Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

السينمائي تارانتينو... أن تتخلى عن إنسانية الفنان

عُرف برجل السجالات الحادة بين الفنّ والأخلاق والسياسة وحديثه عن "موته كصهيوني" أثار موجة واسعة من الغضب

عندما قدم تارانتينو درساً إشكالياً في مهرجان كان (خدمة المهرجان)

أثار كلام كوانتن تارانتينو الأخير عن استعداده "للموت كصهيوني" موجة واسعة من الغضب، شملت محبّي المخرج الأميركي المشاكس (62 سنة) بقدر ما طاولت خصومه الذين لا يخفون عداءهم له منذ سنوات.

جاء هذا الجدل على خلفية مقابلة تلفزيونية بثّتها القناة الإسرائيلية "12"، أجراها داني هيخت مع العارضة والمغنية دانييلا بيك، زوجة تارانتينو، التي فتحت نافذة نادرة على تفاصيل حياتهما المشتركة، متوقفةً عند كيفية تعامله مع أجواء الحرب الأخيرة في تل أبيب.

وخلال الحوار، سأل هيخت بيك عمّا إذا كان زوجها قد فكّر في مغادرة إسرائيل والعودة إلى هوليوود، في ظل القصف الذي طاول المدينة، إلا أنها نفت ذلك بشكل قاطع، مؤكدةً أن خيار الرحيل لم يكن مطروحاً أصلاً.

وكشفت أن تارانتينو تعامل مع الظروف الضاغطة بهدوء وبساطة تكاد تلامس اللامبالاة، وكان كثيراً ما يعزف عن التوجّه إلى الملجأ، لا يفعل ذلك إلا استجابة لإلحاحها. بحسب بيك، الخوف لا يشكّل جزءاً من طباعه، مستعيدةً عبارة قالها لها في إحدى اللحظات: "إن حدث شيء ما، فسأموت كصهيوني".

 

جملة واحدة كانت كفيلة بتصدّر العناوين واجتياح المواقع الإلكترونية، مدفوعة بثقل اسم قائلها ومكانته في المشهد السينمائي الدولي. وقد سارع متصفحو الإنترنت، لا سيما من العرب، إلى استثمار هذا التصريح لتصفية حسابات قديمة مع مخرج "بالب فيكشن" ("سعفة" كان 2004)، معتبرين أن الفاشية والعنف اللذين يتجلّيان في أفلامه ليسا منفصلين عن مواقفه السياسية وميوله الأيديولوجية، وأن دعمه المعلن لإسرائيل يقدّم مفتاحاً تفسيرياً لكثير من خياراته الجمالية والسردية.

وذهب بعضهم إلى استغلال اللحظة لإطلاق سيل من الاتهامات، مفرغين ما اختزنوه طويلاً من عداء لأفلام هذا السينمائي الذي لطالما وُجِّهت إليه تهم الاقتباس المفرط والنهل من أعمال قديمة وإعادة صوغها في قوالب معاصرة.

في المقابل، دعا آخرون إلى ضرورة الفصل بين الفنان وإبداعه من جهة، والإنسان ومواقفه السياسية من جهة أخرى، على رغم أن تارانتينو لم يُخفِ، منذ الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلي على غزة، انحيازه العلني إلى الجيش الإسرائيلي، حين ظهر ملتقطاً صوراً تذكارية مع مجنّدات إسرائيليات.

 

وإذا كانت الغالبية قد انهالت عليه بالشتائم، فإن أقلية من السينيفيليين اختارت الدفاع عنه، متجاهلةً موقفه، ما فتح باب سجال محتدم بين مؤيد ومعارض، تجاوز الشخص ليطاول سؤالاً أعمق عن العلاقة الإشكالية بين الفنّ والأخلاق والسياسة.

تصريحات نارية

وجاء هذا الجدل بعد أيام قليلة فقط من تصريحات نارية أطلقها تارانتينو خلال مشاركته في بودكاست "ذا بريت إيستون إيليس"، المخصّص لمناقشة أهم أفلام القرن الحادي والعشرين.

