ملخص
في ضوء حرب غزة، يتعاظم على إسرائيل عسر التذرع بالمحرقة، وبما نزل باليهود، إلى تسويغ فعلها ما تشاء، من غير احتساب القانون الدولي، ومآخذ الدول الأخرى وتحفظاتها
بعد انقضاء شهر على السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، نشرت "نيويورك تايمز"، قسم الآراء، مقالة لمؤرخ الإبادة أومير (عمير) بارتوف خلص فيها المؤرخ إلى "أن لا دليل، الآن، على حصول إبادة في غزة". وفي الـ15 من يوليو (تموز) الجاري، نشرت مقالة له أثارت جدلاً كبيراً واستقطاباً وسط الجمهور بين مؤيد ورافض -تناولها موقع "اندبندنت عربية" بالتلخيص في مقالة عنوانها مؤرخ "الهولوكوست" ينظر لحرب غزة بعين أخرى- مما حمل الصحيفة الأميركية إلى إجراء مقابلة واسعة معه تنشر "اندبندنت عربية" نظراً إلى أهميتها أبرز ما ورد فيها.
ويتناول ما حمله على تغيير رأيه بعد مقالة أولى أو سابقة، فهو دق ناقوس الخطر في المقال السابق وكان لسان حاله "ما لم يتول أحد التصدي للجيش الإسرائيلي وتقييده أو وضع حد له"، فلا يؤمن الإنزلاق إلى إبادة فعلية. وعليه، فالمقالة كانت إنذاراً. ورأى حينها أن إدارة بايدن لو قالت لنتنياهو، خلال نوفمبر (تشرين الثاني) أو ديسمبر (كانون الأول) 2023، إن "لديها فرصة لا تتعدى الأسبوعين، عليها في أثنائهما إما الحسم أو تترك لتتدبر أمرها من غير مساعدة ولا مساندة، لو قالت هذا لاضطر نتنياهو إلى الصدوع، ولأوقف الحرب، ولما دار الجدل حول حصول إبادة في غزة".
نية الإبادة قولاً
وسلط بارتوف الضوء خلال نوفمبر 2023 الضوء على شواهد اقتطفها من أقوال عدد من قادة إسرائيليين، سياسيين وعسكريين، لا تخلو ظاهراً من الدعوة إلى الإبادة. وكان في الوسع القول، آنذاك، إن هذه التصريحات قيلت في الظرف المحموم الذي أعقب مقتل 800 مدني إسرائيلي عن يد "حماس" ومقاتليها. ولكنه اليوم يرى أن فحص عمليات الجيش الإسرائيلي من قرب، يظهر أن "العمليات صورة عن الأقوال، وحرصت على تنفيذ ما دعت الأقوال إلى فعله رداً على المجزرة: يجب محو غزة، ليس في غزة بريء واحد من المجزرة، إنهم حيوانات بشرية، لا يحق لهم أن يحصلوا على ماء أو طعام". ولا ريب في أن هذه الأقوال تردد أصداء نهج يسعى في ارتكاب إبادة، وتدعو القوات العاملة في غزة إلى العنف، وذلك على ألسنة القادة السياسيين والعسكريين المباشرين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فخلص المؤرخ الإسرائيلي الذائع الصيت في مايو (أيار) 2024 إلى أن الجيش الإسرائيلي ليس متورطاً فحسب في محاولة تدمير "حماس" وتحرير الرهائن، بل إنه منخرط في عملية جارية ترمي إلى تدمير غزة على نحو يحيلها أرضاً يباباً، لا تصلح للسكن أو العيش ولو على أنقاض منازلها، ويستحيل لاحقاً على أهلها تجديد هويتهم، وقوام جماعتهم، في حال توقف المعارك، على ما نأمل.
