم المعارضين المصريين مثل حركة "ثورة مصر" التي حظيت بدعم سوري علني، وقد أبلغت السفارة الأميركية في دمشق، وفق وثائق وكالة الاستخبارات المركزية، عن محادثة مع الأسد قال فيها لمسؤولين أميركيين إنه سيكون على استعداد لدعم نظام إسلامي متشدد في القاهرة إذا كان ذلك سيؤدي إلى إلغاء اتفاق عام 1979، في إشارة إلى معاهدة السلام.
مواجهة إسرائيل في لبنان
في منتصف وأواخر ثمانينيات القرن الماضي، بقي لبنان ساحة المواجهة الرئيسة بين سوريا وإسرائيل بدلاً من الجولان، وقد سعت دمشق، وفق الوثائق الأميركية السرية، إلى توجيه طاقات الجماعات اللبنانية والفلسطينية، وبخاصة "حزب الله"، نحو مواجهة إسرائيل ووكلائها في جنوب لبنان، فيما اعتبر حال "اللاحرب واللاسلم" هذه خدمة لجهود الأسد لتعظيم نفوذ دمشق الإقليمي وتطوير ترسانته العسكرية، كما كان يريد تأجيل التفاوض مع إسرائيل لأطول فترة ممكنة، بالنظر إلى توقعاته بأن الموقع الإستراتيجي لسوريا سيتحسن.
في المقابل كانت هناك تكتيكات عالية لإفشال أية تحركات نحو السلام تهدد أو تتجاهل المصالح السورية، عبر التهديد بالتخريب والتوسع العسكري وعمليات الاغتيال لمنع جيرانه الأضعف، أي لبنان والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية، من الابتعاد من الخط السوري.
شملت التكتيكات السورية وفق ما جاء في النص "اغتيال قادة كبار في منظمة التحرير الفلسطينية وربما ياسر عرفات نفسه في حال بدا أن الفلسطينيين مستعدون للدخول في عملية سلام من دون سوريا، واغتيال قادة عرب آخرين قد يكونون مستعدين للتفاوض مع إسرائيل، مع الإشارة إلى أن سوريا على الأرجح متورطة في اغتيال بشير الجميل في لبنان، لاعتقادها بأنه وعد بعقد سلام مع تل أبيب، إضافة إلى رعاية عملية إرهابية كبرى تستهدف هدفاً إسرائيلياً تنفذها مجموعة فلسطينية أو لبنانية مدعومة من سوريا".
وفي النهاية يخلص معدو هذه الوثيقة إلى أنه حتى لو تمكن الأسد من تصفية خلافاته مع إسرائيل عبر المفاوضات فإن السلام ينطوي على جانب سلبي من وجهة نظر دمشق، فكثير من نفوذ الأسد الإقليمي ينبع من دور سوريا كمحور المواجهة الرئيس مع إسرائيل، وفي بيئة يسودها السلام فإن المكاسب السورية قد تتضاءل بصورة كبيرة، وفي بيئة "لا عدائية" لن يتمكن الأسد من منافسة مصر والعراق على النفوذ الإقليمي إلا إذا جرى انتزاع تسوية من إسرائيل تلبي الشروط السورية.
مفاوضات السلام بين إسرائيل وسوريا عبر التاريخ
لم يكشف الكثير عن مفاوضات السلام التي حصلت بين إسرائيل وسوريا خلال عقود، لكن أبرز ما تطرقت إليه التقارير والتصريحات، هو أن أولى جولات هذه المفواضات حصلت بعد حرب أكتوبر عام 1973، والتي توصل على إثرها الطرفان إلى "اتفاق فك الاشتباك" بوساطة أميركية، لكنه لم يكن اتفاق سلام بل أشبه بهدنة طويلة الأمد.
ثم أتى "مؤتمر مدريد" عام 1991 برعاية ثنائية بين أميركا وروسيا، ومشاركة سوريا ولبنان والأردن والفلسطينيين، وقد عقدت على هامشه مفاوضات ثنائية بين دمشق وتل أبيب، فيما ترأس الوفد الإسرائيلي إليه رئيس الوزراء في حينه إسحاق شامير، ومثّل الجانب السوري وزير الخارجية السابق فاروق الشرع، لكن المفاوضات لم تفض إلى نتيجة بسبب مسألة عودة مرتفعات الجولان للسيادة السورية، وبعدها انطلقت إسرائيل وسوريا عبر مفاوضات في واشنطن لصياغة وثيقة تتضمن مبادئ محادثات السلام بين البلدين، وقد أشار رئيس الوزراء آنذاك إسحاق رابين إلى استعداد إسرائيل للتخلي عن السيطرة على جزء من الجولان ضمن اتفاق سلام شامل، لكن النتيجة كانت عدم الوصول إلى أي اتفاق.
