Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

خلافات الساحل الأفريقي تتصاعد ودور "الوساطات المجتمعية" ينحسر

أدى هذا الواقع إلى تآكل الثقة في منظومة الصلح الأهلي وتزايد حدة الانقسامات الإثنية والعرقية وتراجع القدرة على إدارة النزاعات ذاتياً

يتجلى دور الأعراف القبلية وآليات الصلح الأهلي كإحدى أهم ركائز الاستقرار في ظل غياب مؤسسات قضائية وأمنية قادرة على التدخل (أ ف ب)

ملخص

كثيراً ما تقع أعمال عنف بين الرعاة والمزارعين على خلفية تقلص المساحات الصالحة للفلاحة، والتي تسببت في وقوع أكثر من 15 ألف قتيل في صراعات في غرب ووسط أفريقيا بين عامي 2010 و2020، وعدد القتلى آخذ بالارتفاع.

واستحضر المرشح لرئاسة الحكومة الليبية عمر الجبالي في تصريح لـ"اندبندنت عربية"، أبرز الإنجازات في هذا الصدد بمدينة مرزق، حيث تمكن الأعيان وشيوخ القبائل من تحقيق مصالحة بين مكوني التبو والعرب بعد أعوام من التوتر، بدعم من بعثة الأمم المتحدة وجهود المجتمع المحلي، ما ساهم في وقف القتال وعودة جزء من النازحين.

وفي سبها وأوباري جنوب ليبيا، أسهمت الوساطات الاجتماعية في تهدئة النزاعات المسلحة بين المكونات القبلية وتثبيت الاستقرار النسبي في الجنوب.

بما أن عمليات السلام على المستوى الحكومي أخفقت في كثير من الأحيان في معالجة الأسباب الجذرية لعدم الاستقرار في دول الساحل الأفريقي وحتى ليبيا، تبرز الوساطة المجتمعية كبديل "ذا حدين"، يعتمد في كثير من الأحيان على الأساليب التقليدية، كاستراتيجية حاسمة في نزع فتيل الاشتباكات ومنع القتال.

طالما استندت عمليات المصالحة المحلية خلال فترة الاستعمار لدول أفريقية إلى تقاليد التفاوض التي تُنظّم التعايش بين المجتمعات، واستمرت في لعب هذا الدور حتى بعد التحرر لقدرتها على منع العنف العرقي وتخفيف حدته.

لكن الصراع الآن في منطقة الساحل الأفريقي التي تمتد من تشاد إلى النيجر ومالي وبوركينا فاسو، يمتاز بطابع متعدد الأبعاد، إذ تُغذّي النزاعات الزراعية الرعوية الصغيرة الخلافات بين المجتمعات المحلية، والتي بدورها تنعكس في صورة نزاعات أشمل بين الدول والجماعات المسلحة.

وفي أواخر سبتمبر (أيلول) الماضي، أنهى اتفاق سلام بين حكومة نجامينا وميليشيات متمردة في مدينة تيبستي الحدودية مع ليبيا، فتيل معارك قبل أن تندلع حول استغلال مناجم الذهب، وجاء ذلك بعد أعوام قضاها الجانبان في لعبة الكر والفر، ولولا تدخل وسطاء محليين لتطور الوضع إلى حرب دامية بين الجيش ومقاتلي لجنة الدفاع الذاتي في ميسكي بمدينة تيبستي.

النزاعات بين المزارعين والرعاة

وفي هذه الرقعة الجغرافية الساخنة في يونيو (حزيران) 2022 حدثت أكبر مجزرة في الجزء التشادي من صحراء تيبستي التي تشترك في أراضٍ ليبية، متسببة الاشتباكات بمقتل 100 شخص من الباحثين بصورة غير قانونية عن المعدن الثمين.

وفي جارتها النيجر، حيث تفاقم انعدام الأمن وتعرض سبل عيش السكان للتهديد الدائم منذ الانقلاب العسكري في يوليو (تموز) 2023، مكّن غياب أجهزة الدولة في مناطق عدة لا سيما في المثلث الحدودي مع مالي وبوركينا فاسو المعروف باسم "ليبتاكو غورما"، من تدخل صندوق الأمم المتحدة لبناء السلام ومنظمة الأغذية والزراعة وهيئة الأمم المتحدة للمرأة في وقت سابق، لمنع حدة النزاعات بين المزارعين والرعاة، بعدما جرى تدريب النساء والشباب على إنشاء أكثر من 350 مجموعة مجتمعية، أو ما يعرف بـ"نوادي ديميترا" في 60 قرية، تضم أكثر من 10 آلاف عضو، بما في ذلك أكثر من 6000 امرأة، وحشدت للمرة الأولى 151 وسيطة في 20 مفوضية أراضٍ.

وكُللت العملية بموافقة المزارعين على السماح للماشية بالمرور في حقولهم بفضل إنشاء ممرات العبور، بعدما خلقت الخلافات المحلية بين أصحاب الأغنام والفلاحين بسبب التنافس على الموارد، توترات كبيرة. وعندما تكررت النزاعات وهددت التعايش السلمي بين المجتمعات، جرى إنشاء نوادي "ديميترا" المجتمعية لإشراك النساء في دور الوساطة التي أثبتت أنها محورية في منع النزاعات، لكن بعد الانقلاب العسكري تراجع دورها في النيجر.

وغير بعيد، عجزت السلطات في بوركينا فاسو عن حماية أبناء طائفة الفولاني العرقية، وعلى عكس الرعاة النيجريين، فقد تأججت مشاعر الكراهية وتفشى العنف، وبات الفولانيون عرضة للتجنيد في صفوف الجماعات الإرهابية بسبب عزلتهم ونبذ الآخرين لهم.

وتعتبر قبائل الفولاني عبارة عن طائفة عرقية يبلغ تعدادها 40 مليون نسمة وتنتشر في منطقة الساحل من السنغال غرباً إلى السودان شرقاً، ويتميز رعاة الماشية بالتنقل لمئات الكيلومترات بحثاً عن أراضي الرعي. وأصبحوا يعرفون في نيجيريا والنيجر وبوركينا فاسو ومالي بأنهم سبب غياب الأمن في المنطقة. وكشفت إحصاءات جمعها مشروع بيانات مواقع وأحداث النزاعات المسلحة، أن أكثر من نصف المدنيين الذين لقوا حتفهم على يد الجيش أو الميليشيات العرقية في مالي وبوركينا فاسو كانوا من طائفة الفولاني.

غياب دور الدولة

وإزاء ذلك أجبر وجود المتطرفين وراء الفولانيين وغيرهم من العرقيات على إدراك غياب دور الدولة، فبات على هذه المجتمعات إما أن تقف في صف الإرهابيين بحجة نشر الأمن موقتاً أو أن تشكل ميليشيات مجتمعية للدفاع عن النفس.

وكثيراً ما تقع أعمال عنف بين الرعاة والمزارعين على خلفية تقلص المساحات الصالحة للفلاحة، والتي تسببت في وقوع أكثر من 15 ألف قتيل في صراعات في غرب ووسط أفريقيا بين عامي 2010 و2020، وعدد القتلى آخذ بالارتفاع.

ويؤكد خبير الشؤون السياسية الأفريقية محمد فؤاد رشوان تحول الوساطات المجتمعية والعُرفية في عدد من دول القارة بديلاً موقتاً في ظل ضعف مؤسسات الدولة وتراجع سلطة القانون خلال الأعوام الأخيرة، إذ "لعبت الزعامات القبلية والدينية والمحلية دوراً محورياً في احتواء النزاعات المحلية وحماية النسيج الاجتماعي من الانهيار، خصوصاً في مناطق الصراع الممتدة من ليبيا إلى مالي وبوركينا فاسو وتشاد".

وأشار رشوان إلى دور الأعراف القبلية وآليات الصلح الأهلي كإحدى أهم ركائز الاستقرار، في ظل غياب مؤسسات قضائية وأمنية قادرة على التدخل.

إلا أنه استدرك بكون هذه الوساطات باتت اليوم مهددة بالتفكك والانحسار بسبب تصاعد نشاط الجماعات المتمردة والمتطرفة التي تعمل على تقويض نفوذ الوسطاء المحليين، وتفرض أنماطاً بديلة من "التحكيم الشرعي" لتكريس سيطرتها السياسية والاجتماعية. وأدى هذا الواقع إلى تآكل الثقة في منظومة الصلح الأهلي وتزايد حدة الانقسامات الإثنية والعرقية وتراجع قدرة المجتمعات على إدارة نزاعاتها ذاتياً.

ويحصر الخبير رشوان أسباب هذا التراجع في أربعة عوامل مترابطة، أبرزها، استهداف الزعماء التقليديين والعلماء المحليين من قبل التنظيمات المسلحة، عبر الاغتيال أو الترهيب أو الإخضاع القسري، لإفراغ المجتمعات من شخصياتها المؤثرة.

إلى جانب انهيار مؤسسات الدولة نتيجة الانقلابات المتكررة وضعف الهياكل الإدارية، مما خلق فراغاً في إدارة النزاعات المحلية، استغلته الجماعات المتمردة لتوسيع نفوذها.

التسوية التقليدية

أما الاستقطاب الاجتماعي والاقتصادي الناتج من التنافس على الأراضي وموارد الرعي والزراعة، زاد من هشاشة البنية القبلية وأضعف إمكانات التسوية التقليدية.

ويحذر من اقتصاديات الصراع التي تُستخدم فيها الوساطات كأداة ابتزاز أو توظيف سياسي، ما أفقدها حيادها التاريخي وقلّل من فاعليتها.

أما الآثار المترتبة فتتمثل في تراجع منظومة السلم الأهلي وارتفاع مستويات العنف والتهجير القسري، وتحوّل مناطق واسعة إلى ساحات نفوذ متنازع عليها بين جماعات مسلحة، مع انكماش دور الدولة وتآكل الثقة في قدرتها على ضبط الأمن، بحسب الخبير في الشؤون الأفريقية.

وحذرت تقارير صادرة عن مجموعة الأزمات الدولية والأمم المتحدة من أن استمرار هذا المسار ينذر بتوسّع دوائر الفوضى والعنف الأهلي، ما لم تُتخذ خطوات عاجلة لدعم الوسطاء المحليين وتوفير حماية قانونية وأمنية لهم وتمكينهم من أداء دورهم كركيزة أساسية في بناء السلام المحلي وترميم مؤسسات الدولة من القاعدة إلى القمة.

من جانبها، تشاطر الباحثة المتخصصة في شؤون الساحل الأفريقي ميساء نواف عبد الخالق هذه الآراء، مشيرة إلى انتكاس الوساطات المجتمعية في الفترة الأخيرة سببه سيطرة المتمردين والمتطرفين على أجزاء واسعة من أفريقيا، وقالت عبد الخالق إن الحل لذلك يكمن عبر تقوية أسس الدولة، بأن تكون "المؤسسات القضائية والأمنية المرجع الأول لحل الخلافات والنزاعات وضبط الاستقرار".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومعلوم أن ليبيا تعد أبرز الدول الأفريقية التي تعد فيها الوساطات المحلية عصب نزع فتيل التوترات، ويقودها شيوخ وأعيان ومجالس اجتماعية، خصوصاً في ظل غياب الدولة وضعف مؤسساتها الأمنية والقضائية.

واستحضر المرشح لرئاسة الحكومة الليبية عمر الجبالي في تصريح لـ"اندبندنت عربية"، أبرز الإنجازات في هذا الصدد بمدينة مرزق، حيث تمكن الأعيان وشيوخ القبائل من تحقيق مصالحة بين مكوني التبو والعرب بعد أعوام من التوتر، بدعم من بعثة الأمم المتحدة وجهود المجتمع المحلي، ما أسهم في وقف القتال وعودة جزء من النازحين.

وفي سبها وأوباري جنوب ليبيا، أسهمت الوساطات الاجتماعية في تهدئة النزاعات المسلحة بين المكونات القبلية وتثبيت الاستقرار النسبي في الجنوب.

أما في طرابلس، فقد لعبت لجان فضّ النزاعات ووجهاء المدينة دوراً محورياً في إنهاء الاشتباكات المتكررة بين التشكيلات المسلحة، خصوصاً تلك التي اندلعت في أغسطس (آب) 2023 وسبتمبر 2024، وقتها تدخلت شخصيات اجتماعية وأمنية لوقف إطلاق النار وإعادة الهدوء إلى العاصمة.

وفي حادثة مقتل قائد جهاز دعم الاستقرار الليبي عبد الغني الككلي مثلاً، برزت وساطات محلية وأمنية سريعة لاحتواء الموقف بعد الاشتباكات بين الأجهزة العسكرية.

ولفت الجبالي إلى تدخل أعيان ووجهاء من طرابلس، إضافة إلى شخصيات قيادية من الأجهزة الأمنية، لوقف إطلاق النار ومنع التصعيد داخل العاصمة، حيث نجحت هذه الوساطات في تثبيت التهدئة خلال ساعات قليلة، ما حال دون تحول الحادثة إلى صراع أوسع بين التشكيلات المسلحة.

وعلى رغم تأكيده أن الوساطات المحلية أداة فاعلة لحماية السلم الأهلي، لكن السياسي الليبي يوضح أنها "تظل حلاً موقتاً لا يمكن أن يُغني عن بناء مؤسسات دولة قوية قادرة على فرض النظام والعدالة وإنهاء ظاهرة السلاح خارج الشرعية".

ويلاحظ خبراء كثر أن عمليات السلام داخل المجتمعات المحلية، في أحسن الأحوال، تتوقف عند خط مواجهة غير مرئي يُحافظ عليه بدعم كبير من قوات حفظ السلام مثلاً، ومع ذلك، فإنها لا تُعالج بؤر الصراع المعقد بصورة دائمة.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير