ملخص
أطول فترة إغلاق في التاريخ الأميركي كانت أيضاً في عهد الرئيس دونالد ترمب، واستمر 35 يوماً من ديسمبر 2018 حتى يناير 2019، بسبب إصرار ترمب على تمويل بناء الجدار الحدودي مع المكسيك.
تقترب الولايات المتحدة من أزمة تمويل حكومي جديدة مع حلول الأول من أكتوبر، وسط انقسامات سياسية حادة بين الجمهوريين والديمقراطيين حول ملف الرعاية الصحية، وعلى رغم أن الأسواق المالية تبدو مطمئنة نسبياً استناداً إلى تجارب سابقة أظهرت تأثيراً محدوداً في الاقتصاد، فإن هذه المرة تحمل ملامح مختلفة، مع تهديدات بالفصل الجماعي لموظفين فيدراليين بدلاً من الإجازات الموقتة المعتادة.
وبينما يهون الاقتصاديون من التداعيات المباشرة، يحذر المراقبون من أزمة ثقة أعمق في قدرة واشنطن على إدارة شؤونها.
يلوح الإغلاق الحكومي في الأفق بعدما فشل الكونغرس في تمرير مشاريع قوانين التمويل، مما يجعل احتمالية التوقف الكامل أكثر ترجيحاً.
فرص الإغلاق
وتشير توقعات المراهنات السياسية إلى أن فرص الإغلاق تتجاوز 65 في المئة، إلا أن تجارب الماضي أظهرت أن تأثيره في الاقتصاد الكلي والأسواق المالية ظل محدوداً، فقد كلفت الإغلاقات السابقة نحو 0.1 نقطة مئوية فحسب من الناتج المحلي الإجمالي لكل أسبوع، قبل أن تعاود المؤشرات الانتعاش بمجرد صرف رواتب الموظفين.
تاريخياً، شهدت الولايات المتحدة أكثر من 20 إغلاقاً حكومياً منذ سبعينيات القرن الماضي، تراوحت مدتها ما بين أيام قليلة وأشهر طويلة، ومن أبرزها إغلاق عام 1995 خلال رئاسة بيل كلينتون بسبب خلافات حول الإنفاق، وإغلاق 2013 في عهد باراك أوباما المرتبط بتمويل "أوباما كير"، إضافة إلى أطول إغلاق في التاريخ الأميركي الذي وقع ما بين ديسمبر (كانون الأول) 2018 ويناير (كانون الثاني) 2019، واستمر 35 يوماً بسبب إصرار دونالد ترمب على تمويل بناء الجدار الحدودي مع المكسيك.
وعلى رغم أن الأسواق نجت من صدمات كبرى خلال تلك الأزمات، فإنها عمقت حال الاستقطاب السياسي وأثارت قلق المؤسسات المالية الدولية في شأن استقرار القرار الأميركي.
لكن المخاوف هذه المرة تتجاوز الأرقام، إذ وجه البيت الأبيض الوكالات الفيدرالية بالاستعداد لتسريحات دائمة للعمال، في خطوة غير مسبوقة قد تعمق ضعف سوق العمل المحلية في العاصمة.
ويرى محللو بنك "أوف أميركا" أن الخطر الأكبر لا يكمن في الاضطراب المالي المباشر، بل في تراكم صورة "العجز المزمن" عن إدارة الموازنة، وهو ما قد يؤثر في ثقة المستثمرين في المدى الطويل.
يشار إلى أن وكالات التصنيف خفضت تصنيف الولايات المتحدة من قبل بسبب المساومة على حد الدين، لكن ليس أبداً بسبب إغلاق حكومي.
"قيادة البلاد نحو فوضى مؤلمة"
على الصعيد السياسي تشتعل المواجهة بين الحزبين، بعدما هاجم زعيم الديمقراطيين في مجلس النواب حكيم جيفريز الرئيس الأميركي والجمهوريين، متهماً إياهم بـ"قيادة البلاد نحو فوضى مؤلمة" عبر رفضهم التفاوض حول الرعاية الصحية.
في المقابل، يرى الجمهوريون أن الديمقراطيين ينصبون "فخاً سياسياً" بربط تمويل الحكومة بمطالب تتعلق ببرامج "ميديكيد" والإعانات الخاصة بقانون الرعاية الميسرة، ويؤكدون أن التسوية ممكنة إذا تخلوا عن شروطهم.
ويتمحور الخلاف حول نقطتين أساسيتين، أولاهما إلغاء تخفيضات "ميديكيد" التي فرضتها حزمة ترمب الضريبية والإنفاقية الأخيرة، وتمديد الإعانات المعززة للتأمين الصحي التي ساعدت ملايين الأميركيين بعد جائحة "كوفيد-19".
وبينما يتمسك الديمقراطيون بضرورة إدراج هذين البندين، يصر الجمهوريون على تأجيل النقاش في شأنها حتى نهاية العام.
المشهد يزداد تعقيداً مع تعليمات مكتب الموازنة التابع لترمب بالتحضير للفصل الجماعي للموظفين، وهو ما يعتبره مراقبون سابقة قد تجعل آثار الإغلاق هذه المرة أكثر قسوة من إغلاق 2018–2019.
على أثر ذلك، ينوي البيت الأبيض تسريح عدد كبير من الموظفين بصورة دائمة من الوكالات الحكومية، في حال تعذر على الكونغرس إقرار موازنة بحلول الـ30 من سبتمبر (أيلول) الجاري، بحسب مستند رسمي نشر مضمونه موقع "بوليتيكو" الإخباري.
وتعد نهاية الشهر الجاري المهلة القصوى لإقرار موازنة، ولو موقتة، بغية تفادي "إغلاق حكومي" مع شل المؤسسات الفيدرالية.
سبعة أصوات ديمقراطية في الأقل
وقال مدير مكتب الإدارة والموازنة "أو أم بي" في البيت الأبيض راسل فو في رسالة موجهة إلى الوكالات الحكومية "خلال الفترات المالية الـ10 الماضية، عكف الكونغرس بحزبيه على اعتماد موازنة في مهلة أقصاها الـ30 من سبتمبر الجاري"، وتابع "للأسف، أعلن الديمقراطيون في الكونغرس عزمهم كسر هذا التقليد المعتمد من الحزبين وشل الحكومة في الأيام المقبلة بسبب سلسلة من الطلبات لا معنى لها".
وطلب راسل فو في الرسالة التي اطلعت وكالة الصحافة الفرنسية على مضمونها من الوكالات الفيدرالية إعداد خطط لخفض عدد الموظفين العاملين في إطار برامج لا تمويل لها حالياً ولا مصدر خارجياً لتمويلها و"ليست متماشية مع أولويات الرئيس دونالد ترمب".
وأشارت مذكرة مكتب الإدارة والموازنة إلى أن كل خفض في عدد الموظفين يجري بعد المهلة القصوى للتمويل سيكون دائم المفعول.
وفي حال حدوث "إغلاق حكومي" أو ما اصطلح على تسميته "شاتداون"، سيشل الجزء الأكبر من الخدمات الفيدرالية وسيمسي مئات الآلاف من الموظفين الحكوميين في حال بطالة تقنية، وسيرتد ذلك سلباً على حركة الملاحة الجوية ودفع المساعدات الاجتماعية.
ويتمتع الجمهوريون بالغالبية في مجلسي الكونغرس، لكن نظراً إلى الأحكام المعمول بها في مجلس الشيوخ، ينبغي للجمهوريين الحصول على سبعة أصوات ديمقراطية في الأقل، ويطالب الحزب الديمقراطي بإعادة تخصيص مئات مليارات الدولارات لقطاع الصحة.
ويقول الجمهوريون من جهتهم إن خطة الإنفاق الموقتة التي أعدوها لسبعة أسابيع لتمويل الحكومة حتى أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل هي الوحيدة المطروحة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذا ما اعتمد الكونغرس مشروع قانون الموازنة قبل المهلة القصوى، "فلا حاجة إلى التدابير الإضافية التي عرضت في الرسالة الإلكترونية"، وفق ما جاء في مذكرة مكتب الإدارة والموازنة.
واعتبر زعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر أن هذه المذكرة "محاولة تخويف"، بحسب ما نقلت عنه صحيفة "نيويورك تايمز".
وقال تشومر إن "دونالد ترمب يسرح موظفين فيدراليين من اليوم الأول، ليس ليبسط حكمه بل ليثير الخوف"، مشيراً إلى أن "الأمر ليس جديداً ولا صلة له بتمويل الحكومة".
اهتزاز ثقة الداخل والخارج
على رغم ذلك، أعرب جيفريز عن أمله في التوصل إلى اتفاق، لكنه حمل ترمب المسؤولية الكاملة عن الموقف المتأزم، خصوصاً بعد إلغاء الجمهوريين جلسة التصويت المقررة الأسبوع المقبل، وإلغاء ترمب اجتماعه مع قادة الديمقراطيين هذا الأسبوع.
وقال جيفريز "دونالد ترمب والجمهوريون هم عملاء فوضى"، مضيفاً "في اللحظات التي تتطلب قيادة رئاسية مستقرة، يكون ترمب غير قادر على توفيرها"، وطالب جيفريز الرئيس ترمب صراحة بالعودة إلى واشنطن بعدما حضر الأخير بطولة "رايدر كاب" للغولف في نيويورك، متسائلاً "لماذا أنت في حدث غولف الآن؟ والحكومة على بعد أربعة أيام من الإغلاق"، قائلاً "هذا أمر مشين".
على أية حال، وعلى رغم أن الأسواق ما زالت هادئة والأزمة تبدو مالية الشكل سياسية الجوهر، فإن الإغلاق الحكومي المحتمل يحمل رسالة مقلقة عن هشاشة التوافق في واشنطن.
وإذا كان التأثير الاقتصادي المباشر محدوداً، فإن الضربة الكبرى تكمن في اهتزاز ثقة الداخل والخارج بقدرة الولايات المتحدة على إدارة أزماتها، ليبقى السؤال مفتوحاً: هل يتحول الإغلاق إلى محطة عابرة أخرى أم إلى دليل جديد على ترسخ الشلل السياسي في قلب العاصمة؟