Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مشروع روبرت ردفورد بين التمثيل والإخراج والالتزام السياسي

بوسامة كلاسيكية وحضور كاريزماتي عبر أكثر من نصف قرن من التاريخ الأميركي

ردفورد مع بربارا سترايسند في  فيلم "كما كنا" (ملف الفيلم)

ملخص

خلف ملامحه الرزينة وصوته الواثق، يقف روبرت ردفورد الراحل عن 89 سنة، كأحد أكثر وجوه الشاشة الأميركية تمثيلاً لصراع القيم.

بدأت إطلالات روبرت ردفورد التمثيلية في مطلع الستينيات، ولم يحتج إلى وقت طويل قبل أن يحتك بالكبار فارضاً نفسه بهدوء. بوسامة كلاسيكية وحضور كاريزماتي، استطاع أن يعبر أكثر من نصف قرن من تاريخ بلاده، حاملاً مشروعاً فنياً طويل النفس، تقاطع فيه الأداء التمثيلي والطموح الإخراجي مع الموقف السياسي والالتزام الثقافي. مشروع لم يكن مؤطّراً بأدلجة جاهزة، إنما متحرك بحس إنساني أقرب إلى الطبيعة التي جعلها أفقاً أخلاقياً وجمالياً لتجربته كلها.

ثلاثة أفلام صنعت ردفورد في بداياته: "المطاردة" لآرثر بن، حين وقف إلى جانب مارلون براندو وجاين فوندا وأنجي ديكنسون، ثم جاء "باتش كاسيدي وساندانس كيد"، التعاون الأول مع المخرج جورج روي هيل، ليمنحه دفعة أكبر ويضعه في ثنائية شهيرة مع بول نيومان، لكن النقلة النوعية التي كرسته كوجه أساس في هوليوود كانت في "ذا ستينغ"، ثاني شراكته مع روي هيل، في هذا العمل، أُسند شخصية جوني هوكر، المحتال الذكي في قلب نيويورك الثلاثينيات، في حبكة تتقاطع فيها الخدعة مع الانتقام، الفيلم حصد سبع جوائز "أوسكار"، وأصبح لاحقاً جزءاً من الأرشيف الوطني الأميركي.

منذ بداياته، أظهر ردفورد استعداداً للتضحية من أجل ما يؤمن به، فيلم "جيريميا جونسون" لسيدني بولاك مثلاً، كان ساحة اختبار لقدرة الممثل على الصمود في وجه الظروف القاسية، جسدياً ونفسياً، انطلاقاً من تجربة جندي سابق (ردفورد) قرر الهرب إلى الطبيعة والعيش في حضنها، إنها واحدة من هذه التجارب السينمائية التي جعلته يعي أن حياة الممثل غير محصورة بالمجد الباطل والجوائز والسجادة الحمراء بقدر ما هي تحديات متواصلة للتجديد والارتقاء. في هذا الوسترن غير التقليدي الذي أحدث قطيعة مع ثوابت هذا النوع السينمائي، أدى دوراً شبه صامت، أراد من خلاله تشكيل صورة أخرى عن أميركا، أكثر عمقاً وأصالة. 

ردفورد من جيل شكّلت حرب فيتنام وعيه السياسي. في مقابلة، يتذكّر: "عندما كنت شاباً، لم أكن ناضجاً فكرياً، لكن عندما أصبحت مراهقاً، اندلعت حرب فيتنام... عندها أدركت الدور الذي يمكن أن يؤديه الفن على صعيد المجتمع، ولم أكن أفكر في السياسة حتى زرت أوروبا... بالنسبة إليّ، كانوا مجرد رجال مملين يرتدون البدل، لكن عندما وصلت إلى أوروبا، بدأت أفهم السياسة أكثر وأفهم الطبيعة البشرية، وعندما عدت أصبحتُ شديد الانتقاد لسياسات بلدي". 

انطلاقاً من هذا، يصعب تناول ردفورد غداة رحيله، من دون الحديث عن تعاونه مع المخرج سيدني بولاك (1934 - 2008)، وهو أهم تعاون له مع مخرج، علماً أنه كانت نشأت صداقة بينهما بعدما جمعهما فيلم مستقل في بداياتهما، معاً شكّلا واحدة من أكثر الثنائيات تأثيراً في سينما السبعينيات والثمانينيات، وأثمرت عن سبعة أفلام بين 1966 و1990، العلاقة التي ربطت بينهما تجاوزت التعاون المهني، لتصبح شراكة فكرية ذات نكهة أخلاقية، بدأ هذا التعاون مع "هذا العقار مغلق" الذي يحملنا إلى زمن الكساد الكبير في أميركا الثلاثينيات.

شابة حالمة (ناتالي وود) تسعى إلى الهرب من واقعها البائس في بلدة صغيرة، لكن حبها لشاب مختلف (ردفورد) يصطدم بطمع والدتها، فتنتهي قصتها بالهرب إلى المجهول بعد انكسار الحلم، تلاه "كما كنّا"، حين لعب ردفورد إلى جانب باربرا سترايسند دور الحبيب اللامبالي وسط علاقة حب تتخللها التوترات السياسية والطبقية، الحرب المكارثية والصراعات الأيديولوجية خلفية متداخلة مع الحب نفسه. ثم جاء "أيام كوندور الثلاثة" مع فاي داناواي، ثريللر سياسي يتحول إلى مرآة للواقع الأميركي في عصر النفط والاستخبارات، ردفورد هنا موظف صغير في جهاز كبير، يكتشف صدفةً مؤامرة تفوق قدرته، لكنه يصرّ على فضحها عبر الصحافة، متحدياً آلة السلطة، أما في "الفارس الكهربائي"، فيظهر بدور رياضي متقاعد يفضح الفساد المستشري. السيناريو بسيط ظاهرياً، لكنه يخفي تحليلاً لانهيار القيم في المجتمع المعاصر، كان بولاك في تلك المرحلة ينجز أفلاماً عن أميركا انطلاقاً من موقع الحرص والنقد لا من موقع العداء. 

ثم جاء "خارج أفريقيا"، النقطة الأعلى في تعاونهما، حين تم تحويل قصة حب غير متوقعة بين ثرية دانماركية (ميريل ستريب) ومغامر بريطاني (ردفورد) في كينيا الاستعمارية إلى تأمل سينمائي في صدام الثقافات والعزلة والتضحية. حقق الفيلم إيرادات عالية، تجاوزت كل ما حققته أفلامهما السابقة معاً، ونال سبعة "أوسكارات" من بينها أفضل فيلم، أما ختام شراكتهما، فكان "هافانا"، الذي يحمل عبق الحنين إلى كوبا في فترة الثورة، حيث تتداخل السياسة مع المشاعر في تركيبة حيوية.

عن تجربته مع بولاك، قال ردفورد: "جمعتنا علاقة سينمائية رائعة أعواماً طويلة، بدأت عام 1960 واستمرت حتى عام 1990. كانت تجربة تعاونية، كان سيدني المخرج وأنا الممثل، ولكن خلف الكواليس كنا نعمل معاً على السيناريو، كما أننا ربينا أطفالنا معاً. أخذنا على عاتقنا مشاريع صعبة جداً، كثيراً ما عرف سيدني كيف يجمع عناصر الفيلم كلها، وهذا ما منحني حرية الأداء، وثقت به جداً، إذ كان هناك راحة وثقة وولاء من كلا الجانبين". 

التماهي بين السينما والالتزام السياسي بلغ ذروته مع "كل رجال الرئيس" لآلن جاي باكولا، أحد أهم الأفلام السياسية في السبعينيات الذي أعاد تمثيل لحظة مفصلية في التاريخ الأميركي: فضيحة ووترغيت، انطلاقاً من سرد لقصة تحقيق صحافي، أصبح الفيلم بياناً لفكرة الدفاع عن الحقيقة، وجذب في نهاية مشواره داخل الصالات أكثر من 33 مليون مشاهد، أدى فيه ردفورد دور الصحافي بوب وودوارد الذي فجر قضية ووترغيت مع زميله كارل برنستين (داستن هوفمان). 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الأثر الحقيقي لردفورد بدءاً من مطلع الثمانينيات لم يكن أمام الكاميرا، إنما خلفها. تأسيسه معهد "ساندانس" الذي تحول لاحقاً إلى مهرجان (يأتي الاسم من الشخصية التي أداها في فيلم جورج روي هيل) جعل منه أحد أبرز الداعمين للسينما المستقلة في أميركا، فاتحاً المجال لأصوات بديلة خارج آليات الإنتاج الهوليوودي، كان يؤمن بأن الفن لا يُختصر في الاستوديوهات الضخمة، بدءاً من هذه الفترة أيضاً، انطلقت مسيرته كمخرج وقدّم طوال أربعة عقود تسعة أفلام روائية طويلة، كان أولها "أناس عاديون"، الذي فاز عنه بجائزة "أوسكار" أفضل مخرج وأفضل ممثل، وذلك منذ تجربته الإخراجية الأولى، الفيلم يتناول الحال النفسية لعائلة بورجوازية بعد فقدان ابنها. 

منذ البداية، أظهر ردفورد اهتمامه العميق بالشرط الإنساني: الفقد، التصدع، العزلة، البحث عن الحقيقة، مما انعكس على رؤيته الإخراجية، في "النهر يجري من خلاله"، فتح الباب أمام براد بيت، وفي "هامس الخيول"، قدّم معالجة شاعرية لعلاقة الإنسان بالطبيعة، فيما هو وقف خلف الكاميرا وقبالتها إلى جانب كريستين سكوت توماس، يمكن القول إن تجربته الإخراجية كانت انتقائية، لكنها اتسمت دوماً برهافة حس وصدق شعوري واضح، بحث من خلالها عن الأصالة، لكن النجاح التجاري كان أيضاً على الموعد، على رغم أدائه اللافت في عدد كبير من الأدوار، لم يُتوَّج بجائزة "أوسكار" لأفضل ممثل، إلا أن الأكاديمية سعت إلى تدارك هذا الغياب، فمنحته في عام 2002 "أوسكاراً" فخرياً عن مجمل أعماله، في خطوة تعويضية أشبه باعتراف بمكانته وتأثيره في السينما الأميركية، لا سيما المستقلة منها. 

اقرأ المزيد

المزيد من سينما