Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف قضى أهالي المفقودين في سوريا ليلة صيدنايا الأخيرة؟

"ملفات دمشق" تطوي هذه الصفحة بالصور والوثائق السرية

ملخص

تجمعت عائلات المفقودين والمعتقلين في العراء بين باحات سجن صيدنايا وحول النيران، وأخذوا يدققون بتفاصيل المبنى بعد علمهم في ساعات الليل المتأخرة بعدم وجود أي سجن سري في المكان، وتسلل الألم والحسرة والخيبة بعد بحث مضن.

عبر ضوء هاتف نقال يفتش الرجل الستيني أبو حامد بين أوراق سجلات رسمية عتيقة عائدة لأكثر سجون سوريا رعباً، إنه سجن صيدنايا سيئ السمعة، يدقق بلهفة أب مكلوم بولده منذ اقتيد إلى أحد أفرع المخابرات قبل سبعة أعوام، الدقائق تمر هنا ثقيلة، لا سيما مع نضوب الأمل بأعقاب فتح أبواب زنازين المعتقلات كافة وآخرها هذا السجن الذي يغص بأهالي المفقودين.

سجن صيدنايا الواقع على أطراف العاصمة دمشق، ويطلق عليه أيضاً "السجن الأول"، محفور عميقاً لعقود من الزمن بذاكرة السوريين، فهو أكثر أماكن التعذيب وحشية، لا يفارق الموت ردهاته، وجدران غرف التوقيف شاهدة على إعداماته التي زادت قساوة مع اندلاع الحراك الشعبي عام 2011 وبدأت التصفيات الميدانية لا تفارقه. آلاف من المحتجزين ممن تغص بهم زنازين صيدنايا استنشقوا هواء الحرية حين فتح أبوابه على إثر سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد قبل عام، تدفق جميع المعتقلين بلا استثناء، عسكريين ومدنيين ومعارضين للأسد، لكن وبعد يوم الحرية تلاشى الأمل لدى عائلات سورية لم تجد أحبابها بين المفرج عنهم.

رافقت "اندبندنت عربية" في ذلك الوقت عمليات مضنية من حفر بالآلات والأيدي في أرض السجن، بحثاً عن سجن سري أو ما يسمى "السجن الأحمر" من دون جدوى. في ذلك الوقت قضت عائلات المفقودين ليلتها بين ردهات السجن الواسع تتجول للبحث عن أي أثر يدلها على فلذات أكبادها وأقاربها ومعارفها، لكن تبين أنه لا وجود لهذا السجن المزعوم، وهو ما أكده رئيس رابطة معتقلي صيدنايا دياب سرية في حينه بعد خروج 2000 معتقل في يوم التحرير ذاته، مشيراً إلى عدم وجود أي معتقلات وغرف سرية لم تفتح بعد أثناء البحث.

 

وبالعودة لأبو حامد، وهو واحد من مئات العائلات التي تدفقت إلى السجن، وبعد ما نال التعب جسده وخارت قواه أشعل الحطب في تلك الليلة الباردة من شهر ديسمبر (كانون الأول)، وروى لنا ما حل بولده بعد توقيفه وتنقله من سجن إلى آخر وصولاً إلى صيدنايا "أعمل على رعاية خمسة أطفال، أحفادي طوال الوقت أخبرهم: أباكم مسافر وسيعود قريباً. لقد تعبنا، وأنفقنا كثيراً للمحامين ولأصحاب النفوذ طوال السنوات الماضية من دون جدوى".

وتجمعت عائلات المفقودين والمعتقلين في العراء بين باحات السجن وحول النيران، وأخذوا يدققون بتفاصيل المبنى بعد علمهم في ساعات الليل المتأخرة عدم وجود أي سجن سري في المكان، وتسلل الألم والحسرة والخيبة بعد بحث مضن.

"ظل هذا المكان ليوم أمس في يوم التحرير مكاناً للسجناء والمعتقلين، واليوم نقضي ليلتنا به"، هكذا تحدث الشاب وسيم، وهو يتحلق مع عائلته حول الحطب المشتعل في ساحة السجن. يسود الصمت والعيون تلمع دامعة، في لحظة أسى لمفارقة حبيب ليس معروفاً أنه ميت أم حي.

أجسام وأرقام

في غضون ذلك تجولنا في السجن الضخم، فالطابق الأول يحوي على مكاتب إدارة السجن، حيث يمكن رؤية برقيات، وكتب رسمية غالبيتها خطابات بين إدارة السجن والشرطة العسكرية، ومعظم تلك الكتب مبعثرة أرضاً، وهناك وثائق وملفات عن السجن والمعتقلين يمكن أن تصنف بالسرية أكثر بمكتب مدير السجن.

تحدث أحد الثوار الذين شاركوا بفتح أبواب السجن لـ"اندبندنت عربية"، فضل عدم الكشف عن اسمه، عن تأمين السجناء بسيارات إلى مركز المدينة، ومنهم من أسعف إلى المشافي لتقلي العلاج، بينما توجهت سيارات لنقل جثث أعدمها النظام قبل السقوط، "لقد شاهدنا أطفالاً ونساء بغرف السجن، وهناك أشخاص مبتورو الأطراف قدمنا لهم المساعدة للوصول إلى ذويهم".