وفي سياق حديثه، أدرج فيلم "ستُهرق الدماء" لبول توماس أندرسون ضمن لائحة أعظم أفلام الألفية الثالثة، لكنه اعتبر أن العمل كان سيحتل المرتبة الأولى أو الثانية لولا ما وصفه بـ"العطب الكبير" المتمثّل، بحسب رأيه، في أداء بول دانو. ولم يتردّد في وصف أداء هذا الأخير بالضعيف جداً، بل ذهب إلى حد اعتباره "أضعف ممثّل في النقابة"، قائلاً إن ممثّلاً آخر اسمه أوستن باتلر كان سيكون خياراً أفضل لتجسيد دور المبشّر الإنجيلي الذي يقف في مواجهة دانيال داي لويس.

تصريحات مباشرة وحادة، اتّسمت بطابع شخصي، سرعان ما أثارت موجة واسعة من الردود، وأفضت إلى حالة تضامن ملحوظة مع دانو، إذ خرج عدد من الأسماء البارزة في هوليوود، من بينهم المخرج مات ريفز والممثّل بن ستيلر، للدفاع عن زميلهما.

واعتبر كثيرون، في سياق ثقافي أميركي باتت فيه القضايا تتضخّم بسرعة، أن ما قاله تارانتينو يندرج في خانة الكراهية أكثر منه نقداً فنياً.

في المقابل، حاول بعضهم تهدئة السجال. فقال إيثان هوك مثلاً إن الجميع يعرف أن تارانتينو "ثرثار"، مثلما يعرفون أن بول دانو "إنسان راق". علّق هوك بالقول: "لا داعي للاهتمام بكل هذه السلبية التي تُنشر بحقك. هناك مخرجون كبار يعتبرونني ممثلاً سيئاً، ولا بأس في ذلك".

وبينما رأى البعض في موجة التضامن هذه وجهاً إيجابياً، يظلّ السؤال عمّا إذا كان لا يزال هناك متّسع في الفضاء العام لمناقشة أداء ممثّل أو تقييمه نقدياً، مهما يكن قاسياً، من دون أن يتحوّل الأمر إلى حملة هجومية تصل في بعض الأحيان إلى الشتائم.

 

في جميع الأحوال، لم يُخفِ تارانتينو يوماً ميله الفطري إلى استدراج السجالات الحادة كمَن يركل في وكر دبابير. فمتابعوه لا بد ان يتذكروا أن واحدة من أكثر النقاط التي فجّرت غضب منتقديه استخدامه المفرط  لكلمة "نيغر" (زنجي) في حوارات أفلامه، وهو خيار دافع عنه مراراً بالقول إن الكلمة ما دامت متداولة في الواقع، فلا مبرّر لإقصائها عن السينما إذا اقتضتها الضرورة الدرامية.

وقد قوبل هذا الموقف برفض واسع، إذ رأى فيه البعض تبريراً للعنصرية لا مجرد تمرد على الرقابة الأخلاقية التي أعلن معارضته الصريحة لها. كذلك، لطالما شدّد على أن العنف السينمائي لا يصنع مشاهداً عنيفاً، ساخراً من النقّاد الذين حمّلوه مسؤولية تأثير أفلامه، مردّداً أن الشعور بالصدمة بعد مشاهدة فيلم "مشكلة تخصّ المتفرّج نفسه".

ولم تتوقّف تصريحاته الاستفزازية عند هذا الحد، إذ أثار عاصفة أخرى حين دافع عن رومان بولانسكي، معتبراً أن علاقته بالفتاة القاصر التي أُدين بسببها في أميركا السبعينات كانت "بالتراضي"، كذلك اعترف لاحقاً بأنه كان على دراية بتصرفات المنتج هارفي واينستين، المدان حالياً بجرائم جنسية، لكنه آثر غضّ الطرف عنها.

عيوب أخلاقية

وفي السياق نفسه، أعلن أكثر من مرة رفضه كتابة كاراكتيرات نسائية "إيجابية"، مفضّلاً نساءً تتّسم شخصياتهن بعيوب وتصدّعات أخلاقية، وهو ما عرّضه بدوره لانتقادات، خصوصاً مع صعود ثقافة الإلغاء في هوليوود عقب حركة "مي تو"، وهي ثقافة وقف المخرج في مرصادها.

كل هذه المواقف كرّست صورة تارانتينو بوصفه شخصية سجالية، فنّان يقول كلمته ويمشي ولا تمرّ آراؤه من دون أن تخلّف وراءها قدراً من المهاترات والهجوم والخلافات.

حتى في الوسط الفني نفسه، لم يكن الإجماع يوماً قائماً حوله. فثمة فنّانون لم يخفوا نفورهم منه ورفضوا طويلاً العمل معه قبل أن يرضخوا في النهاية لضغوط مختلفة، ومن أبرز هؤلاء الموسيقار الإيطالي الراحل إنيو موريكوني.

 

قبل سنتين ونصف السنة، قدّم تارانتينو درساً سينمائياً في مهرجان كان، بدعوة من قسم "أسبوعا صُنّاع السينما"، تخلّله عرض مفاجئ لفيلم اختاره بنفسه، هو "رولينغ تاندر" (1977) لجون فلين.

وكعادته، لم يلجأ عامل متجر الفيديو السابق، المعروف بشغفه العميق بالأفلام الرديئة، إلى اختيار عمل كلاسيكي متداول، بل انتقى فيلماً شبه منسي، وأغرقه بالشرح والتحليل والمديح، كاشفاً عن قراءات لا يلتفت إليها كثيرون.

الفيلم عن جندي عائد من حرب فيتنام (وليام ديفاين)، يتعرض هو وعائلته لاعتداء وحشي يتركه مبتور اليد، قبل أن يقرر، بعد خروجه من المستشفى، الانخراط في مسار انتقامي دموي. "فيلم ثأر"، من إنتاج السبعينيات، يرى فيه تارانتينو قيمة سينمائية استثنائية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أمام جمهور غفير لم يتوقّف عن التصفيق، دافع تارانتينو بحماسة شديدة عن خياراته وأفكاره، لا سيما في ما يتعلّق بموضوعه الأثير: العنف في السينما. قال يومها: "إني أحب الأفلام العنيفة. هناك من يحب الميوزيكالات، وآخرون يفضّلون الكوميديات الهزلية. أما أنا فأحبّ الأفلام العنيفة. أعتقد أن العنف عنصر سينمائي بامتياز، وفيه قدر كبير من المتعة".

وتوقّف تارانتينو يومها عند موقف كاتب السيناريو بول شرايدر، الذي لا يزال يتبرأ من الفيلم حتى اليوم، موضّحاً: "شرايدر يقول: كتبتُ نقداً للفيلم الانتقامي الفاشي، لكنهم حذفوا هذا النقد وصنعوا فيلماً انتقامياً فاشياً. وأنا أقول إن هذا الكلام صحيح، ومع ذلك، فهو يظلّ أعظم فيلم انتقامي فاشي".

ولعل أكثر ما أثار استفزازي آنذاك كان دفاعه المستميت عن الحيوانات وحتى الحشرات، دفاع بدا أشد حضوراً من تعاطفه مع البشر أنفسهم. تصريح يفتح باباً واسعاً للتساؤلات، لأنه يتقاطع على نحو مربك مع ولعه المعلن بالعنف الإنساني، ويكشف موقفاً يبدو متناقضاً في ظاهره.

قال تارانتينو في ذلك اليوم: "هناك شيء واحد لا أحتمله في الأفلام وهو قتل الحيوانات. هذا بالنسبة لي خطّ أخلاقي لا أستطيع تجاوزه. قتل الحيوانات، وحتى الحشرات، أمر لا يمكنني مشاهدته". موقف يختزل، بوضوح، المفارقة التي تحكم رؤية تارانتينو للسينما: احتفاء مطلق بالعنف المتخيَّل، يقابله رفض أخلاقي صارم لأي عنف حقيقي، ولو كان موجّهاً إلى… حشرات!

 

اقرأ المزيد

المزيد من سينما