وبعد أعوام قليلة، وخلال الفترة الممتدة ما بين ديسمبر 1995 وفبراير (شباط) 1996، استضافت ولاية مريلاند الأميركية أربع جولات سرية من المفاوضات بين إسرائيل وسوريا برعاية أميركية، وخلالها جرت مناقشة إمكان إعادة الجولان في مقابل اتفاق سلام شامل، لكنها بدورها لم تصل إلى نتائج حقيقية بسبب الخلاف الدقيق على الحدود والانسحاب الكامل لإسرائيل.
ثم عقدت ما يعرف بـ "مفاوضات شبردزتاون" في نهاية التسعينيات أيضاً في أميركا وبرعاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون، لكن مسألة الانسحاب الإسرائيلي من الجولان حتى حدود يونيو 1967 بقيت نقطة خلافية كبرى، وكذلك حقوق المياه من بحيرة طبريا، وفق تقارير.
وبعد نحو 10 أعوام وتحديداً عام 2008، عقدت مفاوضات في إسطنبول برعاية تركية هذه المرة، وكانت النتيجة مشابهة لسابقاتها قبل أن تقع الحرب في سوريا، وبعدها توقفت الاتصالات الرسمية تماماً بين الدولتين وبخاصة مع تصاعد النفوذ الإيراني داخل سوريا ودخول "حزب الله" الحرب إلى جانب النظام السابق.
"تكتيكات سوريا التفاوضية"
بالعودة للوثائق الأميركية السرية، وبالتوقف عند وثيقة ثانية أعدتها أيضاً "سي آي إيه" بعنوان "تكتيكات سوريا التفاوضية"، ويعود تاريخ إعدادها لديسمبر 1974، يحاول المسؤولون الأميركيون فهم السلوك العدواني المتكرر من دمشق، ويعتبرون أن الأمر سببه جزئياً النهج السوري العام في التفاوض، ناهيك عن شعورهم بأن مصر تتمتع بميزات تفاوضية لا يملكونها، وهم يدركون تماماً رغبة الرئيس السادات في انسحاب جديد من سيناء، ويدركون ميل الإسرائيليين إلى تلبية ذلك، ويقول نص هذه الوثيقة التي أعدت قبل توقيع "اتفاق كامب ديفيد" إن "الأسد شعر بالدهشة والانزعاج من قبول السادات قرار وقف إطلاق النار الذي تبنته الأمم المتحدة في الـ 22 من أكتوبر 1973، وهو يعتقد أن مصر أضعفت الموقف التفاوضي السوري عبر إبرام 'اتفاق فك اشتباك' مع إسرائيل قبل التوصل إلى اتفاق مماثل في جبهة الجولان".
وفي قسم آخر من هذه الوثائق، وفي ما يتعلق بالاعتبارات الداخلية التي أضعفت موقف دمشق في التفاوض مع إسرائيل، فقد كان الأسد مضطراً إلى أن يتصرف بحذر أكبر من السادات لأن موقفه الداخلي ليس مستقراً تماماً، ويذكر النص أنه "على رغم أن 'حرب أكتوبر' عززت شعبية الأسد ومكانته، فإن حزب البعث الحاكم لا يتمتع بالشعبية، والأسد مضطر إلى التعامل مع الانقسامات الفئوية داخل الحزب والتي تشمل خلافات أيديولوجية، فضلاً عن التوترات الطائفية بين الغالبية السنيّة والعلويين، ولا يمكن لأي زعيم سوري أن يتجاهل القضية الفلسطينية، كما لا يمكنه أن يطالب بأقل من انسحاب كامل للقوات الإسرائيلية من الجولان".
والوضع الداخلي الهش بالنسبة إلى الأسد في تلك المرحلة تتوقف عنده وثيقة أميركية تتضمن تقييماً استخباراتياً تحمل الرقم (CIA-RDP86T00587R000100030003-3) وقد جرى إعدادها عام 1985 تحت عنوان "إسرائيل: تصورات حول سوريا"، وفيها "يرى الإسرائيليون داخل الحكومة وخارجها أن سوريا هي العدو الأكثر تصميماً لإسرائيل ويشككون في رغبتها في التوصل إلى تسوية سلام نهائية، ويعتقدون أن عداء سوريا الشديد ينبع إلى حد كبير من الطبيعة الأقلية العلويّة للنظام، والتي، بحسب وجهة النظر الإسرائيلية، تدفع النظام إلى التركيز على عدو خارجي لتبرير سيطرته، كما يعتبر الإسرائيليون تطلع سوريا إلى قيادة العالم العربي سبباً آخر لعدائها"، وتتوقع هذه المذكرة السرية المؤلفة من صفحة واحدة أن يواصل الرئيس الأسد جهوده لمنع الملك حسين من الدخول في مفاوضات مع إسرائيل، وبالتالي إحباط فرص عزل سوريا عن عملية السلام وخسارتها النفوذ في ملفي فلسطين والجولان، وتراجع دورها القيادي العربي.