Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الكتابة في زمن الذكاء الاصطناعي

الكاتب اليوم أمام مفترق طرق: إما أن يظل حبيس فكرة القلم والذاكرة فيرفض التغيير أو يتصالح مع التقنية

الكاتب الفرنسي أنتوني باسيرون على هامش مهرجان "المراسلات" الأدبي الـ27 في مانوسك، فرنسا، 27 سبتمبر 2025 (أ ف ب)

ملخص

الكتابة التي كانت دائماً مرآة الوعي الإنساني، تواجه اليوم تحدياً جوهرياً في زمنٍ يتقاطع فيه النص البشري مع النص الاصطناعي، لم يعد السؤال هل يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يكتب؟ بل كيف نكتب نحن في عصرٍ تكتب فيه الخوارزميات؟

قبل أعوام قليلة فقط، كنا نحفظ أرقام الهواتف والعناوين ونعد ذلك دليلاً على قوة الذاكرة، وربما على مكانة الشخص في حياتنا، حتى جاءت الهواتف الذكية فأعفتنا من هذه المهمة، ولم نعد نرى أي جدوى أو معنى لحفظ رقم يمكن استدعاؤه بلمسة واحدة، لأن المهمة انتقلت من الذاكرة إلى التقنية/ الهواتف الذكية، وانتفت الحاجة إلى إشغال الذاكرة بها.

اليوم يتكرر المشهد بصورة أعمق مع الذكاء الاصطناعي الذي لا يختصر جهداً بسيطاً كالاستعلام أو البحث، بل يشارك في عمليات ذهنية أعقد تراوح ما بين الكتابة والنقد والتحليل وتنظيم الأفكار، والفارق الحاسم هنا يكمن في قدرة المستخدم على توظيف أدوات الذكاء الاصطناعي للقيام بهذه العمليات نيابة عنه، وهنا تتضح الفجوة بين من يستخدم هذه التقنيات استهلاكاً، ومن يستخدمها إنتاجاً وتطويراً، فالأول يكتفي بما تقدمه له الأداة، بينما الثاني يجعل الأداة امتداداً لوعيه وعمق رؤيته.

من هذا المنطلق فإن مستقبل الكتابة، كما هو مستقبل المعرفة عموماً، لن يكون لمن يخشى الذكاء الاصطناعي أو يتوجس منه، بل لمن يفهمه ويُحسن توجيهه ويستثمره لتطوير ملكة الكتابة لديه، ويمكن تشبيه هذا التحول بما قد يحدث لو تمكّن العلماء يوماً من تخزين المعلومات في الذاكرة عبر شرائح تُزرع في الدماغ، فلو استطعنا مثلاً تخزين أو حفظ القرآن الكريم كاملاً في ذاكرتنا المزروعة، فإن الجهد سيتحول إلى ما هو أعمق: التجويد، والترتيل والتدبر.

فانتقال مهمة "الحفظ" من الإنسان إلى الأداة/الشريحة يعني تحرير العقل ليمارس مستويات أعلى من الفهم والتحليل والأداء، وهكذا تماماً يفعل الذكاء الاصطناعي في الكتابة، فهو لا يلغي الكاتب وإنما يحرّره من الطبقات الأولى من الجهد، ليتفرغ لجوهر الفكرة وعمق المعنى ودقة التعبير. ومن هنا تأتي فكرة هذه المقالة، التي لا تناقش الذكاء الاصطناعي بوصفه "أداة كتابة" فقط بل وتحولاً في مفهوم الكتابة نفسها، انتقالاً من الكتابة كفعل لغة، إلى كونها فعلاً فكرياً عميقاً.

 

لم يتوقف الإنسان يوماً عن محاولاته لتسهيل المعرفة وتسريع إنتاجها ونشرها، لكن ما نعيشه اليوم مع الذكاء الاصطناعي ليس مجرد تطوير للأدوات أو تسهيل للمهمات كما كنا نعتقد في البداية، وإنما ولادةُ عهد جديد للكتابة.

فبعدما كانت الكلمة هي البداية، صار اليوم السؤال هو المنطلق، وأصبحت الكتابة فعلاً فكرياً أكثر منها مهارة لغوية وكتابية، حيث نقف على أعتاب عصر تُقاس فيه موهبة الكاتب بقدرته على توجيه التقنية لتدعم الفكرة وجوهر الرسالة، وتُعفيه من عبثية المحاولات المتكررة والمقدمات التمهيدية والتعريفات والمسلمات والهوامش.

الكتابة التي كانت دائماً مرآة الوعي الإنساني، تواجه اليوم تحدياً جوهرياً في زمنٍ يتقاطع فيه النص البشري مع النص الاصطناعي، لم يعد السؤال هل يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يكتب؟ بل كيف نكتب نحن في عصرٍ تكتب فيه الخوارزميات؟ والجواب يكمن في بحث التصالح مع هذا التحول، والإيمان بأن الذكاء الاصطناعي ما هو إلا أداة تعكس مستوى وعي الكاتب ومدى قدرته على تقديم فكرته.

لقد غير الذكاء الاصطناعي خريطة الكتابة جذرياً، فبينما كان الكاتب سابقاً يحفر فكرته وينميها ويقويها على الورق بإصرار وبطء، ويمهد لفكرته بمقدمات تستهلك من وقته وجهده أضعاف جهد الفكرة نفسها، صار اليوم قادراً على توليد آلاف الكلمات خلال لحظات، والتفرغ تماماً لجوهر الرسالة والفكرة، فالكاتب سابقاً كان يبدأ من الورقة البيضاء، أما اليوم فيبدأ من نافذة الذكاء الاصطناعي، والفرق بينهما هو أن الأول يسعى إلى التمهيد للفكرة بعد تكرار المحاولات وعناء المقدمات، بينما الثاني يسعى إلى توجيه أداة تستخلصها له من بحر لا ينتهي من البيانات، ليلج في نهاية الأمر إلى لب الفكرة وتفاصيلها، وكلاهما هنا يبحث عن الفكرة، غير أن أدوات الصيد تطورت، وبدل أن يمسك الكاتب بشبكة اللغة فقط، أصبح اليوم يمسك بخيوط التقنية والموهبة معاً، حتى تحولت الكتابة من فعل لغوي صرفٍ إلى فعل هندسي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

فالإبداع في زمن الذكاء الاصطناعي متاح لمن يعرف كيف يطرح السؤال بدقة وذكاء، لأن "هندسة السؤال" أصبحت فناً جديداً يضاف إلى فنون الكتابة، فكل أمر يوجَّه للأداة يولد نصاً، لكن الفرق أن جودة النص تحددها دقة توجيه الأداة وعمق السؤال وبراعة الكاتب في تحرير المنتج النهائي، وكما أن الصحافي المتمكن يُنتج سبقاً من خلال سؤاله الذكي، كذلك الكاتب المعاصر يصنع نصه من خلال قدرته على توجيه الخوارزمية لتفكر كما يريد.

ومع هذا الانفتاح الهائل أصبح حضور الإنسان/الكاتب أكثر عمقاً وأهمية في توجيه الفكرة النهائية وتحريرها من سطحية الأداة، وتبدلت معايير الكفاءة من القدرة على الأداء/الكتابة إلى القدرة على توظيف التقنية لأداء المهمة، ليصبح الكاتب الماهر هو من يعرف حدود الأداة وإمكاناتها فيستغلها قبل أن تستغله، ومن يظن أن التقنية هنا تهدد الموهبة، لم يدرك بعد أن الذكاء الاصطناعي حرر الكاتب من أعباء الهوامش، وأعاده إلى جوهر مهمته الأولى: التفكير والتأمل والتحليل، ليبدأ من حيث تنتهي الأداة، من عمق الفكرة.

لقد امتد تأثير الذكاء الاصطناعي إلى سوق الكتابة نفسها، فغيّر موازين المهنة وأساليب إنتاج المحتوى في الصحافة والإعلام والمؤسسات الثقافية، فالوظائف التي كانت تعتمد على مهارات التحرير التقليدية أصبحت اليوم تتطلب وعياً رقمياً وقدرة على التعامل مع أدوات التوليد الآلي للنصوص والصور والتحقق منها، وأصبح المحرر الصحافي مطالباً بفهم آلية عمل الخوارزميات التي تجمع وتعيد تقديم المعلومات، وتطويعها لمصلحة رسالته/مهنته.

هذا التحول أعاد تعريف مهنة الصحافي أو الكاتب، إذ صار الإبداع المهني يُقاس اليوم بقدرة الكاتب على صياغة الأسئلة الذكية، وتوجيه التقنية لخدمة الفكرة، وتوليد محتوى يوازن بين السرعة والدقة والعمق، وهنا يتكشف جوهر المهنة الجديد: أن تكون أكثر وعياً بالتقنية، وأكثر تمسكاً بروح الكاتب وفكرته في النص.

الكاتب اليوم أمام مفترق طرق: إما أن يظل حبيساً لفكرة القلم والذاكرة بوصفها أدوات وحيدة للكتابة فيرفض التغيير، أو أن يتصالح مع التقنية، ويؤمن بأن الذكاء الاصطناعي فرصة لإحياء جوهر الإبداع الإنساني في زمنٍ تراجع فيه الكيف أمام غزارة الكم. لأن أخطر ما يمكن أن يحدث هو أن يُختزل الإبداع في سطحية نتائج الخوارزميات، وأن يتحول النص إلى منتج بلا روح.

