ملخص
الولايات المتحدة تتصدر سباق الذكاء الاصطناعي تليها الصين، فيما تبرز السعودية كلاعب ثالث يسعى إلى رفع حصته العالمية إلى ستة في المئة بفضل طاقتها المستقرة وبنيتها الرقمية، وتصويت منتدى "مبادرة مستقبل الاستثمار" كشف عن تراجع أوروبا وخروجها من المنافسة على الريادة التقنية.
بات النقاش حول سباق الذكاء الاصطناعي العالمي ومساراته المستقبلية محوراً لافتاً ضمن فعاليات النسخة التاسعة من منتدى مبادرة مستقبل الاستثمار (FII9) المقام في العاصمة السعودية الرياض، إذ شكل الذكاء الاصطناعي العنوان الأبرز للنقاشات التقنية والاقتصادية في المنتدى.
وفي جلسة موسعة جمعت رؤساء كبرى الشركات العالمية الفاعلة في الذكاء الاصطناعي والبنية التحتية الرقمية، بدا واضحاً أن بناء الذكاء الاصطناعي قد انتقل من مرحلة نظرية في التطور والتشكل إلى مرحلة من التوسع المذهل، دفعت دول العالم إلى سباق محموم لتبوؤ موقع ريادي في هذه الثورة التقنية، فيما تتقدم السعودية بخطوات واثقة لتكون أحد أبرز اللاعبين المحوريين في هذا السباق المتسارع.
وخلال الجلسة الحوارية التي حملت عنوان "من يقود العالم في الذكاء الاصطناعي؟"، التي أدارتها الإعلامية البريطانية باكي أندرسون، انطلق النقاش من مقارنة زمنية لافتة إذ كان عام 2023 العام الذي أسر فيه الذكاء الاصطناعي خيال العالم، بينما مثل عام 2024 مرحلة تحوله إلى واقع ملموس، أما عام المرحلة الحالية كما وصفتها البريطانية فهي التي يبنى فيها الذكاء الاصطناعي على نطاق غير مسبوق.
إذ تشير تقديرات شركة الأبحاث الأميركية "غارتنر" إلى أن الإنفاق العالمي على الذكاء الاصطناعي سيصل إلى 1.5 تريليون دولار بنهاية العام الحالي، مدفوعاً بموجة ضخمة من الاستثمارات في البنية التحتية للحوسبة الفائقة ومراكز البيانات، مما يجعل الذكاء الاصطناعي ينتقل من نطاق البحث إلى مرحلة البناء العملي واسع النطاق.
موقع السعودية في سباق الذكاء الاصطناعي
وقدم الرئيس التنفيذي شركة "هيومين" طارق أمين في مداخلته مشهداً من التحول السعودي المتسارع، مؤكداً أن شركته ولدت من دمج كيانات حكومية وخاصة لتبني سلسلة القيمة الكاملة للذكاء الاصطناعي، من الطاقة إلى النماذج والتطبيقات.
وقال إن الشركة انطلقت في مايو الماضي خلال زيارة الرئيس الأميركي إلى الرياض، وأنها تمكنت خلال خمسة أشهر فقط من بناء منظومة تخدم 150 دولة، بينما لا تتجاوز نسبة الحركة من داخل السعودية خمسة في المئة.
وأوضح الرئيس التنفيذي للشركة المملوكة للحكومة السعودية المتخصصة في الذكاء الاصطناعي، أن الطموح السعودي يتمثل في رفع حصة البلاد من أعباء الذكاء الاصطناعي عالمياً من أقل من واحد في المئة إلى نحو ستة في المئة، مما يجعلها ثالث أكبر مركز عالمي بعد الولايات المتحدة والصين، مؤكداً أن "الطاقة المستقرة، وكلفة التشغيل المنخفضة، وبنية الحوكمة الرقمية" هي عناصر القوة التي تمنح المملكة تفوقاً تنافسياً حقيقياً.
وبين المسؤول أن الشركة تعمل ضمن شراكة مع وزارة الطاقة و16 جهة حكومية لتخطيط استخدام الطاقة المخصصة لمراكز البيانات، مضيفاً أن الوقت هو العدو الأكبر، لكنه أكد أن السعودية حلت معضلة الطاقة في تأمين احتياجاتها حتى عام 2030 من دون الحاجة إلى بناء محطات جديدة، على أن تكون المجمعات الكبرى جاهزة لما بعد ذلك.
وكشف أن الشركة حصلت على الموافقات الأميركية اللازمة لتصدير خدماتها بعد مفاوضات مباشرة مع واشنطن، في إطار حوار "حكومة مع حكومة"، مؤكداً أن السعودية تملك اليوم البنية القادرة على منافسة عمالقة التقنية.
وأشار إلى أن نجاح "هيومن" يعتمد أيضاً على العنصر البشري، موضحاً أنه فوجئ بعمق الكفاءات المحلية التي التقاها منذ قدومه إلى المملكة، وأنه يتعلم يومياً من الباحثين والمهندسين السعوديين الذين يقودون العمل بخبرة عالية.
ذكاء اصطناعي يلغي الإجراءات البيروقراطية
وخلال الجلسة الحوارية، كشف أمين عن إطلاق الشركة نظام "هيومن ون"، وهو أول نظام تشغيل يعتمد كلياً على الذكاء الاصطناعي، واصفاً إياه بأنه "تحول جذري في طريقة عمل المؤسسات"، موضحاً أن النظام الجديد لا يقتصر على البحث واسترجاع المعرفة بل يدمج مختلف المهمات المؤسسية من الموارد البشرية والمالية إلى الشؤون القانونية في واجهة واحدة تعتمد على الأوامر النصية أو الصوتية، من دون الحاجة إلى تطبيقات متعددة أو أيقونات منفصلة.
وبين الرئيس التنفيذي أن النظام الجديد ألغى العديد من الإجراءات البيروقراطية، إذ انخفض عدد الموظفين في قسم الرواتب من 11 إلى صفر بعد أن تولت المنصة إدارة المهمات تلقائياً، مؤكداً أن الهدف ليس تقليص الوظائف بل تحرير الموظفين من الأعمال الروتينية ليتحولوا إلى مديري منتجات يشرفون على تطوير الأداء.
ولفت أن "هيومن ون" يمثل نموذجاً لما سيكون عليه مستقبل التشغيل المؤسسي، مشيراً إلى أن "الجيل القادم من أنظمة التشغيل سيكون قائماً بالكامل على الذكاء الاصطناعي، سواء أنجزته هيومن أو غوغل أو آبل فهذا هو الاتجاه الذي لا رجعة فيه".
غوغل... من العلم إلى الإنسان
ووصفت روث بار، الرئيسة التنفيذية لشركتي "ألفابت" و"غوغل" هذه المرحلة بأنها "الأكثر إبهاراً في تاريخ العلم"، وأشارت إلى أن العائد الحقيقي من الذكاء الاصطناعي يأتي من أربع بوابات وهي تسريع الاكتشافات العلمية، وتحسين الخدمات العامة، وتعزيز الأمن السيبراني، وتحفيز النمو الاقتصادي.
ورأت أن التحول لا ينجح إلا عبر الجمع بين البنية التحتية والتطبيقات وتدريب البشر معاً، مشيرة إلى مبادرات تعليمية وصحية أطلقتها شركتها في الرياض وجامعة الملك سعود.
واستعرضت تجربة مشروع "ألفافولد" الذي طورته "غوغل ديب مايند"، وفاز بجائزة نوبل في الكيمياء 2024 لتنبؤه بالبنية ثلاثية الأبعاد للبروتين، واعتبرته أكبر مساهمة في اكتشاف الأدوية في هذا الجيل، مشيرة إلى أن المشروع حقق ما عجز عنه العلم خلال 50 عاماً في غضون أربع سنوات فقط، واليوم يستخدمه 3 ملايين ونصف مليون عالم حول العالم.
وقدمت خريطة ذهنية لتطبيق الذكاء الاصطناعي بثلاثة مسارات الابتكار العلمي، وإدارة الأخطار، ورفع الكفاءة التشغيلية، مؤكدة أن التجارب السطحية مثل "روبوتات المحادثة" لا تصنع عائداً حقيقياً ما لم يعاد تصور العمل من أساسه.
السيادة الرقمية كالسفارة
من جانبه، تحدث الرئيس التنفيذي لشركة "أوراكل" مايك سيفيليا عن التحولات الملموسة التي أحدثها الذكاء الاصطناعي في قطاعات حيوية كالصحة والمصارف، مؤكداً أن الدمج بين النماذج المتقدمة للذكاء الاصطناعي والأنظمة التشغيلية القائمة بدأ يختصر الوقت ويرفع الكفاءة.
وأوضح أن تجربة الشركة في مجال الرعاية الصحية أظهرت أن الأطباء والممرضين استعادوا نحو 100 دقيقة في كل مناوبة عمل، بعدما كانت تهدر في إدخال البيانات والمهمات الإدارية، مضيفاً أن الأثر ذاته بدأ يظهر في القطاع المصرفي، إذ أصبح الذكاء الاصطناعي مكملاً طبيعياً للأنظمة البنكية الأساسية، مسهماً في أتمتة التحقيقات الخاصة بالجرائم المالية ومكافحة غسل الأموال، وهي عمليات كانت تدار يدوياً وتستنزف وقتاً طويلاً.
وأشار سيفيليا إلى أن المرحلة المقبلة ستكون أكثر عمقاً وأهمية، إذ ستقوم على دمج البيانات الخاصة بالمؤسسات من صحية ومصرفية وتشغيلية مع النماذج العامة للذكاء الاصطناعي، بحيث يمكن اتخاذ قرارات فورية دقيقة عند نقطة الحاجة، سواء في رعاية المرضى أم إدارة المعاملات المالية.
لكنه حذر من أن العائق الأكبر أمام الشركات ليس في الطاقة أو الأنظمة التنظيمية، بل في حوكمة البيانات، وقال إن المؤسسات "يجب أن تعرف أولاً أين بياناتها، وكيف توحدها وتحولها إلى صيغ قابلة للتحليل، قبل أن تتحدث عن الذكاء الاصطناعي".
وفي حديثه عن موقع المنطقة في خريطة السباق العالمي، رأى أن السعودية في موقع استثنائي لتوفير خدمات الذكاء الاصطناعي الجاهزة للعالم، بفضل ما تمتلكه من طاقة مستقرة، وحوكمة رقمية متقدمة، وبنية أمنية عالمية المستوى.
وأوضح أن مفهوم السيادة الرقمية لا يعني بالضرورة أن تبقى الخدمات أو البيانات محصورة داخل حدود الدولة، بل يمكن تحقيقها عبر مراكز بيانات صغيرة ومجهزة بالكامل توزع حول العالم لتعمل ضمن منظومات متصلة وآمنة.
وأضاف بتشبيه لافت أن السيادة الرقمية يمكن أن تدار كما تدار السفارات كيانات سيادية تعمل داخل أراضي دول أخرى، لكنها تحتفظ باستقلالها القانوني وتخضع لقوانين الدولة المالكة لها، موضحاً بأن هذا المفهوم يمنح الدول القدرة على إدارة بياناتها وحماية سيادتها داخل بيئات خارجية، "تماماً كما تمارس الدول سلطتها داخل سفاراتها في الخارج".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الصناعة تكتشف عقلها
من جانبه، تناول فيمل كابور، رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة "هانيويل"، البعد الصناعي في سباق الذكاء الاصطناعي، موضحاً أن ما يعرف بالذكاء الاصطناعي الصناعي أو الذكاء الفيزيائي يعتمد على الأسس التي يبنيها زملاؤه في مجالات البنية التحتية والنماذج والبيانات، لكنه يواجه تحديات مختلفة تماماً.
وأوضح أن المؤسسات الصناعية مثل المستشفيات والمطارات والمصافي لا يمكنها التحول رقمياً بالسرعة التي تشهدها القطاعات الأخرى، لأن طبيعة بياناتها معقدة، ومصدرها أنظمة قديمة وغير موحدة.
