ملخص
في غزة يعيش 107 آلاف شخص من المسنين، يشكلون ما نسبته خمسة في المئة من تعداد السكان العام، يعاني 69 في المئة منهم أمراضاً مزمنة ويظن جميعهم أن حياتهم إذا قرروا النزوح ستنقلب رأساً على عقب في مخيمات النزوح وستتفاقم كثيراً.
رفض الجد فايز النزوح من بيته في منطقة جباليا شمال مدينة غزة، وفضل البقاء في كنف أرضه وشجره وشقته التي يحبها، إلى أن دخل جنود الجيش الإسرائيلي عليه، وحينها حدث ما هو غير متوقع مع الرجل الكبير في السن الذي بالكاد يستطيع المشي.
نادى عليه الجنود بمكبر الصوت "انزل لتحت"، اتكأ الجد فايز البالغ من العمر 74 سنة على عكازه وهمّ لمقابلة الجيش الإسرائيلي، وعندما شاهدوه طلبوا منه الجلوس تحت شجرة التين التي غرسها في شبابه وكان يحبها جداً يهتم بها ويسقيها الماء بعناية.
طلقة نارية عقوبة عدم الإخلاء
ما إن احتضن الجد الشجرة بذراعيه وكأنه يودعها أطلق جندي رصاصة أصابته في قدمه وسال دمه ينزف منه، تحت الزرع الذي يهتم به ورفض لأجله النزوح من بيته، بكى فايز بحرقة ووضع يده على مكان إصابته محاولاً إنقاذ نفسه.
بصوت خائف مرتجف خاطب الجد فايز الجندي الذي أطلقه عليه النار "أنا شيخ كبير في السن لا أشكل خطراً عليكم، أريد قضاء الأيام القليلة المتبقية لي، لماذا فعلت ذلك؟ رد عليه متهكماً: هذا جزاؤك لأنك رفضت النزوح" وتركوه يفقد دمه ينزف تحت الشجر.
"ارتوِ من دمي" خاطب الجد فايز الشجر الذي زرعه، وأمسك عكازه وأسند نفسه وأخذ يمشي بتثاقل يفقد قطرات دمه نحو أقرب مركز طبي، يقول "العمر مكتوب، لذلك رفضت النزوح، لن أغادر بيتي أبداً، يريدون أن أترك مكاني وأذهب للعيش في خيام بالية، هذا هراء".
حياة في خيمة بالية، ويضيف "لعدم خضوعي لأوامر جنود الجيش أطلقوا عليَّ النار، لقد طلبوا مني أرفع راية بيضاء ورفضت ذلك، وانتظروني طويلاً حتى أنزل من بيتي، ربما تأخرت خطواتي في الوصول بالوقت المحدد لذلك غضبوا مني وأطلقوا النار صوبي".
يعتبر الجد فايز أن رفع راية بيضاء يعني الاستسلام لذلك رفض حملها، كما يعتبر أن مغادرة مكانه والإخلاء انهزام فاضح، لذلك أصر على البقاء في بيته، وبعد إصابته اضطر مجبراً إلى مغادرة موطنه والتوجه نحو الجنوب.
اليوم يعيش الجد فايز حياة لا تشبه حياته في خيمة بالية مهترئة لا كرسي فيها ولا سرير يمدد جسده الضعيف، يوضح أنه عندما عاش في المأوى المصنوع من القماش شعر بالندم وبات يحس بالشيخوخة القاسية، يعقب "يا ليتهم حفروا قبري تحت أكبر شجرة ووضعوا جسدي فيها بدلاً من حياة النزوح مشرداً".
107 آلاف مطلوب منهم الإخلاء الفوري
يعرف كبار السن أن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وحشية للغاية ولا رحمة فيها، إلا أن عدداً كبيراً منهم رفض التنازل عن بيته والنزوح منه وإخلائه مقابل العيش في خيمة، وفضلوا الموت على التخلي عن مواطنهم.
في صباح اليوم الثلاثاء وزعت إسرائيل على جميع سكان مدينة غزة أوامر إخلاء، وطالبت نحو 1.1 مليون نسمة بالخروج من بيوتهم لتدميرها ومغادرة مدينتهم فوراً، والتوجه إلى منطقة المواصي الإنسانية للعيش هناك في خيام وحياة بدائية.
مع توزيع أوامر الإخلاء برزت قضية كبار السن الرافضين لفكرة النزوح وترك بيوتهم للجيش الإسرائيلي لتدميرها، يقول الشيخ تميم "كبار السن من الفئات الهشة في النزاعات والأزمات، يلحق بنا ضرر مضاعف مقارنة بباقي الفئات، ووسط الحرب التي تمضي بها إسرائيل في قطاع غزة تبدو معاناتنا هائلة".