وثمة رواية تفيد بتخلص إدارة السجن من الوثائق، التي تتحدث عن مصير المعتقلين بطريقة ما.

كذلك عثر على عدد من الوثائق منها وثيقة يخاطب فيها قائد الشرطة العسكرية محكمة الميدان العسكرية الأولى عن وفاة موقوف بتاريخ الـ28 من فبراير (شباط) عام 2020 "والسبب صدمة إنتانية، اضطراب سائلي شاردي" بحسب تقرير الطب الشرعي، وتبين الوثيقة أنه موقوف منذ عام 2019 ويطلب قائد الشرطة العسكرية "إبداء الرأي حيال تسليم الجثة أو إعلام ذويها بالسرعة الفورية"، وتحمل البرقية التي صنفت "سري للغاية" رقم الجثة في مشفى "تشرين العسكري".

أرقام وصور

ومع هذا حاولنا الانتقال إلى مشفى "ابن النفيس" (شمال دمشق) بعد معرفتنا بوجود سجناء نقلوا إلى هناك لتلقي العلاج، وأجرينا لقاء مع أحدهم تحدث عن أساليب التعذيب المتبعة، وطريقة الإعدامات "إنه مكان للموت" روى السجين هذه التفاصيل وبدت على وجهه آثار الندبات والكدمات، وكان يقاطع حديثه دخول كثيرين من الناس يحملون صوراً ويرجونه الرد عليهم للتعرف على صور أشخاص إذا ما كان قد صادفهم بسجن صيدنايا.

واليوم تحولت الأنظار في سوريا إلى ضرورة الكشف عن مصير المفقودين، ولهذا أنشئت هيئة خاصة بالمفقودين، علاوة على عمل متواصل لشبكات حقوقية تحاول جاهدة جمع البيانات والمعلومات، وكذلك شبكات إعلامية جمعت أيضاً معلوماتها المستقاة من وثائق وصور للمعتقلين ممن جرت تصفيتهم، وآخرها تحقيق استقصائي دولي استند إلى 134 وثيقة سرية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

جثث مرقمة ومصنفة

وأظهرت الوثائق والصور التي جمعها مصورون عسكريون جثث المعتقلين مرقمة ومصنفة، بعضها عار وتظهر عليها آثار تجويع وتعذيب، وحمل التحقيق اسم "ملفات دمشق"، حصلت عليها "هيئة الإذاعة الألمانية" بمشاركة مع الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين، وبمشاركة 24 مؤسسة إعلامية من 20 دولة، وامتد العمل نحو ثمانية أشهر من تحليل الوثائق وإجراء مقابلات مع عائلات. ومع ذلك أعلن رئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية أنور البني تسليم هذه الوثائق من ضابط سوري منشق إلى السلطات السورية منذ نحو ستة أشهر، وحصلوا على الصور وقوائم الأسماء، وكان بإمكان السلطات حسم مصير كثيرين من الذين ما زالت مصائرهم معلقة، بحسب وصفه.

وتشير المعلومات إلى أن الصور سربها ضابط سوري سابق شغل منصب رئيس وحدة حفظ الأدلة في الشرطة العسكرية بدمشق بين عامي 2020 ـ 2024، وتضم الوثائق أكثر من 33 ألف صورة تتعلق بمعتقلين قتلوا على يد النظام السابق، والصور لدى الجهة التي تقود الجهود الدولية في ملاحقة الجرائم التي ارتكبها النظام السوري السابق إلى جانب مؤسسات حقوقية سورية.

أسباب عدم الكشف عن الأسماء بوقت مبكر؟

في المقابل، تحدث رئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبدالغني عن أن الشبكة تتلقى منذ عام 2011، بصورة مستمرة، بيانات وصوراً ووثائق وملفات من صحافيين ونشطاء وعائلات ضحايا، "وهذا جزء طبيعي من عمل الشبكة، وتتعامل من حيث التحقيق والتحليل والنشر وسائر المراحل ذات الصلة وفق معايير حقوقية ومهنية دقيقة"، وأشار إلى أن الشبكة لم تتسلم أية صور أو وثائق مرتبطة بما يعرف بـ"ملفات دمشق"، بل "وصلتنا جداول بيانات تتضمن معطيات أولية عن نحو 1500 شخص الغالبية العظمى منها مسجلة لدى شبكة حقوق الإنسان التي تمتلك نحو 180 ألف مختف قسرياً، وتزود الأهالي ببيانات ومعلومات قبل هذه الأسماء وبعدها وعلى مدى سنوات".

وعلى رغم الجهد المبذول للكشف عن حقيقة المفقودين، إلا أن عائلاتهم تتساءل عن أسباب عدم الكشف عن الأسماء بوقت مبكر.

بالعودة لصيدنايا "السجن الأول" في سوريا أغلق أبوابه، بعد ما انصرفت عائلات المفقودين فجر اليوم التالي، يمشون بضع كيلومترات للحاجز الأول، لا يلتفتون خلفهم حيث ذكرى الدم والموت، فقط الأمهات أغدقن دموعهن حين علمن أن آخر أمل لمعرفة مصير أبنائهن انطفأ كشمعة، وعلمن وقتها أن التراب قد لف أجسادهم المعذبة.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير