ملخص
"في الماضي كان للقوات الفرنسية والأوروبية دور كبير في مكافحة تلك الجماعات، لكن الخلافات بين الأوروبيين وقادة الساحل الجدد أدت إلى تراجع الدعم، مما انعكس على قدرات الجيوش المحلية".
في مدينة يلي مانا المالية على الحدود مع موريتانيا، اشتكى سيكو (74 سنة)، والذي رفض الإفصاح عن هويته الكاملة خشية ملاحقته من قبل السلطات، من إخفاء الجيش مصير ابنه الذي كان يقاتل على الجبهة منذ أشهر.
يقول سيكو في حديث إلى "اندبندنت عربية"، "رفاق ابني إبراهيما من الجنود الذين كانوا معه قدِموا لي منذ أيام، وأخبروني بأنه سقط بالفعل مثل العشرات في هجوم شهدته المدينة منذ أشهر، ولم أستلم بعد جثمانه، وتكتمت السلطات على مصيره".
أمر وارد جداً
عمليات إخفاء القتلى والجرحى وأعدادهم على جبهات القتال داخل منطقة الساحل الأفريقي من قبل الجيوش لا تقتصر على مالي، إذ تحدثت مريم عيسى (46 سنة) عن خشيتها من أن يكون "زوجها عمر أصابه مكروه على جبهة القتال داخل بلدة كوكورو في النيجر".
وقالت عيسى بحرقة "لم يصلنا أي نبأ من عمر منذ نحو خمسة أشهر، وتعرضت البلدة التي كان يؤدي فيها واجبه تجاه وطنه لهجمات سابقة. وعلى رغم أن السلطات لم تعلن بعد عن سقوطه أو رفاقه انقطعت الاتصالات مع كثير منهم، مما وضعنا في حيرة كبيرة خصوصاً أن تنظيم ’داعش‘ كثف من هجماته هناك".
وحاولت "اندبندنت عربية" الحصول على تعليقات من سلطات البلدين، لكنهما امتنعتا عن ذلك. وتعلن تلك السلطات باستمرار عن سقوط ضحايا سواء عسكريين أو مدنيين جراء هجمات مسلحة، لكن لا توجد حصيلة نهائية لذلك خصوصاً أن الهجمات لا تكاد تتوقف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال الباحث السياسي والعسكري في شؤون الساحل الأفريقي محمد تورشين إن "إخفاء المجالس العسكرية في دول الساحل عدداً كبيراً جداً من القتلى والجرحى خلال المعارك أمر وارد جداً، باعتبار أن القدرات العسكرية لهذه الدول وخصوصاً في مالي والنيجر وبوركينا فاسو محدودة نسبياً، مقارنة بإمكانات الفصائل والحركات المسلحة داخل هذه البلدان".
وأوضح تورشين في حديث خاص أنه "في الماضي كان للقوات الفرنسية والأوروبية دور كبير في مكافحة تلك الجماعات، لكن الخلافات بين الأوروبيين وقادة الساحل الجدد أدت إلى تراجع الدعم، مما انعكس على قدرات الجيوش المحلية".
وشدد على أن "تلك الدول باتت الآن أمام تحدٍ حقيقي يجعلها تخفي عدد وحتى جثث قتلاها والاستعانة بالروس، لكنها غير قادرة على إحداث فارق واختراقات مهمة على جبهات القتال، وعلى رغم أن موسكو كانت تسخر من الوجود الفرنسي فإنها الآن باتت عاجزة تماماً داخل الساحل الأفريقي، مقارنة بفرنسا التي دعمت بصورة كبيرة أنظمة الساحل وكان هناك شبه استقرار، وهو وضع ينعدم الآن".
لا ردود
وتعرف مالي والنيجر وبوركينا فاسو هجمات متزايدة تشنها تنظيمات مثل جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" المرتبطة بـ"القاعدة"، وأيضاً الجماعات المتمردة التي تسعى إلى استغلال التحولات السياسية والعسكرية التي تعرفها دول المنطقة.
وشهدت هذه الدول انقلابات عسكرية تباعاً، مما أدى إلى صعود قادة جدد مناهضين للتحالف التقليدي مع فرنسا، التي اضطرت إلى سحب قواتها وبعض من بعثاتها الدبلوماسية، في خطوة أثارت وفقاً لمراقبين ارتباكاً تُحسن الجماعات المسلحة استغلاله.
يقول الصحافي النيجري محمد أوال إن "الوضع في الساحل الأفريقي لا يبشر بخير في علاقة بالواقع الأمني والعسكري، فالجيوش الوطنية دخلت ضمن مرحلة من الاستنزاف مع الجماعات المسلحة التي طورت بصورة كبيرة قدراتها العسكرية".
وتابع أوال "أنا شخصياً، تواصلت مع عدد من العائلات التي تعتقد أنها فقدت أبناءها على جبهات القتال، وأكدت أنها لم تتلق أي ردود من السلطات ولم تتسلم جثامين أبنائها أو دليلاً على أنهم أحياء، وهو أمر بات يثير الغضب". وأكد أن "هذا التجاهل من السلطات الانتقالية قد يفجر غضباً ويزيد من شعبية الجماعات المسلحة، لا سيما المتمردة، التي تحاول فرض نفسها بديلاً عن السلطات المركزية".
ضربات موجعة
وتعهدت المجالس العسكرية في النيجر وبوركينا فاسو ومالي باستعادة الأمن والاستقرار خلال المراحل الانتقالية التي ستدير فيها الحكم، لكن مساعيها تواجه تعثراً بصورة كبيرة على رغم استعانتها بالروس سواء عبر مرتزقة "فاغنر" أو قوات الفيلق الأفريقي–الروسي.
وذكرت صحيفة "لوموند" الفرنسية أن "المجالس العسكرية في الساحل الأفريقي تحاول التقليل من خسائرها المرتبطة بالقتال ضد الجهاديين، وتحاول حتى إخفاء مصير الجنود عن عائلاتهم".
وعدَّ الباحث السياسي المتخصص في الشؤون الأفريقية إبراهيم زين كونجي أن "إخفاء الجيوش داخل منطقة الساحل الأفريقي لعدد قتلاها وهويتهم أمر بات سُنة، وهو لا يقتصر على المنطقة فحسب بل يكاد يكون متبعاً لدى بقية جيوش العالم لا سيما في الحروب التقليدية".
وأوضح كونجي "لكن المشكلة أن الإعلام الفرنسي يضخم هذه الأزمة، فيما يتجاهل بصورة كبيرة ما ارتكبته القوات الفرنسية من تجاوزات داخل منطقة الساحل الأفريقي، والثابت في المقابل أن المجالس العسكرية في الساحل لا تعلن الأرقام الحقيقية لعدد قتلى جنودها، وحتى إذا ما أعلنت فإنها تخفض من أعدادهم".
ونبه إلى أن "المجموعات المسلحة كانت قوية وقت تلقيها دعماً من قبل كثير من الدول، لكن مع تغيير الأنظمة المحلية خلال الأعوام الأخيرة بدأت هذه الجماعات تتلقى ضربات موجعة، بعدما كانت ترتع بصورة مطلقة وترتكب جرائم في حق المدنيين العزل والأبرياء خصوصاً داخل البلدات النائية".
وختم كونجي بالقول إنه "خلال الفترات الأخيرة باتت الجيوش تحمي الأرض وتحقق إصابات مباشرة، والثابت أن الجماعات المسلحة بدأت تتقهقر ويتراجع نفوذها لكن في الحرب هناك سجال وكر وفر بين الجيوش وخصومهم".