وأشار إلى أن التحدي الثاني هو المعرفة المتخصصة، إذ لكل منشأة صناعية طبيعتها الخاصة ولا يمكن تطبيق نموذج واحد على جميعها، مضيفاً أن الذكاء الاصطناعي لا يحقق نتائج دقيقة إلا إذا فهمت طبيعة المجال الذي يطبق فيه.
أما التحدي الثالث فهو الحتمية التشغيلية، أي أن الأنظمة الصناعية يجب أن تعمل بنسبة دقة 100 في المئة، لا باحتمال نجاح كما في التطبيقات الأخرى، مشيراً إلى أن "النتائج في العالم الصناعي لا تحتمل هامش خطأ، لأنها تتعلق بالسلامة البشرية والإنتاج".
وبين كابور أن هذه التحديات الثلاثة تحدد مستقبل الذكاء الاصطناعي الصناعي، لكنه أكد أن تجاوزها ليس مستحيلاً، بل يفتح الباب أمام خلق قيمة اقتصادية هائلة من خلال إطالة عمر الأصول، وتحسين الكفاءة التشغيلية، وتطوير مهارات العاملين.
وأضاف أن "عملاءنا اليوم في السعودية وفي أنحاء العالم يشعرون بضغط الوقت لتبني هذه الحلول، لأن القيمة التي تولدها واقعية ومباشرة"، لافتاً إلى أن التحول في الصناعات الثقيلة أصبح مسألة بقاء تنافسي أكثر من كونه خياراً مستقبلياً.
وأوضح كابور أن "هانيويل" استطاعت خلال الأعوام الأربعة الماضية تجاوز احتكاك البيانات بفضل منصات إنترنت الأشياء الصناعية التي طورتها الشركة، التي باتت قادرة على ربط أي أصل صناعي خلال يوم واحد فقط، سواء كان في مصنع أو مستشفى أو مطار. وقال إن "الهدف ليس جمع البيانات لمجرد جمعها، بل فهمها وتحويلها إلى قرارات قابلة للتنفيذ".
واستشهد بتجربة عملية نفذتها الشركة في سلسلة مطاعم للوجبات السريعة تضم 600 فرع في المملكة المتحدة، إذ جرى ربط كل معدات الطهي والتبريد وأنظمة الطاقة ضمن منصة موحدة، مما أدى إلى خفض استهلاك الطاقة بنسبة 40 في المئة، بعد اكتشاف أن درجات حرارة القلي لم تكن مضبوطة وأن كل فرع كان يدير معداته بصورة منفصلة من دون رقابة مركزية.
تصويت الحاضرين
في ختام الجلسة التي حضرتها "اندبندنت عربية"، عرض تصويت فوري للحضور حول "من سيفوز بسباق الذكاء الاصطناعي العالمي؟"، شملت خياراته الولايات المتحدة والصين وأوروبا والشرق الأوسط، وخياراً أخيراً كان بعنوان "لن يفوز به أحد".
النتائج كانت مفاجئة، إذ أظهرت حصول الولايات المتحدة على نسبة 43 في المئة، تلتها الصين بـ21 في المئة، ثم الشرق الأوسط بنسبة 17 في المئة، فيما ذهب 19 في المئة من المشاركين إلى الاعتقاد بأن هذا السباق لن يحسم لصالح أي طرف.
بينما خرجت أوروبا من الحسابات إذ لم تحصد أي صوت إطلاقاً، في إشارة إلى تراجع ثقة المستثمرين الحاضرين بقدرتها على المنافسة في مضمار الذكاء الاصطناعي العالمي.
وفي ختام الجلسة اتفق المشاركون على أن سباق الذكاء الاصطناعي ما زال في بدايته، وأن المرحلة الحالية هي مرحلة بناء البنية التحتية، بينما ستحدد قدرة الدول على التنفيذ والتبني السريع موقعها في خريطة القوى التقنية خلال السنوات المقبلة.
وفيما تتسارع الاستثمارات العالمية، تسعى السعودية إلى ترسيخ موقعها مركزاً ثالثاً عالمياً، مستفيدة من الطاقة والتقنية ورؤية 2030 التي تضع التحول الرقمي في صدارة أولوياتها.