ملخص
تاريخياً، لم تكن عمليات الإغلاق الحكومي في الولايات المتحدة حدثاً نادراً، لكنها هذه المرة تتزامن مع ظروف اقتصادية دقيقة، فالتضخم لم يحتوَ بالكامل، وسوق العمل التي لا تظهر علامات تباطؤ ، لذلك فإن أية صدمة إضافية قد تدفع الاقتصاد إلى ركود مؤلم.
دخل الاقتصاد الأميركي صباح أمس الخميس في اختبار جديد، بعدما تحول شبح الإغلاق الحكومي إلى حقيقة مع توقف مؤسسات فيدرالية عن العمل منذ منتصف ليل أمس الأربعاء.
وبينما يترقب المستثمرون انعكاسات الشلل الإداري على "وول ستريت" وسوق الطروحات الأولية، يرى محللون أن الأيام المقبلة ستحدد ما إذا كان الأمر مجرد تعثر قصير، أو بداية أزمة تمتد آثارها لأسابيع وتضع الاقتصاد الأكبر في العالم على حافة تباطؤ أعمق.
منذ الدقائق الأولى لدخول الإغلاق حيز التنفيذ، بدا المشهد في العاصمة الأميركية مثقلاً بالارتباك، إذ أجبر آلاف الموظفين الفيدراليين على التوقف عن العمل أو الاستمرار من دون أجر، فيما تعطلت جزئياً خدمات حكومية حساسة.
وجاء هذا التعطل بعد فشل البيت الأبيض والكونغرس في التوصل إلى اتفاق لتمويل الموازنة، على رغم مفاوضات استمرت حتى اللحظات الأخيرة.
تاريخياً، لم تكُن عمليات الإغلاق الحكومي في الولايات المتحدة حدثاً نادراً، لكنها هذه المرة تتزامن مع ظروف اقتصادية دقيقة، فالتضخم لم يحتوَ بالكامل، فضلاً عن سوق العمل التي لا تظهر علامات تباطؤ ومخاوف، لذلك فإن أية صدمة إضافية قد تدفع الاقتصاد إلى ركود مؤلم.
الأسواق بين القلق واللامبالاة
وعلى رغم خطورة الوضع، أظهرت "وول ستريت" حتى اللحظة قدراً من الهدوء، فتراجعت المؤشرات الرئيسة بصورة محدودة أمس، في حركة فسرها بعضهم بأنها "انتظار وترقب".
وشرح ذلك كبير استراتيجيي الاستثمار في "أوبنهايمر" جون ستولتزفوس، إذ قال إن "السوق لا تظهر الرضا عن الذات بقدر ما تعكس خبرة تراكمت عبر عقود من التعامل مع أزمات مشابهة"، مضيفاً أن "المستثمرين يعلمون أن الإغلاقات غالباً قصيرة العمر، لكن لا يمكن إنكار أن طول الأزمة قد يغير قواعد اللعبة".
والبيانات التاريخية تدعم طرح ستولتزفوس، فمنذ عام 1977 شهدت الولايات المتحدة 20 إغلاقاً حكومياً بمتوسط ثمانية أيام وحسب، لكن أطولها في 2018 الذي امتد إلى 35 يوماً، ترك جراحاً عميقة في الاقتصاد.
الطروحات الأولية: الضحية المباشرة
وإذا كانت الأسواق الثانوية تتحرك بحذر، فإن سوق الطروحات الأولية أصيبت بالشلل منذ اللحظة الأولى للإغلاق، إذ إن هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية التي تشرف على مراجعة نشرة الإصدار ومنح الموافقات، تعمل حالياً بقدرة محدودة لا تسمح بتمرير أي اكتتاب جديد.
وهذا التعطل ضرب في مقتل خطط شركات كانت تستعد للظهور في "وول ستريت" خلال الأسابيع المقبلة مثل شركتي "Once Upon a Farm" للأغذية والطائرات الكهربائية "Beta Technologies".
ووصف الشريك في "رانينغ بوينت كابيتال أدفايزرز" Running Point Capital Advisors مايكل آشلي شلمان الموقف، قائلاً "الإغلاق شل عمل الهيئة بالكامل في أسوأ توقيت ممكن، تماماً عند بداية ذوبان جليد سوق الطروحات بعد أعوام من الركود".
ووفق بيانات "ديلوجيك" Dealogic، جمعت الطروحات الأميركية نحو 53 مليار دولار حتى نهاية سبتمبر (أيلول) الماضي، وهو أعلى مستوى منذ عام 2021، لكن الإغلاق الحالي يهدد بقطع الطريق أمام هذا التعافي، وربما يعيد السوق لحال الجمود.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الأضرار لا تتوقف عند حدود البورصة، وبمعنى آخر حذرت مذكرة لمجلس المستشارين الاقتصاديين في البيت الأبيض من أن الناتج المحلي الإجمالي قد يخسر 15 مليار دولار عن كل أسبوع من الإغلاق، فيما قد يؤدي شهر كامل إلى زيادة البطالة نحو 43 ألف شخص.
علاوة على ذلك، توقعت المذكرة تراجع الإنفاق الاستهلاكي بنحو 30 مليار دولار خلال شهر واحد وحسب، نصفها نتيجة فقدان دخول الموظفين الفيدراليين، والنصف الآخر نتيجة تأثيرات متسلسلة في قطاعات أخرى من الاقتصاد.
وعلقت كبيرة استراتيجيي السوق في "ريثولتز لإدارة الثروات" كالي كوكس أن "الإغلاق المطول سيكون بمثابة صدمة جديدة يصعب استيعابها، ولو كان الاقتصاد في وضع أقوى لكان التأثير محدوداً"، مستدركة "لكننا نقف بالفعل على أرض رخوة".
"وول ستريت" تبحث عن "ذريعة للتراجع"
بعض المحللين يعتقدون بأن الأسواق القوية منذ بداية العام قد تجد في الإغلاق مبرراً للتصحيح، ولتوضيح ذلك قال بريت كينويل من "إي تورو" eToro إن "الأسهم ارتفعت كثيراً، ويبحث المستثمرون عن سبب للتراجع، فإن إغلاقاً طويلاً قد يؤدي إلى هبوط يراوح ما بين خمسة في المئة و10 في المئة".
أما ستولتزفوس، فيرى أن التراجع (إن حدث) سيكون فرصة انتقائية، ونصح "لا نوصي بالشراء العشوائي في الانخفاض، لكن السوق ستمنح المستثمرين الجادين فرصاً ثمينة لالتقاط أسهم عالية الجودة بأسعار أرخص".
ذكريات 2018... هل تتكرر؟
والإغلاق الأطول في تاريخ الولايات المتحدة الذي استمر 35 يوماً في الفترة ما بين ديسمبر (كانون الأول) عام 2018 ويناير (كانون الثاني) عام 2019 يقدم درساً مزدوجاً، فعلى رغم معاناة الموظفين الفيدراليين وشلل بعض المؤسسات، فإن سوق الأسهم أنهت تلك الفترة على ارتفاع تجاوز 10 في المئة لمؤشر "ستاندرد أند بورز 500".
ولتوضيح ذلك، قال كبير استراتيجيي واشنطن في شركة "ستيفل" براين غاردنر "الإغلاقات لم تسقط الاقتصاد يوماً في ركود، لكنها تزرع حال عدم يقين تكرهها الأسواق بشدة".
لكن الظروف اليوم مختلفة، فالتضخم لا يزال أعلى من المستهدف وأسعار الفائدة مرتفعة والوظائف تظهر تباطؤاً، مما يجعل تحمل صدمة إغلاق طويل أكثر صعوبة.
الطروحات المؤجلة... خسارة للجميع
المحلل لوكاس مولباور من "آيبوكس" IPOX يرى أن الضرر لا يقتصر على الشركات الباحثة عن التمويل، بل يمتد إلى البنوك التي تخسر الرسوم والبورصات التي تفقد عائدات الإدراج، وحتى المستثمرين الذين يفوتون فرص دخول شركات واعدة، ورجح أن "يتأجل كل شيء، لكن التجربة السابقة أظهرت أن السوق تستعيد نشاطها سريعاً بمجرد إعادة فتح الحكومة، فالطلب على الاكتتابات قوي والتدفقات الاستثمارية جاهزة، مما يعني أن التعافي سيكون سريعاً على رغم العثرات الموقتة".
والإغلاق ليس مجرد حدث إداري، بل إنه انعكاس لانقسام سياسي عميق بين البيت الأبيض والكونغرس، من ثم اتهم المتحدث باسم البيت الأبيض كوش ديساي المعارضة الديمقراطية بأنها "تحتجز الحكومة والاقتصاد رهينة"، فيما يلقي الجمهوريون باللوم على إدارة بايدن في تضخم الإنفاق وغياب الرؤية المالية.
وبينما يتقاذف الساسة الاتهامات، يبقى المواطن الأميركي هو الخاسر الأكبر، سواء كان موظفاً فيدرالياً ينتظر راتباً مجمداً، أو مستثمراً يحاول قراءة السوق وسط ضباب كثيف من الشكوك.
السيناريوهات المقبلة
المراقبون يرون أن اليومين المقبلين سيكونان حاسمين، فإذا انتهى الإغلاق سريعاً بتسوية في الكونغرس، فالأضرار ستكون محدودة وسرعان ما تعوضها الأسواق، أما إذا امتدت الأزمة لأسابيع، فقد تترتب عليها خسائر بمليارات الدولارات وتعطيل لمسار الطروحات الأولية وزيادة ملحوظة في تقلبات الأسواق.
بعبارة أخرى، لخص كبير استراتيجيي السوق في "أمبريزا فايننشال" أنطوني ساغليمبين، الموقف قائلاً "إغلاق يمتد لأسابيع سيضعف المعنويات ويزيد الاضطرابات، لكن التاريخ يظهر أن الخريف غالباً ما يكون موسماً قوياً للاكتتابات، مما يرجح أن تتجاوز السوق آثار التعثر في المدى المتوسط".
في النهاية، يبدو أن الإغلاق الحكومي الأميركي دخل منعطفاً خطراً هذه المرة، ليس لأنه يضع ملايين الموظفين والمستثمرين في دائرة الترقب وحسب، بل لأنه يأتي في لحظة هشة للاقتصاد الأميركي.
وبينما يراهن بعضهم على صلابة السوق، يحذر بعضهم الآخر من أن طول الأزمة قد يترك ندوباً أعمق من أي وقت مضى.
والمشهد مفتوح على كل الاحتمالات، ما بين ارتداد سريع يعيد الثقة، أو مطب طويل يختبر قدرة أميركا على تجاوز أزماتها السياسية من دون أن تدفع ثمنها اقتصادياً.