الإبادة جريمة مختلفة
وعليه، وفي ضوء ما تقدم، يستعيد المؤرخ مفهوم الإبادة ويشدد على أنها جريمة تختلف عن الجرائم الأخرى. ويعود صوغ مفهومها، في أثناء الحرب العالمية، إلى محام يهودي بولندي يدعى رافاييل ليمكين. وشرع ليمكين في التفكير في الإبادة، خلال أوائل عشر 1930. وهرب من بولندا بعد اغتيال أسرته. وكانت إبادة أرمن تركيا السلطنة العثمانية عام 1915، الحادثة الأولى التي دعت الحقوقيين والمؤرخين إلى دراسة الإبادة، وخصوصيتها التي تقضي بقتل الجماعة وتدمير قوامها من طريق قتل الأشخاص وصولاً إلى القضاء على صفتهم الجماعية. وسافر ليمكين إلى الولايات المتحدة حيث حط رحاله ونشر كتاباً عام 1944، خص الإبادة وتعريفها بفصل منه. وتبنت الأمم المتحدة هذا التعريف، مع عدد من التعديلات عام 1948. ودخل حيز التنفيذ القضائي عام 1951. ويلحظ التعريف قتل الناس والعمل على جعل عيشهم مستحيلاً أو على إيجاب ظروف تؤدي إلى جعل بقائهم على قيد الحياة مستحيلاً، ولا يتطاول هذا إلى بقائهم الفردي، بل إلى كيانهم الإثني أو القومي والديني. فالهدف هو استئصال الجماعة بما هي جماعة (أو هذه الجماعة).
الإبادة فعلاً
ويقدم بارتوف شرحاً مفصلاً عن جريمة الإبادة ونشأة تعريفها. ويشدد على أن إدانة بلد أو فرد بجريمة الإبادة يترتب عليها البرهان على نية إنزالها بشعب ما، أو إرادتها. ويرجح كفة النية على كفة العدد في إثباتها. ويقول إن ثمة من يزعم أن قتل إسرائيل مليون غزِّي يثبت عليها الإبادة، أما قتل 50 ألفاً أو 60 أو 100 ألف فلا يستوفي شرط الإثبات. وينبه إلى أن إثبات النية كاف إذا كان الهدف هو تدمير الجماعة بما هي جماعة، بواسطة العنف، والحرمان من الطعام ومن فرص النجاة في حق الأطفال والجيل التالي، وبواسطة تدمير المؤسسات الثقافية والتربوية والصحية. فهذه قرينة واضحة على نية ارتكاب إبادة في حق الجماعة، واستئصالها، كلها أو بعضها. ويرى بارتوف أن لا ريب في أن إسرائيل تشن حرباً على الفلسطينيين. وهدف حكومة نتنياهو هو حرمان الفلسطينيين من كل حق في تقرير مصيرهم، ومن كل قدرة على مقاومة القهر والاحتلال.
ويذهب إل أن القول إن إطلاق "حماس" سراح الرهائن قمين بوقف الحرب يصدر عن دعاية إسرائيلية. ويشدد على أن ما يريده نتنياهو هو النصر المطلق، ويعني السيطرة الكاملة على غزة. وقد تحول حياة الرهائن دون بسط هذه السيطرة وبلوغها كل موضع من القطاع.
ويشير إلى أن ثمة من يقارن غزة بقصف سلاح الجو البريطاني والأميركي المدنيين في الحرب العالمية الثانية. فقد قتل هذا القصف 600 ألف مدني ألماني. وهو جريمة حرب وليس إبادة. وهو جريمة حرب لأن الأميركيين حين احتلوا ألمانيا، لم يقتلوا الألمان كلهم. ولم يقولوا إن وجود ألمانيا طوي إلى الأبد. بل عرضوا على ألمانيا مشروع مارشال، وأرادوا بناء مجتمع ألماني قادر على التماسك، وعلى مقاومة الشيوعية. والمعجزة الاقتصادية الألمانية تدين بإنجازها إلى مشروع مارشال، والمبادرة الأميركية. ولا شبيه لهذا في ما تقوله إسرائيل أو تفعله.
فساد الاحتلال
ويروي عن تجربته في الخدمة في الجيش الإسرائيلي، ويخلص منها إلى أن المرء حين "يحتل شعباً آخر ينتابه شعور حاد بأنه يتطفل على من يحتلهم، ويحل عليهم ضيفاً ثقيلاً وغير مرغوب فيه. ويسود الطرفين شعور متبادل بالتهديد. والمحتل الذي يجوب البلد في دورية مسلحة يرى أهل البلد وراء زجاج نوافذهم، كثر، ولا يعلم ما الأفكار التي يبيتونها، ولا ما قد يفعلون فجأة. ويقود الاحتلال إلى نزع الصفة الإنسانية عن المحتل، وعن الأهالي".
ويمضي في سرد تجربته الشخصية قائلاً : "إن المجتمع الإسرائيلي الذي عرفته وخبرته قبل احتلال 1967، ومجتمع إسرائيل اليوم بعد الاحتلال، مختلفان جوهرياً. فالاحتلال أفسد إسرائيل فساداً عميقاً. وما يستوقف في ما يذهب إليه بارتوف هو التنبيه إلى أن الجيش الإسرائيلي اختلف عما كانه. ويعزو الاختلاف إلى الاحتلال، ودوره في نزع الصفة الإنسانية عن جهتيه. ويتساءل:" ماذا يفعل الجندي المحتل على الحواجز؟ يتولى الاحتلال. وكيف يتولى الاحتلال؟ يظهر أنه الآمر الناهي. وكيف يظهر أنه الآمر الناهي؟ يقتحم عنوة منازل الأهل، ويحطم الأبواب، خلال الرابعة صباحاً، ويجر المسنين النيام من فراشهم، ويحطم ألعاب الأطفال. هذا ما يفعله الاحتلال".
أخلاق الآمر الناهي
ويشير بارتوف إلى أن نزع الصفة الإنسانية عن الآخر مقدمة لارتكاب الإبادة. ومن القرائن التي تمهد للمحتل الشروع بالإبادة هي نعت جماعة بنعوت تنزع عنها الصفة الإنسانية العمومية، وتخصصها برذائل تفقدها حقوق البشر العامة. ويسوق مثلاً على هذا الخطاب فيقال على سبيل المثل: "كلهم لصوص"، أو "كلهم صراصير"، أو "هم حيوانات بشرية". وهذا الخطاب لا يعني أن إبادة ستتبعه لا محالة. ولكن يلاحظ أنه انتشر في إسرائيل على مر الزمن. وينبه إلى أن معظم الإسرائيليين -وليس اليمين فحسب- لا يحسبون أن للفلسطينيين حقوقاً مساوية لحقوقهم، وينبغي الإقرار لهم بالكرامة والمساواة اللتين يطالب فيها الإسرائيليون لأنفسهم.
ويقول أن عامة الإسرائيليين اعتادوا الاحتلال. واعتيادهم من أسباب صدمتهم خلال السابع من أكتوبر.ويصور ما جرى على هذا النحو: "فجأة خرج هؤلاء الناس من القفص [خرجوا عن طور الاحتلال] وهاجموا الاسرائيليين. وكان هؤلاء، اعتادوا على رؤيتهم في القفص، أي في الجهة الأخرى من الحاجز الذي يفصلهم عنهم. ويتولى جنودنا، على هذا الحاجز، حراستنا منهم".
ومن أبرز خلاصات بارتوف مفادها أن إسرائيل في ضوء حرب غزة، صار عليها عسيراً التذرع بالمحرقة، وبما "نزل باليهود، إلى تسويغ فعلها ما تشاء، من غير احتساب فروض القانون الدولي، ومآخذ الدول الأخرى وتحفظاتها، وتبرير انتهاكاتها بدفاعها عن مجرد وجودها برفع الصوت بالقول "أنظروا ما فعلوا بنا في أوشفيتز". فالدولة العبرية لم يعد في وسعها الاتكاء على الرأس المال الأخلاقي المستمد من النجاة من المحرقة.
ولكن بارتوف يقول أن ثمة أمل يلوح في الأفق فـ"يتحرر الإسرائيليون من قفص الاحتلال وفساده، ويبنون مجتمعاً مختلفاً، على ما صنعت ألمانيا غداة هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، وجنوب أفريقيا غداة انهيار التمييز العنصري تحت وطأة العقوبات". ولكنه على رغم التفاؤل يقول أن التوقع الأقرب إلى الواقع هو تحول إسرائيل إلى دولة تمييز عرقي متسلطة. ومثل هذه الدول لا يشيخ ولا يعمر طويلاً. وفصول المجاعة تكر سبحتها ويتعاظم عدد القتلى يوماً بعد يوم. وبناء على ما تقدم في مقالة بارتوف في الإمكان استنتاج أن ما تنزله إسرائيل بالفلسطينيين يصيبها كذلك بمقتل.