ملخص
في لحظة التفاعل اليومي توجه الخوارزميات سلوك الناس ومشاعرهم، وهي التي تحدد ما يتصدر شاشتنا، ومن يتكلم، وما الذي يستحق الغضب أو الإعجاب. هذا التوجيه الخفي يجعل الرأي العام يسير في مسارات مرسومة مسبقاً، ويحول الفرد إلى تابع لمنظومة تراقب وتوجه من دون أن يأبه أو يدرك.
في القرن الـ20 كانت الدولة، أي الأرشيف الوطني والمكتبات والجامعات، هي الحارس الأول للذاكرة الجمعية، ومع تحول التواصل والمعرفة إلى فضاءات رقمية مخصخصة، انتقلت سلطة الحفظ والفرز والتظهير إلى منصات وخدمات سحابية ونظم توصية خوارزمية لا تخضع لمنطق الأرشفة العام، بل لمنطق السوق والامتثال القانوني والأخطار التشغيلية. وكان لافتاً في هذا السياق ما قامت به شركة "ميتا" عبر حذف حساب الصحافي والمصور الفلسطيني صالح الجعفراوي عن منصة "إنستغرام"، والذي قتل في غزة بتاريخ الـ12 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وكان متابعو الجعفراوي على المنصة تجاوز عددهم 3 ملايين شخص. يأتي ذلك بعدما تعرض الحساب في السابق لتعطيلات متكررة من قبل الشركة، على خلفية منشوراته التي وثقت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
يذكر أن الجعفراوي كان من أبرز الصحافيين الميدانيين الذين وثقوا بالصوت والصورة معاناة المدنيين خلال الحرب. وعمل مصوراً مستقلاً لعدد من المؤسسات الإعلامية المحلية في غزة، وبرز اسمه خلال العامين الأخيرين بفضل مقاطع الفيديو التي نشرها من الخطوط الأمامية، والتي حصدت ملايين المشاهدات على "إنستغرام".
السؤال الذي يطرح نفسه بعد هذه الحادثة من يظهر للجمهور ماذا حدث؟ ولأي جمهور؟ وتحت أي ترتيب أولوية؟ وهذا يقود إلى سؤال آخر وهو من يملك مفاتيح الذاكرة اليوم؟
تتحكم منصات التواصل ومحركات البحث في إظهار الذاكرة عبر خوارزميات الترتيب، وفي محوها الناعم، عبر سياسات الحذف أو خفض الوصول، والذاكرة هنا تقاس بالانطباعات لا بالوثائق. بالتالي فإن مزود السحابة والبنية التحتية، هو من يملك التخزين، وعقود الخدمة، ومفاتيح التشفير، ويملك القدرة على الإطفاء أو التجميد أو التسريب.
وعلى هذا فإن الدول والهيئات التنظيمية، هي ما تملك قوانين "الحق في النسيان"، أو قرارات الإزالة، أو حجب المواقع، وتصنع خرائط ذاكرة مختلفة حسب الجغرافيا السياسية، كما أن شركات الإعلانات ووسطاء البيانات، هم من يحددون قيمة الذاكرة بما تجلبه من نقرات وسلوك، فيعاد تشكيل الأرشيف على صورة الاهتمام الممول.
الذكاء الاصطناعي
تشكل تلك النماذج طبقة تفسير وتأويل فوقية، تنتج ملخصات للتاريخ تتناقلها جماهير أوسع من قراء الوثائق الأصلية، مما يخلق ذاكرة مشتقة ذات قوة انتشار هائلة. من هنا فإن مشاريع الصالح العام، أي أرشيف الإنترنت والجامعات والأرشيفات المجتمعية، تصبح كعامل توازن الضرورة، لكنها محدودة التمويل والنفوذ مقارنة بعمالقة المنصات.
كيف تكتب الخوارزميات التاريخ؟
لا يكتب التاريخ فقط بما ينشر، بل بكيفية فرزه وزمنه وتكراره، وتتحكم به أربع آليات حاسمة، الخوارزميات كمحرر غير مرئي، وما يرفع وما يخفض، وما يوصى به وما يهمل، ولكن هذا المحرر يبنى على سلوك الجمهور، فيعيد تدوير الانحيازات ويضخمها، ولكن هنا يدخل عامل المحو والتعديل، أي تعديل منشور قديم أو حذف سلسلة تغريدات، يغير الأثر القابل للاستدعاء بعد سنوات، وتتعفن الروابط وتتبدل الواجهات، وتلغى واجهات برمجة التطبيقات، فتتلاشى مع الزمن مسارات الاستدلال، وذلك يحدث عندما يصبح الرابط غير نشط أو مكسوراً ولا يعمل كما كان، أي عندما يتم نقل محتوى الموقع، أو حذفه، أو تغيير عنوانه، أو عندما يختفي موقع الويب بالكامل، والنتيجة الشائعة هي ظهور صفحة خطأ مثل 404 Not Found عند محاولة زيارة الرابط.
من هنا، فإن الزمن الخوارزمي، أو الخط الزمني لم يعد ترتيباً كرونولوجياً صافياً، فالذكريات تستعاد وفق احتمالات التفاعل، فتعاد كتابة السياقات وتشحن بالعاطفة. ويدخل الذكاء الاصطناعي على الخط عبر النصوص والصور والفيديوهات المركبة، والتي تمتلك قابلية الأرشفة والانتشار نفسهما، فتختلط الشهادة بالتصنيع، ومع تطور التزييف، يصبح إثبات الأصالة جزءاً من كتابة التاريخ لا ملحقاً توثيقياً.
من "أرشيف الأمم" إلى "ذاكرة المنصات"
في السياق قال عامر الطبش المستشار في شؤون التكنولوجيا والمعلومات والاتصالات "إن الذاكرة الرقمية فعلياً ليست بيد الأفراد، مثلما كانت سابقاً أي الذاكرة الورقية، والتي كانت تكتب بيد المؤرخين، أو التي كانت تتناقل شفهياً أو كتابياً، والتي كانت تورد المصدر والتأكيد عليه"، وتابع الطبش "اليوم الذاكرة بالمعنى الرقمي هي بيد الشركات الكبرى مثل 'غوغل' و'ميتا' و'مايكروسوفت' و'أمازون' و'أبل'. هذه الشركات هي من تكون الذاكرة الرقمية وكل من زاوية معينة، عبر جمع كم من المعلومات والأخبار والتوقعات عن توجه أصحاب الحسابات، مثلاً اليوم وعبر الذكاء الاصطناعي تستطيع منصة كـ'فيسبوك' أن تتوقع من سيترشح للانتخابات عبر العمل على مقارنة مع الماضي والحاضر والمستقبل، ومن سيصوت لهؤلاء الأشخاص، كما أن هذه الشركات هي التي تقوم بالتخزين وتتحكم بمعظم البيانات أي صورنا ومحادثاتنا وسجلاتنا وأبحاثنا، ومن المؤكد أن تلك المنصات تمتلك الذاكرة الرقمية. وتأتي بالدرجة الثانية الدول، وتقوم أيضاً على صعيد الأجهزة الأمنية هي أيضاً تقوم بجمع البيانات وحفظها، بغرض المراقبة والسيطرة والتاريخ، وداخل هذه الدول هناك مجموعات تعمل أيضاً، وبصورة رقمية، على التاريخ والتحريف البطيء للتاريخ مع الحاضر وتحريفه أيضاً وطريقة صياغته، عبر نشر الأخبار على المنصات التابعة لها، الأخبار التي تناسبها وغير الحقيقية أحياناً، بظل