Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بورخيس المستعاد في ضوء الترجمة والذاكرة الأدبية

نصوص ومقالات ومحاضرات غير منشورة تلقي مزيداً من الأضواء على نتاجه الرحب

بورخيس العائد بنصوص غير منشورة (صفحة الكاتب - فيسبوك)

ملخص

لا تزال أعمال الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (1899-1986) تنبض بالحياة، كأنها كتبت خارج الزمن، في مكتبة لا نهائية لا تكف عن الاتساع. فها هي نصوص جديدة تظهر من عتمة الأدراج أو من طيات مجلات منسية كانت تنتظر اللحظة المناسبة، هكذا صدر حديثاً كتاب "النصوص المستعادة. مقالات، بورتريهات، محاضرات"، في باريس عن منشورات غاليمار (2024)، في ترجمة فرنسية لسيلفيا بارون سوپرفييل وجيرساند كامنين.

ليس غريباً على بورخيس، الذي جعل من المتاهة رمزاً ومن المرآة باباً لعوالم موازية، أن تظل كلماته تتجدد، كما لو أن الزمن لا يحدها، أو كأن مؤلفه الحقيقي لم يولد بعد. فكل اكتشاف لنص من نصوصه يعيد تشكيل صورته، لا بإضافة وجه جديد فحسب، بل بكسر يقينينا بأنه اكتمل. بورخيس، الذي كتب عن الكتب الوهمية والمؤلفين المتخيلين، تحول هو نفسه إلى مؤلف لا نهائي، يكتب في كل عصر بلغة جديدة، ويكتشف كما تكتشف الألغاز التي لا تحل، بل تغوي بمزيد من البحث.

في هذا السياق يأتي كتاب "النصوص المستعادة. مقالات، بورتريهات، محاضرات"، الصادر حديثاً في باريس عن منشورات غاليمار، ليضاف إلى سلسلة نشر الأعمال غير المنشورة التي بدأت عام 1993 في مجموعة "لابلياد"، مقدماً للمهتمين بأدب أحد أبرز وجوه الأدب العالمي في القرن الـ20 معلومات جديدة.

يضم الكتاب 70 نصاً لم تنشر من قبل باللغة الفرنسية، كتبها بورخيس أو ألقاها شفوياً أو أملاها بين أعوام 1922 و1985، ونشرت متفرقة في عدد من المجلات الأرجنتينية والصحف حول العالم.

فضول فكري

تكشف هذه النصوص عن فضول بورخيس الفكري وقدرته على معالجة مواضيع متعددة، من الأدب إلى الفلسفة، مروراً بالتاريخ والثقافة، علماً أن الترجمة الفرنسية لكتاباته شكلت أحد المفاتيح الأساسية التي يسرت عبور أعماله من بوينس آيرس إلى الفضاء الأدبي العالمي.

ففي السنوات الأخيرة، أعيد فتح ملف نصوصه المجهولة أو المنسية، وبذلت جهود لجمعها، مما فتح الباب واسعاً أمام التعرف على تجاربه الأسلوبية المتنوعة وتوتراته الفكرية العميقة.

تتوزع هذه النصوص على مراجعات كتب وأفلام وشهادت تنتمي إلى الإشادة بأدباء كلاسيكيين ومعاصرين، أو مقدمات وقصص قصيرة وسير ومداخلات إذاعية. ومن أجل الإحاطة بسر هذا التدفق المتواصل للكتابات غير المنشورة لبورخيس، لا بد من التوقف عند خاصية جوهرية في مسيرته الأدبية. فمنذ بداياته، تجلى هذا الأرجنتيني شاعراً وكاتباً غزير الإنتاج، لكنه لم يسلم قلمه لعفوية الكتابة، بل أخضع نتاجه لميز دقيق وانتقاء صارم، مستبعداً عدداً من نصوصه وكتبه. وهكذا، ورثت الأجيال اللاحقة تراثاً من نصوص مبعثرة، لم تضم إلى مجلدات، فضلاً عن مداخلات شفهية لا تقل أهمية. وفرض هذا الإرث المتناثر، هنا وثمة تحدياً حقيقياً تمثل في ضرورة اعتماد معايير نشر دقيقة ومتسقة تليق بتقديم هذا "الوجه الخفي" من أعمال الأديب الأرجنتيني.

في المجلدين الذي يؤلف مجموعهما "الأعمال الكاملة" لبورخيس والصادرين في ترجمة فرنسية في أعوام 1993 و1999 في مجموعة "لابلياد"، نجح جان-بيار برنيس في التفاوض مع أصحاب الحقوق على إدراج عدد من النصوص غير المنشورة. وجدت هذه النصوص طريقها إلى الضوء تحت عنوان "مقالات غير مجموعة" في المجلد الأول، وظهرت تحت عنوان "محاضرات، خطب، وتحيات" و"مراسلات (1919-1926)" في المجلد الثاني. أما بداية انطلاق صدور النصوص غير المنشورة باللغة الإسبانية، فتعود لإنريكي ساسيرو غاري وإيمير رودريغيز مونيغال اللذان، حين علما بموافقة بورخيس على نشر بعض نصوصه التي كتبها بين أعوام 1936 و1939 في مجلة "إل هوغار" ضمن الطبعة الفرنسية، سعياً إلى إقناعه بجعلها متاحة أيضاً للقراء الناطقين باللغة الإسبانية. هكذا أبصرت هذه المجموعة من النصوص النور عام 1986، انطلاقاً من حق الجمهور الناطق بالإسبانية أن يطلع على نصوص وضعت بمتناول القارئ الفرنسي. وأسهم هذا المشروع في تثبيت الدور الحاسم الذي لعبته الترجمات ودور النشر الفرنسية في إبراز أعمال بورخيس وشهرته على الساحة الأدبية العالمية، وهو المسار الذي استهله روجيه كايوا بنشر "خيالات" عام 1951 ضمن سلسلة "صليب الجنوب"، و"متاهات" التي صدرت عام 1953 عن منشورات غاليمار.

منذ صدور مجلدي "لابلياد" وإعادة طبع بعض كتب بورخيس، أتيح للقارئ الفرنسي الاطلاع على مؤلفات أخرى  كـ"التانغو: أربع محاضرات" (غاليمار، 2018)، و"أنطولوجيا شخصية "(2016)، و"قصائد حب" (2014) وغيرها، فضلاً عن كتب شارك بورخيس في تأليفها ومجموعة من المقابلات. وجاء تنظيم النصوص المستعادة في الكتاب الجديد وفق تواريخ كتابتها أو نشرها، ولئن كان واقع نشر أعمال بورخيس في فرنسا لا يتيح اليوم ترتيباً مغايراً، فإن هذا التبويب الزمني منح هذه النصوص وحدة داخلية، فضلاً عن القدرة على تتبع تحولات الصوت البورخيسي من النبرة المتكلفة ذات النزعة التجريبية في العشرينيات، إلى السرد الفلسفي العميق والبسيط في ثمانينيات القرن الماضي.

تنوع أسلوبي

أسندت الترجمة إلى سيلفيا بارون سوپرفييل وجيرساند كامنين، بهدف إظهار تنوع أساليب بورخيس الكتابية. هذه الترجمة المزدوجة، شكلت بحد ذاتها تجربة جمالية عبرت عن تعدد طبقات هذا الكاتب، الذي كان دائماً في حوار مع لغات وثقافات شتى.

تبرز "النصوص المستعادة" صورة بورخيس كمرآة، عاكسة تشكل كتاباته وانخراطه في أسئلة الأدب والفن والتاريخ والهوية. ولعلها تكشف عن وجه مغاير له كمحاور ومتأمل قلق من المآلات الفكرية لعصره، ومفكر عاشق لمدينة بوينس آيرس، كما تبين علاقته بالثقافة اليهودية. تحتوي هذه النصوص كذلك على محطات تأسيسية لجماليات في مواضيع العلاقة بين الحدث التاريخي والأدب وتصوره للتاريخ الأدبي وفن السينما بوصفها وسيلة للسرد، وتحوله إلى راوي قصص.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في النصوص المنشورة في صحيفة "لابرنسا" في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، تتعالق تأملات بورخيس في قضايا لغوية وثقافية تخص مدينة بوينس آيرس بنصوص الكتاب الكلاسيكيين كسرفانتس ودانتي وسواهم. أما في صحيفة "لاناثيون"، المتعاطفة مع القضية المناهضة للفاشية، فقد أعاد بورخيس تقديم كتاب نيتشه "هكذا تكلم زرادشت" بوصفه نصاً مقدساً، في موقف يحمل انخراطاً ضمنياً في النقاش السياسي والفلسفي المحتدم آنذاك حول فكر نيتشه وعلاقته بالنازية، أو تأملاته في القصة البوليسية بوصفها استعارة للحقيقة الغائبة. كل هذا يرسخ بورخيس، لا ككاتب متعال في برجه العاجي، بل كمثقف ملتزم بقضايا عصره.

تكشف تجربة "النصوص المستعادة" كذلك عن بورخيس الذي ظل يكتب على الهامش ويحفر باللغة عوالم لم تكن مرئية، بورخيس المتاهات والمرايا والمخطوطات القديمة والكتب الخيالية والأطلال الدائرية والشخصيات المزدوجة وأصداء المعارك والكابالا والملاحم الإسكندنافية وشواطئ الحلم والكوابيس وعذابات الذاكرة وتقلب الزمن في عالم فنتازي وسريالي يعج بالريفيين والفلاسفة والكتاب، يمر فيه موسى وبوذا وعوليس وضابط نازي وقتلة ملوك وأوغاد يعشقون التانغو وبعض الضباط الأرجنتينيين، وقراصنة صينيين، وشارحو التلمود وبورخيس نفسه.

ليست هذه النصوص استعادة لما ضاع فحسب، بل دعوة إلى تأمل الكيفية التي تشكل بها أدب بورخيس بوصفه تجربة قلق وحضور وتحول دائم. تكمن أهمية هذا الكتاب في أنه يتيح اكتشاف جانب أقل شهرة من أعمال الأديب والشاعر والمترجم الأرجنتيني، أي النصوص القصيرة والمقالات التي نشرت في وسائط إعلامية مختلفة، كما أنه يقدم رؤية أوسع لتطور فكره وأسلوبه على مدار سني حياته.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة