Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عماد البليك يستجلي أزمة الهوية السودانية

 "البحث عن مصطفى سعيد" رواية ترصد جراح عالم يفتقر إلى المعنى والثوابت

رواية عماد البليك "البحث عن مصطفى سعيد" (دار إبييدي)

ملخص

في روايته "البحث عن مصطفى سعيد" (دار إبييدي، القاهرة 2025)، يقتنص الكاتب السوداني عماد البليك بطل رواية "موسم الهجرة للشمال"، ويعيد صوغه. لكنه لم يجسد حضور الشخصية، وإنما استدعاها كفكرة مركزية، وجرح مفتوح، وصورة رمزية لقلق سوداني جماعي؛ يحيل إلى هوية متشظية. وكما اكتنف الغموض الشخصية، خلال ظهورها الأول في رواية الطيب صالح، ظلت ومصيرها أسيرين للضبابية والالتباس، الذي استثمره البليك، في استجلاء أزمة الإنسان السوداني مع ذاكرته، وتاريخه وعلاقته بالآخر.

منذا بداية الرحلة السردية، يُحال عنوان النص وعتبته الأولى "البحث عن مصطفى سعيد"، إلى تناصٍ مع رواية "موسم الهجرة للشمال"، واستدعاء بعض فضاءاتها، شخصياتها وثيماتها، لا سيما التي تتصل بالقلق الوجودي، ومحاولات البحث عن معنى في عالم موسوم بالعبث واللاجدوى.

ينطلق السرد الذي يتشارك صوته الشخصية المحورية، وراوٍ عليم؛ من حالة من اللايقين يعيشها البطل "محمود"، الهارب من السودان إلى لندن، تساوره الشكوك في شأن المكان الذي يوجد فيه، وتتداخل لديه صور الماضي والحاضر، ويبرز الموت كسرداب مجهول، أو "زومبي" يتوقع حضوره المباغت، وتستعيده ذاكرته من مشاهد بكائه على قبر أمه. هذا الانشغال بالموت يعد أول مؤشرات ما بعد الحداثة التي هيمنت على النص وعزَّزتها حالة الشك، وكذلك السيولة والتشظي، إضافة إلى الميتا سرد، وعدم موثوقية الراوي/ البطل، المضطرب نفسياً والمصاب بداء الانفصال عن الذات. يتنقل "محمود" ذهاباً وإياباً بين السودان والخليج وبريطانيا، ويكون تجواله بين فضاءات مكانية متنوعة؛ انعكاساً لما يعانيه من شتات داخلي، كما يكون صورة لبعض التقاطعات النصية مع رواية الطيب صالح. فالبطل "محمود" يفر في مطلع شبابه إلى الخليج، بحثاً عن واقع أفضل، ثم يعود إلى لسودان فاعلاً، وناشطاً سياسياً، بعد ثورة أسقطت عمر البشير وأنهت حكم "الإخوان المسلمين"، حاملاً كغيره من السودانيين آمالاً كبيرة في مستقبل أفضل. ولكن لا تلبث تطلعاته أن تنتهي إلى خيبة أمل كبيرة، وجملة من إحباطات، خلّفها الفساد، والعنف، واقتتال بني جلدته، من أجل الاستحواذ على السلطة. فيعاود الفرار من وطنه مرة أخرى، ويقصد هذه المرة المدينة ذاتها التي قصدها قبله "مصطفى سعيد"، وواجه فيها مثله أزمة هوية، قبل أن يعود "محمود" من جديد إلى وطنه، على الرغم مما يشهده من حرب، وتردٍ وانهيار.

التداعي الحر

يسلك الكاتب زمناً غير خطي، ويعتمد التداعي الحر عبر التجول بين الماضي والحاضر. ويطلق العنان لمشاعر الشخصية المحورية وأفكارها. وقد اتسق هذا النسق مع حالة السيولة والتشظي، التي يعيشها البطل، وعدم موثوقيته كراوٍ، ووعيه المضطرب لعالم يفتقر إلى المعنى، تغيب عنه الحقيقة المطلقة، وينتفي فيه وجود الثوابت والمسلمات: "كنت طوال الليل، أتقلب بعد كوابيسي، أراجع حياتي كأنها وهم كبير، أشعر بالقلق، بلا سند، بلا يقين، لا أكاد أقبض على شيء حقيقي، تمضي بي السنوات، ولا أعلم إلى أين. حتى تلك الأحداث التي مررت بها، والتي أوصلتني إلى المصحة، ثم إلى هنا، لا تبدو لي الآن إلا كأنها من تأليف خيال مفرط، فهل كنت إنساناً حقيقياً، أم مجرد كائن مستلف يعيش بين الناس على هيئتهم، من دون أن يكون واحدًا منهم" ص182.

تمكن البليك عبر هذا السياق الما بعد حداثي، من تمرير قلق وجودي، وأسئلة حول القدر، الإيمان، والمصير. ومرر رؤاه حول عبثية الحياة ولا جدواها. ووظف هوس البطل بشخصية "مصطفى سعيد"، كثيمة رئيسة للنص، ومنفذاً تسللت منه مشاعر الشك، اليأس، الضياع والتشرذم، والحاجة الملحة للخلاص. كذلك وظف التقاطع بين الروايتين، في إبراز التماثل بين الأمس واليوم، ماضي السودان وحاضره، الباعثيْن على الهروب، والموسوميْن بالهزائم المتكررة. "مصطفى سعيد أصبح سمة وعلامة للفشل والخنوع والنهايات الغارقة في التيه. لماذا لم تتغير صورة المثقف أو البطل السوداني طوال أكثر من ستين سنة؟ لماذا مازلنا نصارع الظلام نفسه ، عاجزين عن ابتكار حياتنا؟" ص345. وإلى جانب التماثل، أبرز الكاتب تقابلات بين المركز والهامش، الزيف والحقيقة، الجمال والقبح. وعقد مقارنات ضمنية بين "محمود" بطل روايته، الذي سلك رحلته إلى الغرب مضطراً، و"مصطفى سعيد" بطل رواية "الطيب صالح"، الذي اختار مساره. كما مرر مقارنات أخرى صريحة وضمنية بين النساء في الشرق والغرب، بين الأنا والآخر، بين العادات والتقاليد والقوانين، التي تحكم كلاً منهما: "كنت أخاف الفضيحة، الغباء التاريخي، التربية الغريبة، القوانين التي تذبح الوريد" ص 49.

قضايا ورؤى

وسط أجواء يحفها الاضطراب، وفي سياق يبلغ دائماً النقطة ذاتها، عند أمل مسلوب، ونفس مأزومة، وهوية متشظية؛ يرصد الكاتب ما يئن به الواقع السوداني من قضايا شائكة، حوَّلت الوطن إلى حالة مأزومة، كان من بينها الانهيار المدوي لأملٍ نبت في نفوس السودانيين، بعد ثورة أطاحت نظام البشير، وشيوع السرقة، والفساد، والفقر، والبؤس. رقص البعض على وقع المآسي عبر التكسب من الأزمات والحروب، والاقتتال والتناحر على السلطة، وإهمال سبل استغلال الموارد، والنفاق الديني والسياسي، وزيف العمل العام، وسوء الإدارة والسياسات العشوائية، عطفاً على التفاوت الطبقي، واستغلال النفوذ، والفوضى والظلم، المجاعات، القمع والملاحقة والتعذيب، الأجندات الخاصة للإعلام وصناعة الزيف، إغفال الأزمة السودانية... كل هذا في ظل الانشغال العالمي بغزة، وموجات التصعيد الإيراني، وتصاعد الدمار، والنزوح، والموت المجاني: "كثير من المشكلات تحصل الآن بين الأهل والنازحين من الخرطوم. استقبلوهم في البيوت، ثم تحوَّلت الأوضاع إلى كوارث، حالات وفاة غير طبيعية أغلبها سكتات قلبية ودماغية، بسبب التوتر والضيق والمشادات. العلاج غير متوفر، الدولة غائبة والفساد لم ينته. الناس تائهون" ص 354.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 وعبر ما رصده من قضايا، مرَّر البليك رؤى قلقة، وربما قاتمة، حول ما يحمله تاريخ مضرج بالدماء، من نتاج يشي بحتمية خسارة الماضي، والحاضر، والمستقبل، وحول انهزام الحب، وضياع الأمل. ومرَّر إدانات للأحزاب الكاذبة، التي أضاعت السودان وقذفت به إلى الجحيم، وللسودانيين الذين يمارسون العنجهية، حين يجلسون على مقعد المسؤولية.

صراعات وتحولات          

في رحلة غايتها البحث عن معنى، تنوَّعت أشكال الصراع، وتعددت أقطابه ومستوياته، وربما كان الأبرز بينها، ذاك الذي احتدم في دواخل البطل المنفصل عن نفسه، والمنقسم بين ذاتين، إحداهما تتوق للالتئام والعثور على معنى، والثانية هشة متشظية عاجزة عن بلوغ سلامها، وعن مواجهة الواقع والحقيقة. وسبقت هذا الصراع صراعات أخرى، شهدها البطل أحياناً، وكان جزءاً منها في أحيانٍ أخرى، منها الصراع بين القديم والجديد، بين ثوار يحلمون بوطن أفضل، ونظام قديم يزهق أحلامهم لحماية مكاسبه، بين أيديولوجيات متباينة، وأحزاب متناحرة، بين البطل وإخوته الذين نبذوه وتنكروا له، بينه وبين واقع دموي وسلبية وعجز جماعي، بين رفضه لذاك الواقع، ونوستالجيا لا تنفك تقوده إليه. وكذلك بين إيمانه بأن "مصطفى سعيد" شخصية حقيقية وهوسه بالبحث عنه وعن صلة تجمعه بالسفير السابق الذي يحمل اسمه نفسه، وبالمقابل تسليمه أن تلك الشخصية لا تعدو مجرد خيال وأكذوبة. وفي طيات هذه التجليات المتنوعة للصراع، وثَّق البليك صوراً عديدة عن التحول، ومنها تحول العالم نحو الكراهية والجهل الكبير، تحول الناس من الثبات في موضع جذورهم، إلى التعولم والترحال، تحول الدول النامية إلى نائمة، تحول الثورة السودانية إلى عبء، والواقع السوداني إلى نسخة أسوأ، والسودانيين من الدفء إلى القسوة ومن الاهتمام إلى عدم الاكتراث، وتحول الحكام عن قيم ردَّدوها فور بلوغهم السلطة، وكذلك تحول الحياة برمتها إلى كابوس: "قبل ثلاثين عاماً، لم يكن هذا البلد بهذا السوء، كانت العاصمة نظيفة خالية من المتسولين والمخادعين وفتيات الليل. كان الماء نقياً في صنابير الفنادق، اليوم أصبح عكراً، رغم وفرة الماء. أما وجوه الناس فكانت ناعمة ودافئة، واليوم أصبحت قاسية ومتجهمة حتى على أنفسهم" ص 78.   

التجريب ومرونة البنية

لجأ الكاتب إلى بعض التقنيات السردية، التي دعمت بدورها المناخ العام للتشظي، فعمد إلى كسر الإيهام، وتفكيك الواقع الروائي عبر الميتا سرد: "هل كان كاتب تلك الرواية يزيف ويتلاعب بالواقع والتاريخ، أم أنه يكتب أحداثاً حقيقية، هل كان يحاور حكاية مصطفى سعيد وأدب الطيب صالح، أم يستعيد قصة حصلت بالفعل؟" ص 54. كذلك عمد إلى التناص في غير موضع من النسيج، مع رواية "موسم الهجرة إلى الشمال". وأبرز نوعاً من تجاذب الأجناس الأدبية، عبر استدعائه للشعر، والغناء، والحوار الصحافي، وكذلك الخطاب الرقمي، الذي تمثَّل في حوار البطل مع تطبيق الذكاء الاصطناعي "شات جي بي تي"، وعبر ما أتاحه للنص من انفتاح على أشكال متنوعة للخطاب، منحه حيوية، وثراءً دلالياً، وجعله أكثر صدقية في التعبير عن تعقيد التجربة الإنسانية. هذا التعقيد الذي دعمه في الوقت عينه، عبر تيار الوعي الذي حظي بحضور كثيف، وتبدى في توظيف المونولوغ، والأحلام، والمنطقة الوسطى التي تفصل بين الحضور والغياب. هذه كلها أسهمت في تعرية التصدعات، والتناقضات الداخلية للبطل، وحققت كشفاً أعمق للذات الإنسانية، وعززت حالة التشظي، والانكسار، والروح الما بعد حداثية التي هيمنت على السرد. 

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة