ملخص
تكشف رواية "البحر الأسود المتوسط" للروائي والإعلامي الأردني هزاع البراري عن خيبة الأمل التي رافقت احتجاجات الربيع العربي في عام 2011، وتتقصى الأحوال المستجدة، في مدن متوسطية مختلفة دفعت أثمان هذا التغيير، بعد أن تحولت من مدن معمورة إلى متاهات غيرت لون البحر، وحولته من الأبيض إلى الأسود.
تواجه الرواية، التي صدرت عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، السرديات الشائعة عن جماليات المدن المتوسطية، وتبرز حلتها الأخيرة بعد أن أصبحت مدناً تفيض بالموت وتنطق به. ولا تنشغل بالطابع المعماري في هذه المدن التي تمثل مسرحاً للأحداث، إذ ينشغل مؤلفها بالخراب الذي ملأ شخصياتها، وهي تلاحق أقدارها ذاهبة إلى موت محقق. يلجأ البراري، الذي يكتب المسرح والقصة، إلى تقنية تعدد الأصوات، إذ تتولى شخصياته الرئيسة (كريم رحال - رشا - فيرا - وليام - لطفي الأدلبي - أبو حذيفة) تقديم نفسها للقارئ، وتسرد ما عاشته من أحداث، لكن كريم رحال يبقى هو البطل المركزي، ويشترك مع الشخصيات كافة في الاستسلام لنزعة استدعاء الماضي والانتماء إليه.
يتمزق هؤلاء الأبطال داخل مدن متوسطية، أو داخل المنافي التي تفوح منها رائحة النهايات، وخلفهم حكايات متروكة وناقصة من دون اكتمال.
مواجهة مع الماضي
تبدأ الرواية من نقطة تصعيد درامي مثيرة، إذ يلتقي بطلها كريم رحال للمرة الأولى مع ابنه وليام، الذي اكتشف وجوده بعد أن اضطرت أمه السويدية، في لحظات احتضارها، إلى الكشف عن الأب المجهول. يحمل الابن اسم والدته فيرا التي عاشت تقاوم الخذلان وتقتات عليه، فقد مات والدها، وتركتها أمها وتزوجت صديقاً قديماً، وهو تقريباً ما فعلته والدة كريم التي تخلت عنه في مراهقته.
بعد موت فيرا، يواصل ابنها وليام البحث عبر شبكة الإنترنت عن أية معلومات تساعده في الوصول إلى والده، الذي كان قد تعرف على أمه خلال دورة تدريبية جرت في السويد قبل ربع قرن. يصل وليام إلى البريد الإلكتروني لجده ويتواصل معه، وقد أصابه الفرح لأنه لم يعد ابن خطيئة ولم يأت من العدم. ويقوده اعتقاد بأن حياة مختلفة وأن هوية جديدة في انتظاره، فيخوض رحلته بحثاً عن هذه الهوية المفقودة. ولتأكيد صدقية روايته للجد يجري التحاليل الطبية التي تثبت صحة النسب، غير أن الأب رحال يرفض الاعتراف به ويواصل إنكار وجوده. وبعد أن يلتقي به، يحاسب نفسه لأنه لم يحتضنه وتركه مهزوماً مرتبكاً.
يعمل رحال صحافياً متخصصاً في كتابة التقارير حول أوضاع اللاجئين، مما يقوده لملاحقة شخصيات ذوات هويات مختلفة ومتناقضة أحياناً، لكنها تعيش داخل مدن متوسطية وتعاني مثلها من التشظي. وعلى الصعيد الشخصي عانى عقدة أمه التي تركته مع والده في مهب الأسئلة عن المصير الذي ينتظره، ثم تزوجت من رجل آخر وغادرت إلى أميركا، فعاش حياته كأنه يقف "بقدم واحدة".
تأخذ الرواية شكل التحقيق الأستقصائي، إذ يبدأ كريم رحلة من الإسكندرية للقاء بعض ضحايا الربيع العربي ممن تغيرت مصائرهم وبدلوا هوياتهم الأيديولوجية. تبدأ رحلة كريم من الأسكندرية وتنتهي فيها استجابة لفكرة المتاهة التي تمثل الإطار الحاكم لتحولات الأبطال، فالأسكندرية هي المدينة التي سقطت من فضاء بعيد، قبل أن تغزوها الأيام المتشابهة، ثم يتابع سيرة التشوه واضطراب الهوية في مدن عربية أخرى غرقت في سلوكيات عشوائية وسياسات إفقار أوقفت حداثتها.
لا تبدو التغييرات التي يرصدها البطل المركزي سوى انعكاس لتغيرات مماثلة طاولت الشخصيات الروائية، التي عاشت تحولات مفزعة وتبدلت هوياتها الفكرية أكثر من مرة.
خلال سنوات المراهقة، نجح والد كريم في إنقاذه من التورط مع الحركات السلفية الجهادية، بعد أن أمده بكتب تغطي معارف متنوعة كشفت له عن اتساع العالم، وانتصرت لفكرة التنوع والاختلاف وللتفكير النقدي، مما جعل الشيخ السلفي يخاف من ولعه بالسؤال، مؤكداً أن الأسئلة وطن الشيطان، تقود إلى الشك، والشك معصية". يلتقي كريم برموز الحركة السلفية، وأولهم الشيخ رشيد الإسكندراني، ضمن سلسلة تحقيقات يكتبها حول تجارة الخوف والهجرة غير الشرعية، أملاً في الوصول إلى أبي حذيفة المصراتي، الذي امتهن تهريب البشر.
خلال مشاركته في مؤتمر حول السرد، يلتقي في وهران مع شخصيات أخرى جاءت للمشاركة، ومن بينها طبيب سوري (لطفي الأدلبي) هرب بعائلته من الجحيم إلى تركيا، بأمل الحصول على فرصة للجوء إلى أوروبا، لكنه يجد عملاً في واحدة من منظمات شؤون اللاجئين والإغاثة. ويحثه رحال على كتابة التجربة، التي تنتهي بصاحبها، وهو يرثي عائلته التي راحت ضحية زلزال غازي عنتاب.
بفضل الكتابة، يتعرف رحال في مسار آخر على قارئة تعيش مع جدتها في مدينة العقبة في الأردن، وهي تدعى رشا، ترسل إليه رسالة غير موقعة للتواصل الأجتماعي تعلق فيها على إحدى مقالاته، وسرعان ما ينمو بينهما جسر، لتصبح العلاقة في المساحة الغامضة، خصوصاً بعد أن قضى ليلة معها في عمان قبل أن تغادر إلى العقبة.
لا يرغب كريم في المغامرة معها حتى الحد الأقصى، لأنها تصغره بربع قرن، وخلفه ماض يلاحقه، ولا يريد أن يصبح جداراً في وجه حياتها التي تنتظرها، لكنه يلتقي بها بعد سنوات استقرت خلالها في الدنمارك، بعد مسيرة طويلة هربت خلالها من بيت أسرتها لتلاحق سيرة جدها، المناضل الفلسطيني الذي خرج بعد النكبة وواصل نضاله خلال الحرب الأهلية في لبنان، إلى أن انقطعت سيرته عن الجميع. يحثها الجد على القدوم إليه وهناك تكتشف أنه صار رجل أعمال يعيش في قصر في ألمانيا ويدعوها إلى العيش معه وللدراسة في برلين، لكنها تجده غارقاً في قصر جدرانه مغطاة باللون الأسود، الذي تقاومه بطلاء غرفتها بالأبيض. وبسبب هذا العناد، تتعقد علاقتها معه، وتهرب للعمل والدراسة في الدنمارك، حيث تختار علم النفس.
بعد موته يفاجئ الجد الجميع بكتابة وصية ترث رشا بمقتضاها معظم أمواله، إضافة إلى بندقية جلبها من فلسطين حين غادرها، لكنه يوصي بتركها معلقة على الجدار، في إشارة رمزية دالة على تمسكه برمزية نضاله القديم.
الخذلان سيد الموقف
يتعرف القارئ على شخصية أبي حذيفة الليبي، الذي بدأ حياته شيوعياً خلال سنوات دراسته في لبنان أوائل السبعينيات، ثم تحول إلى إخواني، ثم إلى سلفي متورط في تجارة البشر وتوريد هجرات غير شرعية إلى أوروبا، مؤمناً بأن شعوب المتوسط كافة تأكلها الحروب الصغيرة، وما تبقى تلتهمه الهجرات نحو ضفاف مسعورة مسكونة بالخوف الأزلي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقرأ أبو حذيفة الخذلان الذي طمس وجوه الجميع بعد 2011، وشم رائحة انكسار القلوب بعد أن تكدست قيم الحرية وحقوق الإنسان مثل بضائع كاسدة. يفسر هزيمته من الداخل، ويرد تغيراته كافة إلى اللحظة التي شهد فيها مقتل نمر، طالب الطب الذي كان يدرس في فرنسا، وجاء يشارك في القتال خلال الحرب الأهلية في لبنان، لكنه أطلق النار على نفسه وانتحر، لأن "لا قيمة للطب أن لم نسعف أوطاننا"، وهكذا قرر أبو حذيفة أن يحول البحر إلى قبر.
لغة شعرية ونهاية محبطة
ينجح المؤلف في إبراز تعلق شخصيات روايته بالماضي ورغبتها في التحرر منه، لكن التحولات التي تمر بها تبدو غير منطقية أحياناً، إذ تخضع إلى منطق درامي مباغت أكثر من انشغالها بالتأسيس للشخصيات وتجذيرها في واقعها.
يدرك القارئ بسهولة تسلط الروائي على شخصياته، التي استجابت لانحيازاته السياسية وخطابه المحافظ على شروط الأمر الواقع، فضلاً عن تماهيها مع الخطاب الذي يسعى إلى تمريره داخل الرواية، فقد استبد بشخصياته، وأطفأ فيها شعلة الأمل، وجعلها مهزومة مستسلمة لعجزها. ومع ذلك، يصعب على القارئ أن يغلق الرواية من دون الالتفات إلى اللغة الشعرية التي تغلف أحداثها، فهي لغة مشبعة بالأسى والشجن، ولكن لا تفقد قدرتها على السرد والتنقل السلس بين الأحداث. ساعد في ذلك المسار الذي انتهجه المؤلف بكتابة شذرات قصيرة بدلاً من الفصول التقليدية، مما منح النص قدرة فائقة على خلق إيقاع سردي سلس ومتماسك.
وأخيراً تذكر الرواية بما كتبه المؤرخ الفرنسي الشهير فرنان بروديل عن دور البحر المتوسط في التاريخ وعن التنقلات والهجرات، التي عاشها والمجازر وصور الاقتلاع التي عرفها عبر تاريخه كساحة للصراع وتصفية الحسابات بين الحضارات.