في غزة يعيش 107 آلاف شخص من المسنين، يشكلون ما نسبته خمسة في المئة من تعداد السكان العام، يعاني 69 في المئة منهم أمراضاً مزمنة ويظن جميعهم أن حياتهم إذا قرروا النزوح ستنقلب رأساً على عقب في مخيمات النزوح وستتفاقم كثيراً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في القانون الدولي الإنساني نصت القاعدة 138 على أن كبار السن والعجزة يجب أن يتمتعوا باحترام خاص وحماية خاصة في أي نزاع مسلح، إلا أن ذلك لم يحدث ألبتة في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
طوال فترة الحرب قتل الجيش الإسرائيلي أكثر من 9 آلاف من كبار السن، مما يمثل سبعة في المئة من إجمال عدد ضحايا النزاع المسلح، كما وثق تقرير "المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان" حالات اعتقال طاولت المسنين وتعرضوا إلى التنكيل والتعذيب والحرمان من العلاج.
مخيمات النزوح يعني حياة معقدة
على رغم كل ذلك فلا يزال كبار السن غير مقتنعين بفكرة إخلاء مدينة غزة ويفضلون البقاء فيها حتى لو سقطوا جميعهم ضحايا للحرب، إذ يرفضون النزوح معتقدين بأن الحياة في مخيمات النزوح معاناة معقدة.
يشكل التنقل والإجلاء وسياسة الترحيل فعلاً قاسياً على كبار السن، مما قد يدفع كثيراً منهم إلى اختيار البقاء في منازلهم في أوقات الحرب القاسية، يقول العم صابر "سأذهب إلى خيام تفتقر إلى أي خدمات أو رعاية تلائم أوضاعي الصحية وتقدمي في العمر وحاجتي المتكررة إلى الذهاب إلى الحمام، في حين أن كل حمام مخصص لما يراوح بين 700 و1000 شخص في الأقل، إلى جانب انعدام المساحة الخاصة للشخص أو العائلة، وانقطاع مياه الشرب والاستخدام غير الملوثة، وصولاً إلى عدم توفر عوامل النظافة الشخصية ولا البطانيات".
ويضيف "لم تكن الشيخوخة يوماً مرادفاً للمنفى، بل كانت دائماً حلماً بالطمأنينة لكن في غزة، انقلبت الشيخوخة إلى رحلة شاقة من التيه، فبدلاً من أن تكون الأعوام الأخيرة محطة راحة بعد عقود من التعب وبناء البيوت وتربية الأبناء، وجدت نفسي مشرداً من منزلي".
ويتابع "بينما كان يفترض أن ننعم بكرامة نستحقها بعد عمر من العطاء، باتت أيامنا الأخيرة سلسلة من التهجير القسري، نراقب خلالها خراب بيوتنا ودمار أحلامنا، ونرى أبناءنا وأحفادنا يدفنون تحت الركام، وكأن العمر المديد في غزة يختصر كله في مشهد واحد انتظار موت بطيء".
أموت على باب بيتي
في غرفة صغيرة نجت من دمار كامل لعمارة سكنية، محاطة بشوادر جلدية وإضاءة خافتة، استقر الحال بالمسنة جميلة، تقول "يريدون مني ترك هذه الغرفة والعيش في مخيمات النزوح ومراكز الإيواء، لا أستطيع التأقلم مع واقع يملأه الذباب والحشرات، وسط درجات حرارة مرتفعة في الصيف وانخفاض كبير بها في الشتاء".
وتضيف "لم أتخيل أنني سأموت بعيداً من باب بيتي"، تجلس الحاجة على حجر، وتتابع "نزحت 10 مرات منذ بدأت الحرب، كل مرة أترك مكاني وأنا أقول هذه الأخيرة، لكنني أجد نفسي على الطريق ثانية، لذلك لن أغادر غزة لأعيش حياة بدائية".
معاناة تمتد للأبناء
متخصص الصحة النفسية درداح الشاعر يقول "وجد كبار السن أنفسهم وسط الحرب والنزوح المتكرر مجبرين على مواجهة فقد المأوى، وانقطاع الروابط الاجتماعية، وانعدام الأمان، وسط صعوبات جسدية ونفسية متزايدة". ويضيف الشاعر "المسنون في غزة يعانون آثاراً نفسية طويلة الأمد نتيجة النزوح المتكرر وفقدان المأوى، حيث يعيشون حالاً مستمرة من القلق وعدم الأمان واضطرابات النوم، مع ظهور أعراض الاكتئاب وفقدان الاهتمام بالحياة اليومية".
ويوضح الشاعر أنه في قلب تجربة النزوح لا يعاني كبار السن وحدهم، بل تمتد المعاناة إلى الأبناء والأحفاد، مشيراً إلى أن الوضع الإنساني يزداد سوءاً يوماً بعد يوم على المسنين، إذ مشكلاتهم ومعاناتهم أكبر من غيرهم، حسب قوله.