ملخص
تؤكد الموازنة البريطانية الجديدة انتهاء إرث "العمالية الجديدة"، إذ اختار ستارمر رفع الضرائب وتمويل الرعاية الاجتماعية على حساب نهج بلير القائم على الطموح وتوليد الثروة. ومع تراجع القيادة أمام اعتراضات نواب الحزب، خسر العمال المسار الوحيد الذي كان يمنحهم فرصة لإعادة انتخابهم.
قبل وقت ليس ببعيد، بدا أثر حزب العمال الجديد في حكومة كير ستارمر قوياً. فقد استعانت راشيل ريفز بنصائح توني بلير وغوردون براون قبل صياغة موازنتها. وعملت بنصيحة براون، التي قدمها علناً، بإنهاء حد الطفلين في إعانات الرعاية، لكن اقتراحه بأن يُموَّل ذلك من خلال زيادة الضرائب على المقامرة تبين أنه غير واقعي. وستغطى معظم الكلفة من ضرائب أخرى.
أما نصيحة بلير فكانت سرية، بالتالي لا يمكننا إلا التخمين في شأن مضمونها. لكن ما يمكن الجزم به أن الموازنة التي حض ريفز على تقديمها ليست نفسها التي أعلنتها الأربعاء الماضي.
في الواقع، تشكل هذه الموازنة شهادة وفاة حزب العمال الجديد [التيار أو المشروع السياسي الذي قاد حزب العمال البريطاني في منتصف التسعينيات وبداية الألفية تحت قيادة توني بلير وغوردون براون]. على رغم وجود بليريين في مواقع رئيسة على مختلف مستويات الحكومة، كحراس لإمبراطورية في المنفى، إلا أن المحرك الأساس لرئيس وزراء من طراز بلير غائب. ذكرت ريفز في بيان الموازنة بالاسم [الأمين العام السابق لوزارة المالية] ألان ميلبورن، كما أن جوناثان باول هو وزير الخارجية الفعلي، ويعد مورغان ماكسويني، كبير موظفي رئاسة الوزراء، بليرياً بلمسة من التيار العمالي الأزرق [المحافظ اجتماعياً] (فهو من أدار حملة ليز كيندال لتولي زعامة الحزب قبل عقد من الزمن). لكن ستارمر ليس بليرياً.
إذا كانت ريفز تشبه غوردون براون في دورها كوزيرة للخزانة، فإن ستارمر يشبه براون في دوره كرئيس للوزراء. ستارمر يريد أن يكون مثل توني بلير، لأنه يعرف أن التركيز المستمر على الناخب الوسطي هو الطريق للفوز بولاية ثانية، لكن هذا الأسلوب في العمل السياسي لا ينسجم مع شخصيته.
ولو كان براون وزيراً للخزانة اليوم، ربما كان سيضع موازنة شبيهة بموازنة هذا الأسبوع: رفع الضرائب لتمويل زيادة الإنفاق على الرعاية الاجتماعية. لكن بلير، لو كان رئيساً للوزراء، كان سيمنعه من ذلك. وحتى براون نفسه ربما كان سيتردد في ليس فقط خرق وعد انتخابي، بل أيضاً في رفع ضريبة قال قبل عام واحد إنه لن يرفعها - وهذا بالضبط ما فعلته ريفز عندما مددت تجميد حدود شرائح ضريبة الدخل.
المرة الوحيدة التي رفع فيها براون الضرائب على الشريحة الواسعة من دافعي الضرائب كانت عندما زاد مساهمات التأمين الوطني لتمويل هيئة الخدمات الصحية NHS عام 2002. وعمل هو وبلير على تهيئة الرأي العام لذلك بعناية وبنجاح. ولا تزال تلك الخطوة المثال الأوضح على زيادة ضريبية حظيت بقبول جماهيري - وإن كان ذلك خلال وقت كان فيه الاقتصاد يحقق نمواً قوياً.
كان ذلك مثالاً على كيفية عمل "العمالية الجديدة": الجمع بين الانضباط المالي وتحسين الخدمات العامة، مع تعزيز الطموح وخلق الثروة.
حققت ريفز جانب الانضباط المالي العام (رحبت أسواق السندات بالموازنة لأن زيادة الضرائب تعطي صدقية لتصميمها على السيطرة على الدين). لكن بقية برنامج حزب العمال الجديد غائبة.
أهم ما غاب هو رسالة "الطموح" التي كانت محورية في مشروع العمال الجديد. رسالة تقول إن حزب العمال، حين يتطلع إلى المستقبل، يفهم الناس الذين يريدون تحسين أوضاعهم، ويخوضون الأخطار لخلق الثروة، ويريدون إدارة أعمال ناجحة. ليس فقط يفهمهم، بل يؤيدهم ويحتفي بهم ويريد لهم النجاح.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"العمالية الجديدة" ما كانت يوماً لتفرض ضرائب على الأهالي الذين يرسلون أبناءهم إلى مدارس خاصة، ولا على المسجلين ضريبياً بوصفهم غير مقيمين (ربما كان سيفرض ضرائب على المزارعين، فرابطة الريف كانت من أوائل الجهات التي خرجت من تحت المظلة الواسعة التي حاولت "العمالية الجديدة" استيعاب الجميع داخلها). لكنها أيضاً كانت ستعطي الأولوية لبنود إنفاق مختلفة. فلم تكن، على عكس الصورة الكاريكاتيرية، آلة بلا قلب تسحق وجوه الفقراء. فبلير هو، في نهاية المطاف، من وضع الهدف الطوباوي المتمثل في القضاء على فقر الأطفال. غير أنه ربما كان سيعالج المسألة بطريقة مختلفة.
كان لافتاً سماع [عضو مجلس اللوردات] ديفيد بلانكت – وهو من صلب حزب العمال الجديد – عبر "بي بي سي" صباح الخميس، وهو يحاول قدر الإمكان التزام خط الحزب، لكنه مع ذلك لم يستطع تأييد إلغاء حد الطفلين في الإعانات بالكامل. إذ قال إنه سيلغيه فقط في حال كان الطفل من ذوي الحاجات الخاصة أو حالات الوفاة، لكنه سيستخدم بقية الأموال لإعادة بناء مراكز "شور ستارت" لخدمات الطفولة المبكرة، باعتبارها وسيلة أكثر فاعلية لمكافحة فقر الأطفال.
ولا يمكن تصور أن "العمالية الجديدة" كانت ستلجأ إلى رفع الضرائب لتمويل فاتورة إعانات الإعاقة التي تتضخم بمعدل يفوق الاتجاهات الفعلية في الأمراض المزمنة.
فجوهر مشروع "العمالية الجديدة" كان يقوم على الجمع بين توليد الثروة والتحلي بالتعاطف، انطلاقاً من أن الأولى هي التي تمول الثانية. وكان المشروع يتمحور حول إخراج الناس من نظام الإعانات ودفعهم إلى سوق العمل.
لكن عند أول بادرة اعتراض من نواب حزب العمال على إصلاحات الرعاية الاجتماعية، تراجع ستارمر وريفز سريعاً. وقدمت ريفز هذا الأسبوع الثمن السياسي لتلك اللحظة من "الجبن العمالي القديم". فالمسار الذي رسمته "العمالية الجديدة" كان السبيل الوحيد أمام هذه الحكومة لامتلاك فرصة لإعادة انتخابها - لكن ذلك المسار انتهى الآن.
© The Independent