 

لذلك تبقى المهمة الكبرى للكاتب اليوم أن يحافظ على صوته الخاص وسط جوقة الأصوات الاصطناعية، فالإبداع الجديد هو ما يضيفه الكاتب للتقنية من وعي وإحساس وغاية، وكلما ازدادت قدرة الكاتب على هندسة فكرته، ازداد تميزه في استخدام الذكاء الاصطناعي بوصفه أداة للإبداع لا وسيلة للاختصار.

لقد انتهى زمن النص الفرداني، فالمعرفة اليوم تُنتَج بتعاون الإنسان مع الخوارزميات، وبمشاركة الذكاء الجمعي للبيانات والتقنيات والمنصات التفاعلية، وبات النص المعاصر عملاً تشاركياً يتكون من تفاعل العقول والأدوات، لا من عزلة الكاتب في صومعته، حيث أصبحت الفكرة ثمرة حوار طويل بين الإنسان والآلة، وبين الموهبة والمعرفة الرقمية.

وفي هذا الزمن، لا يعود القلم رمزاً للكتابة، بل العقل الموجه هو الرمز الجديد، فالموهبة اليوم أصبحت في القدرة على توجيه هذه الأدوات لتفكر كأنها أنت، وتدريبها حتى تصبح أنت مرجعها ومصدرها لا العكس، وهنا تتجلى القيمة الحقيقية للكاتب المعاصر أن يوازن بين الإبداع الإنساني وخوارزميات الآلة، وأن يجعل من التقنية وسيلةً لامتداد وعيه لا وسيلة لتهميشه.

فالعلاقة بين الذكاء الاصطناعي والكتابة ليست صراعاً بين الإنسان والآلة، وإنما هي تجربة جديدة لاختبار حدود العقل الإنساني، فكما أعطت المطبعة في عصرها الأول الإنسان القدرة على نشر المعرفة، يقدم الذكاء الاصطناعي له القدرة على مضاعفة إنتاج المعرفة، الفرق فقط أن المطبعة كانت تطبع ما كان قد كُتب، أما أدوات الذكاء الاصطناعي فتشارك في الكتابة، وبين هذين العالمين تأتي مسؤولية الكاتب في أن يظل صاحب الفكرة لا صاحب الأداة/المطبعة.

ولعل أكثر ما يثير الإعجاب في هذا التحول هو أنه أعاد الاعتبار للسؤال، الذي كان يعد تمهيداً للنص وأصبح اليوم نصاً قائماً بذاته، فالسؤال الذكي ينتج فكرة ثرية، والسؤال الغامض ينتج نصاً باهتاً، وكلما اتسعت معرفة الكاتب بالأداة زادت قدرته على توليد نصوص أكثر إنسانية، ومن هنا يمكن القول إن العلاقة بين الكاتب والذكاء الاصطناعي هي علاقة شراكة واعية يتولى فيها الكاتب القيادة، وتتكفل فيها الأداة بالتنفيذ، غير أن هذه الشراكة لا تخلو من أخطار، فحين تصبح النصوص سهلة التوليد قد يفقد الكاتب شعوره بالجهد والمسؤولية ويلجأ إلى الدعة والاتكالية، وهنا تكمن المفارقة في أن ما يمنحه الذكاء الاصطناعي من سرعةٍ يمثل تهديداً للعمق، لذلك يبقى وعي الكاتب وإدراكه العميق لحدود تخصصه هو صمام الأمان الوحيد في هذه العلاقة الجديدة، فالكاتب الذي يستخدم الذكاء الاصطناعي من دون بصمة شخصية يُصبح مجرد ناقل/ناسخ، بينما الكاتب الواعي يجعل الأداة جسراً نحو إبداع أوسع وأعمق.

أمام هذا الطوفان الذي لا مفر منه ولا نزال في بداياته، يبقى العزاء في إيماننا بأن الآلة، مهما تفوقت بكل أدواتها في سرعة الكتابة وجمع البيانات وإعادة إنتاجها، فلن تتقن صناعة الدهشة، لأن الإبداع في جوهره ملكة إنسانية لا يمكن برمجتها، وما دامت هذه الملكة تنبض في قلب إنسان يفكر ويشعر ويسأل، فلا خوف على مهنة الكتابة، وسيبقى الإنسان آخر معاقل الإبداع، مهما أبدعت الخوارزميات في تقليده.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء