ملخص
الهدنة في غزة ليست سلاماً، بل إدارة أكثر كفاءة للاحتلال والإبادة، حيث يطلب من الضحايا التنازل عن حقوقهم، بينما يمنح الجناة الشرعية، في ظل نظام عالمي يكرس الإفلات من العقاب ويعيد تغليف القمع باسم الاستقرار.
ما إن سمعت الثلاثاء الماضي أن بنيامين نتنياهو أمر جيشه "بشن ضربات قوية على غزة فوراً"، حتى انتابني خوف مألوف. تساءلت عما يعنيه ذلك - هل انتهى ما يسمى وقف إطلاق النار؟ هل تنتظر غزة ليلة أخرى من القتل الجماعي؟ اعتصرني القلق وأنا أتخيل المشاهد التي قد تلي ذلك: مبان مهدمة، جثث أطفال تنتشل من تحت الأنقاض، ورسائل مرعوبة من أقارب يبحثون عن أحبائهم.
بالنسبة إليّ، هذا الخوف ليس نظرياً. فقد دمر منزل عائلتي في غزة قبل أشهر، إلى جانب منازل إخوتي، وفقدت كلاً من ابنة أخي وابن أخي وجدتي في هذه المذبحة المستمرة. لذلك أعرف تماماً ما يعنيه أن تتساقط القنابل من جديد. هذه ليست عناوين في نشرة أخبار، بل ذكريات تتجدد كلما سمعت كلمة "غارة".
كانت التقارير الأولية غير واضحة، لكن مع صباح اليوم التالي تبين حجم الهجوم المروع: قتلت إسرائيل 104 فلسطينيين في ليلة واحدة، بينهم كثير من الأطفال، في أعنف هجوم منذ بدء تنفيذ وقف إطلاق النار. وفي الأسابيع التي سبقته، قتلت القوات الإسرائيلية نحو 100 شخص آخر، بينما لا يزال العالم يسميه "هدنة". حين أقرأ هذه الأرقام، لا أراها إحصاءات، بل وجوهاً مألوفة، وأصواتاً ربما نشأت معها، وملامح تشبه أبناء إخوتي وأخواتي.
من لندن، أتابع هذا النمط يتكرر مراراً، بينما يكتفي العالم بإحصاء أعداد القتلى الفلسطينيين بلغة "ضبط النفس" و"الدفاع عن النفس" المبتذلة. المسافة لا تخفف الألم، بل تزيد شعور العجز. فالإبادة الجماعية تتواصل، والجناة يتحدثون بلغة السلام، ويدعون إلى التفاوض كما لو كانوا شركاء لا مجرمين. والعالم يسايرهم في ذلك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من هنا، يبدو أي حديث عن "خطط سلام" أو "مفاوضات" فارغاً من المعنى. فالإبادة لا تنتهي بالحوار مع مرتكبيها، بل بمحاسبتهم. وحتى يحدث ذلك، تبقى كل هدنة مجرد استراحة بين مجزرة وأخرى.
ثمة حقيقة قاسية يرفض العالم مواجهتها: الإبادة الجماعية لا تنتهي بموافقة الجناة على وقف موقت للقتل، ولا بإجبار الضحايا على التنازل، بل بمحاسبة المجرمين وتجريدهم من الحصانة. وأي شيء أقل من ذلك ليس سوى دبلوماسية تبقي العنف مستمراً تحت مسمى مختلف.
في ظل هذه المعادلة، يصبح الجلوس إلى طاولة التفاوض مفارقة غريبة. يتوقع من الضحايا المطالبة بحقهم في الحياة، بينما يفرض الجاني شروطه، ويكتسب الشرعية بمجرد جلوسه على الطاولة. يسمي العالم هذا تفاوضاً، أما الفلسطينيون فيرونه إكراهاً.
ويزعم البعض أن المبادرات الجديدة، مثل "خطة السلام" التي طرحها دونالد ترمب، تفتح طريقاً للمضي قدماً، لكن هذه المقترحات تقوم على مبدأ ثابت: أن إفلات إسرائيل من العقاب غير قابل للمساس. فهي لا تطالب بالمساءلة، ولا تضع حداً لسرقة الأراضي أو التطهير العرقي، بل تعيد تغليف الهيمنة باسم "الاستقرار" والاحتلال باسم "الأمن".
في هذه الأطر، لا ينال الفلسطينيون سوى وعود مشروطة بدلاً من الحقوق، واستقلال إداري بدلاً من السيادة، وحوافز اقتصادية بدلاً من الحرية. والنتيجة ليست إنهاء الاحتلال، بل تحسين إدارته.
وفي الوقت نفسه يتواصل التطهير العرقي في الضفة الغربية على مرأى من الجميع: مستوطنات تتوسع، وأراضٍ تصادر، وفلسطينيون يهجرون أو يقتلون على أيدي جنود ومستوطنين مسلحين من دون خوف من العقاب. ومع ذلك تقدم هذه الجرائم في أجندة السلام على أنها "قضايا قابلة للتفاوض"، لكنها ليست كذلك، إنها جرائم مكتملة الأركان.
لا سلام دائماً يبنى على الظلم، ولا استقرار في ظل نظام يفرض على شعب بأسره العيش بلا حقوق متساوية. القانون الدولي واضح: لا يمكن معالجة الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية باتفاقات تبقي سلطة الجناة. الإفلات من العقاب لا يصنع السلام، بل يكرس تكرار الجرائم.
لقد سمح المجتمع الدولي بوصول الأمور إلى هذا الحد. الدول القوية تواصل توريد الأسلحة، والحلفاء يمنحون الغطاء السياسي، والإعلام يصور الإبادة كـ"صراع" بين طرفين متكافئين. حتى المساعدات الإنسانية تستخدم كأداة للحفاظ على الوضع الراهن ومنع الانهيار لفترة كافية لاستمرار نظام الهيمنة.
والنتيجة، نظام عالمي يمنح إسرائيل حق ارتكاب الفظائع، بينما تدعي في الوقت نفسه الشرعية الأخلاقية. كل عمل عنف يبرر كضرورة، وكل موت فلسطيني يخفى تحت غطاء الجغرافيا السياسية، فيما تبقى الآليات التي تتيح استمرار القتل كما هي.
إن إنهاء الإبادة الجماعية يتطلب ما هو أكثر من الاحتجاج. يتطلب تفكيك النظام الذي ينتج القتل، ومساءلة الجناة أمام المحاكم الدولية، وفرض عقوبات على من يزودونهم بالسلاح ويمنحونهم الحماية السياسية. ويتطلب قبل ذلك الاعتراف بالفلسطينيين كبشر كاملين لا كرعايا يمكن التنازل عن حقوقهم بالتفاوض.
إذا استندت المفاوضات إلى عدم المساواة، فنتيجتها القمع. وإذا عززت التهجير، فهي استعمار. وإذا بنيت على الإفلات من العقاب، فهي استمرار للإبادة.
حتى الآن، يطلب من الفلسطينيين التنازل عن الحرية مقابل البقاء، والصمت مقابل هدوء موقت، وكأن العدالة خيار لا ضرورة. هذا النهج فشل طوال 76 عاماً، وحان الوقت لإنهائه.
فالسلام ليس وثيقة توقع تحت القصف، بل هو العدالة والمساءلة. السلام يعني وضع حد لقدرة الجاني على مواصلة جريمته. من دون ذلك، فإن كل وقف لإطلاق النار ليس إلا تمهيداً للمجزرة التالية.
إن الإبادة والاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي ليسا أفعالاً معزولة، بل نتاج نظام تواطؤ عالمي. فبدعمها الدبلوماسي والعسكري والاقتصادي، وبما تسميه "دعماً إنسانياً"، سمحت دول عديدة لإسرائيل بمواصلة جرائمها بلا رادع. لا يمنح القانون الدولي ترف التأجيل أو التجاهل. وعلى الدول أن تتحرك، وعلى الشعوب أن تفرض العدالة على الأرض.
© The Independent