ملخص
الذي حدث هو أنه في الوقت الذي توجه فيه إلى روما بحراً وجد نفسه لأسباب لا تقل غموضاً هي الأخرى ينزل بعض الوقت في نابولي، فهل كانت تلك المحطة بناءً على طلب الكاردينالين؟ أم كانت لرغبته في الإفلات من مجموعة من المطاردين؟ أم لأنه شعر أن الغفران قد يتأخر عن موافاته في روما ما يجعل وجوده مكشوفاً؟ تلكم هي الأسئلة التي شغلت بال المؤرخين ولا تزال تفعل حتى اليوم.
في الـ24 من أكتوبر (تشرين الأول) 1609 انتهت على شاطئ بحري مهجور غير بعيد من روما حياة واحد من أغرب وأكثر الرسامين النهضويين في حياة الفن التشكيلي الإيطالي نشاطاً وموهبة. انتهت حياة الفنان كارافاجيو واسمه الأصلي ميكيل آنجلو ميريسي، وسنه لا تتجاوز الـ38. للوهلة الأولى قد يبدو أنه لا غرابة في الأمر، ففي تلك الأزمنة وقبل أن يتقدم الطب، ويستقيم أمر المجتمعات بعض الشيء، ويبدأ اهتمام الأفراد بفردياتهم وتغدو حياة الناس غالية عليهم، كان الموت باكراً أمراً طبيعياً يثير حزناً، لكنه لا يثير دهشة ولا غضباً. ومهما يكن من أمر فإن موت ميريسي ما كان من شأنه أن يثير كثيراً من الحزن، فهو كان شخصاً غريب الأطوار، سريع الغضب، يكثر أعداؤه يوماً بعد يوم لسبب أو من دون سبب، وقد يمتشق سيفه في ثوانٍ من دون إنذار، ليقتل به من يتصورهم خصومه، بالسرعة نفسها التي يمارس بها فنه الذي سيكتشف الهُواة والمؤرخون بعد أزمان طويلة أنه فن كبير، ولا سيما من خلال التأثير العظيم الذي مارسه ذلك الفنان الشاب على ورثته من أعظم فناني أوروبا وغيرها، بدءاً من رامبرانت، وصولاً إلى جورج ديلا تور، مروراً برهط من كبار الفنانين الإسبان، ولكن ليس الفرنسي بوسان الذي حين وصل إلى روما التي سيعيش فيها طويلاً، كان أول ما قاله حين سئل عن ذلك الفنان الذي كان دائماً مالئ الدنيا وشاغل الناس بشخصيته أكثر مما بفنه، أن "كارافاجيو قد دخل عالم الفن كي يدمره". صحيح أن الرسام الفرنسي الذي بات فنه إيطالياً منذ ذلك الحين، لم يدل بتصريحه من منطلق إعجاب موارب بكارافاجيو/ ميريسي، بل من منطلق العداء التام له. وهو لم يكن متفرداً في ذلك الموقف وإن كان موقفاً جعل كارافاجيو مرفوضاً نحو قرنين من الزمن، وليس طبعاً في فرنسا، بلد بوسان المتأثر بهذا الأخير الذي كان يعد كنزاً قومياً وتعد آراؤه قانوناً.
عداوات فنية واجتماعية
فعلى رغم أنه لم يعش طويلاً عرف كارافاجيو كيف يراكم في مجابهته عدداً كبيراً جداً من الأعداء في عالم الفن، ولكن في عالم المجتمع أيضاً، فهو كان يخوض، بصورة يومية، معارك ومبارزات قاتلة ضد أناس قد يلتقيهم في الطرقات ليشتمهم ويبارزهم حتى من دون سبب أو معرفة، ومن دون أن يكون لموقفه منهم أية علاقة بالفن، وهذا الأمر الأخير مؤكد على أية حال، فالواقع أن عالم الفن سيكتشف تدريجاً وخلال ما يزيد على 400 سنة أن فن كارافاجيو يتناقض كلياً مع شخصيته وأنه في نهاية الأمر لم يمت قتلاً لأسباب فنية بل لأسباب يغلب عليها طابع نزاعات "الزعران"، وذلك على غرار ما سيحدث بعد بذلك بنحو 400 سنة (عام 1975 تحديداً) لفنان إيطالي كبير آخر هو السينمائي الشاعر بيار باولو بازوليني، وعلى الشاطئ نفسه ووسط ظروف يفترض كثر أنها تتماثل بالأحرى مع ظروف مقتل كارافاجيو. ونقول بالأحرى لأننا لئن كنا نعرف تماماً كيف ولماذا قتل بازوليني وأين دفن جثمانه، فإننا لم نعرف أبداً أية معلومات مشابهة تتعلق بسلفه الفنان الكبير. على رغم أن ثمة فرضيات بالنسبة إلى الجزئيات كلها، يكاد عددها يزيد على عدد أصحابها من الذين انكبوا على الموضوع يشبعونه بحثاً وتنقيباً فلا ينتهون إلا إلى تخمينات لا تسمن ولا تغني من جوع، غير أن ما نقوله في هذا الصدد لا ينطبق على الظروف العامة التي أحاطت بنهاية فناننا النهضوي، ولا على ما كان يفعل حين حلت نهايته، والأرجح على أيدي عصابة من قتلة مأجورين بعث بهم للتخلص منه مسؤولو جماعة "فرسان مالطا" الذين كانوا يناصبونه العداء، وكانت فعلتهم، على الأرجح أيضاً، للحيلولة دون وصوله بحراً إلى روما، حيث كان موعوداً بأن البابا سيغفر له بناءً على تدخل من كاردينال أو اثنين (هما الكاردينال غونزاغي والكاردينال بورغيزي)، يتعاطفان مع الرسام الذي كان مغضوباً عليه من الحبر الأعظم لأسباب من الصعب لنا أن نتصور أنها أسباب فنية أو دينية. ويبدو أن تدخل الكاردينالين لصالحه انتهى إلى الاتفاق معه على الحضور ولو خلسة إلى روما، حيث ستسوى الأمور بالتراضي. وهكذا استأجر الرسام مركباً صغيراً توجه به بحراً من صقلية، حيث كان يعيش، إلى روما، ثم عرج خلال سفره إلى نابولي، حيث كان من المفترض، كما يبدو، أن ينتظر إشارة ما قبل توجهه إلى روما، لكنه بعد عبوره نابولي، حيث كان يتوخى أن يستريح قليلاً هوجم عند الساحل في منطقة أوستريا من قبل مجموعة من قتلة محترفين، أصابته بجراح ثخينة، لكنها اعتقدته ميتاً فولت الإدبار، بينما هام هو مثخناً بالجراح ومحتضراً كما يبدو، إلى درجة أنه تخلى عن المركب الذي كان يحمل بعض لوحاته، ليختفي تماماً ويموت وحيداً بفعل ما أسفرت عنه جراحه والحمى التي اعترته وما شابه ذلك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كيف وأين تماماً؟
الحقيقة أن التاريخ ولئن عرف الكيفية التي أنهت المطاردة حياته، فإنه بقي جاهلاً تماماً كيف وأين تماماً، كانت نهايته، بل إن ذلك التاريخ نفسه، لم يتمكن أبداً من أن يتأكد من هوية قاتليه، وأكثر من ذلك، من هوية الذين قد لا يكونون لوثوا أيديهم بدمائه، لكنهم كانوا هم من أمر بذلك، وهو أمر غالباً ما يحدث على تلك الشاكلة، ولا سيما حين يكون الساعون للتخلص من عدو ما، من عليه القوم أو من رؤساء طوائف أو جمعيات معينة. ويقيناً إن هذا الكلام ينطبق حقاً على كارافاجيو بحيث يصعب الافتراض أن فنه هو الذي تسبب في قتله. أما بالنسبة إلى الفرضية التي تتحدث عن "فرسان مالطا"، فإنها تستند إلى واقع تاريخي يتعلق بأن كارافاجيو نفسه كان في عام 1607 قد استقر، بعض الوقت، في بعض أنحاء جزيرة مالطا حيث كان يتطلع لأن يضم إلى سلك فرسانها ليضحى فناناً فارساً. والواقع أن جمعية "فرسان مالطا" قد استقبلته أول الأمر بترحاب، بل كلفته، وغالباً بناءً على طلبه، أن يرسم بعض اللوحات لحساب كنيسة القديس يوحنا، إضافة إلى بورتريهين لرئيس الجمعية. ففعل وانتهى الأمر هنا بانتخابه فارساً مالطياً بالفعل، ولكن ما إن تحقق له ذلك حتى رأيناه يودع السجن وكالعادة لأسباب "غامضة" لا تعلن، لكنه سرعان ما تمكن من الإفلات والهرب ليحط رحاله في سيراكوزا بصقلية التي، قيض له فيها أن يتلقى رسالة من الكاردينالين الصديقين يدعوانه بها إلى روما، حيث من المتوقع بل المتفق عليه أن يغفر له البابا، كما أشرنا فكان ذلك إيذاناً بنهايته.
نهايته في نابولي
الذي حدث هو أنه في الوقت الذي توجه فيه إلى روما بحراً وجد نفسه لأسباب لا تقل غموضاً هي الأخرى ينزل بعض الوقت في نابولي، فهل كانت تلك المحطة بناءً على طلب الكاردينالين؟ أم كانت لرغبته في الإفلات من مجموعة من المطاردين؟ أم لأنه شعر أن الغفران قد يتأخر عن موافاته في روما ما يجعل وجوده مكشوفاً؟ تلكم هي الأسئلة التي شغلت بال المؤرخين ولا تزال تفعل حتى اليوم، بيد أن نابولي وشاطئ بحرها سيكونان أكثر غدراً به على رغم كل الاحتياطات التي يبدو أنه أخذها، ومن كل الأمكنة الأخرى التي مر بها. فهناك، كما أشرنا، اختفى. ويقيناً أنه هناك مات، ويقيناً أن سرقة لوحات أخيرة له كان أنجزها خلال إقامته في صقلية بين باليرمو ومسينا، لم تكن هدف القاتلين الذين من المؤكد أنهم لم يكونوا لا من هُواة الفن ولا من العارفين بشؤونه، ذلك لأن المركيزة كولونا التي تعيش في قصرها في نابولي، وكانت تنتظر كارافاجيو لاستقباله، تلقت في يوم من تلك الأيام زيارة بعض أهل المنطقة الذين سلموها اللوحات التي عثروا عليها في المركب وهم يبحثون عن صاحبها. فتيقنت من موته واحتفظت باللوحات لتسلمها لاحقاً إلى الكاردينالين مع خبر اختفاء الرسام. ونعرف أن وصول اللوحات كان إشارة البدء في عملية بحث عن لغز صار عمره الآن كل تلك القرون ولم يَنجلِ بعد. فهل تراه سينجلي يوماً؟ نشك في ذلك.