الصراعات والحروب والنزاعات السياسية وغيرها، بمعنى أن هناك الوجه والوجه الآخر، والفكر والفكر الآخر". وأكد الطبش أن "الخوارزميات نفسها ليست مربوطة بخزان معلومات وهي التي تقرر أو تختار ماذا سيظهر لنا على المنصات من عدمه، بمعنى أنها تتحكم بالذاكرة الجمعية والانتقائية، من هنا فإنها تظهر لنا أحياناً منشوراً كنا قد وضعناه على 'فيسبوك' منذ سنتين أو أكثر بحسب رغبتها هي. وعليه، فإن من يملك هذه الخوادم الكبيرة والذكاء الاصطناعي وخزان المعلومات وإدارة البيانات هو من يملك الذاكرة وطريقة سرد القصة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من يكتب التاريخ؟
أشار المستشار في حقل التكنولوجيا عامر الطبش إلى أنه في الماضي، "من كتب التاريخ كانوا المنتصرين أو المؤرخين، بمعنى أن المنتصرين كتبوا عن انتصاراتهم وزادوا عليها مبالغات وغيرها، بما يناسب مصالحهم، ومن كتب ذلك التاريخ كانوا الفصحاء في اللغة والكتاب، أما اليوم فالتاريخ يكتب بالمعلومات والترميز والتشفير والخوارزمية بحد ذاتها، أي بوسائل التكنولوجيا الحديثة، على سبيل المثال الخوارزميات التابعة لـ'تيك توك' و'فيسبوك' و'يوتيوب' وغيرها، هي التي تحدد ماذا سنتذكر وماذا تريد من المتابعين التذكر. من هنا هي عملياً تتحكم بذاكرتنا عبر طمس ذكريات وإحياء أخرى، أيضاً هي من تصنع الاتجاه أو النزعة، كما أن محركات البحث وفي حال لم نلجأ للذكاء الاصطناعي، هي التي تقرر نتيجة بحثنا، بمعنى أنها تستطيع اختيار الرواية والسردية التي تناسبها وتظهرها للمتابع أو تمنع الوصول إلى معلومة معينة عبر دفنها، كما أن الذكاء الاصطناعي يستطيع اليوم أن يولد نصوصاً وصوراً باستطاعتها خلق واقع رقمي بديل، وليس باستطاعة المتابع العادي التمييز بين الحقيقة والخيال، إلا إذا كان ذلك مذكوراً. بالتالي ما يكتب التاريخ اليوم هي الخوارزميات نفسها، والذكاء الاصطناعي والتعليم الآلي، وهي التي تقرر، وبحسب رأيها المعلومات التي يجب إظهارها أو إخفاؤها".
مفاهيم عملية لفهم السلطة على الذاكرة
يبرز هنا النسيان الخوارزمي، وهو ليس حذفاً صريحاً، بل تقليص الرؤية، أي تصبح الذاكرة موجودة في القبو، لكن بلا مفاتيح. كما تعمل المنصات على ما يمكن تسميته غسل الذاكرة، أي إعادة تحميل المواد عبر حسابات وسيرفرات جديدة، أو تغطيتها بسرديات بديلة ترفعها في الترتيب، فيبدو الأصل شاذاً أو غير موثوق، ويوجه شكل العرض ما يجب قراءته، وتصبح صفحة نتائج البحث أو خلاصة المنصة هي كتاب التاريخ الفعلي للمستخدمين. وفي كل مرة يعاد نشر معلومة، تفقد شيئاً من المصدر، وتختفي بيانات، ويحل الاقتباس القصير مكان الوثيقة، أضف إلى أن تحديثات النماذج والأنظمة تنتج عدم ثبات معرفي، ما يتذكره النظام اليوم قد لا يتذكره غداً.
تناقض الحق في النسيان والحق في التذكر
في عصرنا الحالي نعيش مفارقة، فضحايا التشهير والملاحقة يريدون محو أثر مُؤذٍ، في المقابل، يحتاج المجتمع إلى حفظ السجلات لأغراض المساءلة والذاكرة الجماعية. والموازنة ليست قانونية فحسب، بل سياسية وأخلاقية: فمن يقرر؟ وبأي معايير؟ وبأي شفافية؟
قال الكاتب والباحث المغربي الأكاديمي خالد حاجي إن "الراجح عندنا أن الزمن الرقمي والفضاء الافتراضي هو اليوم بصدد الإجهاز على الدور التقليدي للمؤرخ، وأن الذكاء الاصطناعي قد أصبح، من الآن فصاعداً، يتحكم في صياغة الكتابة التاريخية، وكأننا بشركات التكنولوجيا تخطو خطوات رهيبة نحو الاستحواذ على سرديات الشعوب، معلنة بذلك امتلاك التاريخ، تماماً مثلما هي الآن تعيد صياغة الفضاء العمومي لتعلن امتلاك الديمقراطية". وتابع الأكاديمي المغربي "تتربص بالكتابة التاريخية في الزمن الرقمي والفضاء الافتراضي، كما تتربص بغيرها من العلوم، خصوصاً العلوم الإنسانية، آفة كبرى، ألا وهي آفة نهاية الخبرة، بحيث أصبح يعسر التمييز بين الخطأ والصواب، أو بين الذاتي والموضوعي، في الأخبار التي يقوم عليها الوعي والحس التاريخيان. فقد انمحت خيوط الفصل بين الاحتراف والهواية في قراءة التاريخ، حتى أصبحنا أمام ظواهر غريبة، كأن يتجرأ جاريد كوري كوشنير، رجل العمال وصهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب، على تقديم الاستشارة لحل معضلة تاريخية عمرت عقوداً، ألا وهي القضية الفلسطينية، غير متردد في اقتراح صفقة القرن، مستمداً شرعيته من قراءة 25 كتاباً كما يقول، ضارباً بتاريخ المنطقة عرض الحائط، مراهناً على تلاشي الذاكرة الجماعية وخلو ذاكرة الأجيال الجديدة من كل أنواع الوعي التاريخي المشترك".
ديكتاتورية الخوارزميات والتحكم بالمستقبل والماضي والحاضر
لم تعد الخوارزميات مجرد أدوات تقنية تساعد الإنسان على التنظيم أو البحث، بل تحولت إلى سلطة غير مرئية تمارس نوعاً من الديكتاتورية الناعمة على وعينا الجماعي، وعلى طريقة فهمنا للزمن بأبعاده الثلاثة، عبر التحكم بالماضي، فالخوارزميات تختار ما تظهره وما تخفيه من أرشيفنا الرقمي، وهي التي تقرر أي حدث يستعاد وأي ذكرى تهمش، بذلك، يصبح الماضي قابلاً لإعادة الكتابة في كل لحظة، حسب أهواء المنصات أو مصالح القوى التي تديرها، ويصبح ما يعرض لنا على أنه تذكير أو ذكرى ليس بريئاً، بل انتقاء مقصود يوجه نظرتنا لما كان. أضف إلى التحكم بالحاضر، وفي لحظة التفاعل اليومي، توجه الخوارزميات سلوك الناس ومشاعرهم، وهي التي تحدد ما يتصدر شاشتنا، ومن يتكلم، وما الذي يستحق الغضب أو الإعجاب، هذا التوجيه الخفي يجعل الرأي العام يسير في مسارات مرسومة مسبقاً، ويحول الفرد إلى تابع لمنظومة تراقب وتوجه من دون أن يأبه أو يدرك. ويدخل ضمن السياق التحكم بالمستقبل، ومع كل نقرة، وكل بحث، وكل تفاعل تحوله الخوارزميات إلى توقعات وسيناريوهات، بالتالي يبنى المستقبل على بيانات الماضي وسلوك الحاضر، مما يجعل التنبؤات تتحول إلى أوامر واقعية، أي أن ما تتوقعه المنظومة يصبح هو نفسه ما تفرضه، لتغلق دائرة الحتمية الرقمية.
وبناءً عليه، نحن نعيش في عالم تدار فيه الذاكرة والاهتمام والرغبة بخوارزميات لا تخضع للمساءلة. إنها ديكتاتورية صامتة تلبس ثوب الراحة والسرعة، لكنها تسحب من الإنسان حقه في أن يتذكر بحرية، ويختار بوعي، ويتخيل مستقبله خارج حدود الشاشة. والخلاص ليس في كسر الآلة، بل في إعادة امتلاك الوعي بها، بأن نعرف كيف تعمل، وكيف تنتقي، وكيف يمكننا مقاومة الإيقاع الذي تفرضه علينا، حتى لا نصبح مجرد ظلال في ذاكرة تكتب باسم غيرنا.