Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

العولمة وسلاسل الإمداد في ظل عدم اليقين

محللون: قد تتراجع لكن لن تنتهي وتوطين الصناعات في أميركا يحتاج إلى أعوام

الصين أكبر مستفيد من العولمة حتى إنها أصبحت المركز الأكبر عالمياً لسلاسل التوريد (أ ف ب)

ملخص

لم تُخفِ الإدارة الأميركية أن سياسة فرض التعريفة الجمركية هي أيضاً حرب على العولمة التي يعدها الرئيس ترمب وفريقه السبب وراء ما يصفونه بأنه "سرقة أميركا" من قبل شركائها التجاريين.

 

الهدف المعلن للحرب التجارية التي شنها الرئيس الأميركي دونالد ترمب منذ يومه الأول في البيت الأبيض مطلع هذا العام، هو تقليل العجز التجاري مع دول العالم وزيادة موارد الخزانة العامة من حصيلة رسوم التعريفة الجمركية التي يفرضها، إنما هناك مستهدف آخر لا يقل أهمية، وهو دفع الشركات الأميركية التي نقلت صناعاتها إلى دول في الخارج، من الصين إلى المكسيك، لأن تعيد أعمالها إلى داخل أميركا.

ولم تُخفِ الإدارة الأميركية أن سياسة فرض التعريفة الجمركية هي أيضاً حرب على العولمة، التي يعدها الرئيس ترمب وفريقه السبب وراء ما يصفونه بأنه "سرقة أميركا" من قبل شركائها التجاريين، فبرأيهم أن العولمة لم تفد الأميركيين، بل على العكس أضرت بوضعهم الاقتصادي والمالي لمصلحة اقتصادات صاعدة في العالم.

وبغض النظر عن مدى صحة تلك الرؤية الاقتصادية والتجارية، إلا أن السياسات الأميركية التي دخلت حيز التنفيذ لها تأثير كبير في تطور ونمو العولمة الاقتصادية (التجارية والمالية) وعلى شبكة سلاسل الامداد العالمية التي تترسخ منذ عقود، ومع أن النظام الاقتصادي والمالي العالمي تطور منذ الأزمة العالمية في 2008 – 2009 بالصورة التي جعلته أكثر مرونة في التعامل مع الأزمات حتى الصادمة منها، إلا أن الوضع الحالي يتجاوز تلك المرونة وقدرة النظام العالمي على امتصاص الصدمة، ليس لأن هذه الحرب التجارية غير مسبوقة فحسب، بل لأنها تتميز بحالة عدم يقين واضطراب واضح يجعل من الصعب على صاحب عمل متوسط الحجم في أي مكان في العالم التخطيط لنشاطه المستقبلي.

هل انتهت العولمة؟

من المهم الإشارة إلى أن الحديث عن "نهاية العولمة" أو في الأقل وصول مسارها إلى قمة المنحنى وسط توقعات تشير إلى استمرارها لفترة من دون نمو وتطور أو تبدأ في التراجع يسبق سياسات إدارة ترمب، وللدقة، فقد بدأ هذا الحديث يتصاعد بعد أزمة وباء كورونا عام 2020 وانكشاف العالم على مدى خطورة اعتماده على تركز سلاسل الإمداد والتوريد في الصين، خصوصاً مع الإغلاق الاقتصادي شبه الشامل للوقاية من انتشار الفيروس.

كذلك، فإن السياسات الحمائية لإدارة الرئيس السابق جو بايدن أضرت بالعولمة بصورة واضحة، خصوصاً مع التوسع أيضاً في فرض العقوبات الاقتصادية على دول عدة، مما أربك التجارة العالمية بصورة مؤثرة.

ويرى الكاتب الاقتصادي جون مانرز بيل في كتابه "موت العولمة" عام 2023 أن أهم تطور في تعديل مسيرة منحنى العولمة هو "قانون خفض التضخم" الذي اعتمدته إدارة بايدن.

ومع أن إدارة ترمب أفرغت ذلك القانون من محتواه الآن، إلا أنه كان خطوة تشريعية حاسمة وفي الوقت نفسه "سياسة حمائية" ستؤثر في كل شركاء أميركا التجاريين ربما باستثناء المكسيك كما قال بيل وقتها، معتبراً إياه "تشريعاً مضاداً للعولمة".

كان الهدف الذي سعت إليه إدارة بايدن، وتتبعه الآن إدارة ترمب بفرض التعريفة الجمركية، هو إعادة الشركات الأميركية الكبرى التي "عولمت" إنتاجها بمراكز في الخارج لتتركز في الولايات المتحدة على أمل ابقاء استثماراتها محلية وتوفير فرص عمل أكثر للأميركيين. وهذا ما يردده الرئيس ترمب الآن منذ أن بدأ فرض رسوم التعريفة الجمركية الكبيرة على شركاء بلاده التجاريين.

وبنهاية العام قبل الماضي، وعلى هامش معرض الصين الدولي عقد مؤتمر حول سلاسل الإمداد شاركت فيه المدير العام لمنظمة التجارة العالمية نغوزي أوكونغو لويالا، ففي كلمتها طالبت دول العالم بألا "تتخلى عن العولمة". وقالت "إذا استمرت الدول في السياسات الحمائية فإنها تتخلى عن المكاسب التي تحققت على صعيد الإنتاجية، والتي تصحبها مكاسب التخصص والتجارة على نطاق واسع، وسيؤدي ذلك إلى زيادة تركز المعروض، مما يجعل جانب العرض في الاقتصاد العالمي أقل قدرة على الصمود".

وفي أول انعقاد لمنتدى "دافوس" بعد أزمة وباء كورونا، مطلع عام 2023، كان مصير العولمة الموضوع الطاغي على الاجتماعات والندوات، ووقتها قال الرئيس السابق للمفوضية الأوروبية ورئيس "غولدمان ساكس إنترناشيونال" خوسيه مانويل باروسو في مقابلة مع صحيفة "فاينانشيال تايمز"، "تواجه العولمة تهديدات من زيادة التوجهات القومية والحمائية والشوفينية إذا جاز التعبير، وأحياناً حتى من رهاب الأجانب (العنصرية تجاه المهاجرين) وليس واضحاً بالنسبة إليَّ حتى الآن أي توجه سيفوز في النهاية".

وأضاف باروسو "زاد التوتر بين الولايات المتحدة والصين بسبب وباء كورونا، والآن نجد الغزو الروسي لأوكرانيا، فكل هذه التطورات تزيد القلق من عالم أكثر انفصالاً وليس تكاملاً".

إلا أن كل هذه التطورات السلبية في الأعوام القليلة الأخيرة لم تتقض على العولمة، حتى وإن أضرت بتطورها، صحيح أن المسار تباطأ لكنه لم يتوقف، وربما يعمل العالم الآن على هضم كل تلك التحديات والاستمرار في مساره.

سلاسل التوريد وتوطين الشركات

قبل عامين صدر كتاب بعنوان "الأزمة الدائمة... خطة لإصلاح عالم مفتت"، شارك في تأليفه رئيس الوزراء البريطاني السابق غوردون براون والاقتصادي البارز محمد العريان والاقتصادي الحاصل على جائزة نوبل مايكل سبنس.

وقدم الثلاثة في كتابهم حلولاً للنظام العالمي تستند إلى أنه في عالم متكامل اقتصادياً ومترابط اجتماعياً ومتبادل الاعتماد جغرافياً فإن عدم التعاون يعد وصفة مثالية للكارثة.

ويتركز الحل الذي يطرحه الكتاب فيما وصفه بأنه "عولمة مصغرة بإدارة جيدة" تأخذ في الاعتبار عالم متعدد الأقطاب، وبحسب ما جاء في الكتاب "فلم نعد في عالم أحادي القطب، وهناك انشقاقات على الفلسفة النيوليبرالية، وهناك شعبيون وقوميون جدد، والعولمة التقليدية تتفكك ونحتاج إلى فلسفة إدارة اقتصاد تسمح بإعادة هيكلة لا مركزية لمختلف الضغوط والتحديات".

ومن أهم ملامح العولمة على مدى العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية هو نمو وتطور سلاسل الإمداد والتوريد بصورة عززت التجارة العالمية بشدة، وسهلت العولمة نقل الشركات الكبرى عملياتها إلى بلدان تتميز بالعمالة الرخيصة والقرب من الموارد الأولية والمكونات الوسيطة للصناعة.

وكانت الصين أكبر مستفيد من ذلك حتى أصبحت تقريباً المركز الأكبر والأهم عالمياً لسلاسل التوريد، وحين توقفت مصانع وموانئ الصين عن العمل نتيجة الإغلاق خلال أزمة الجائحة أصيبت كافة القطاعات حول العالم بشبه شلل، وبعد ذلك حاول كثير من الشركات الكبرى تنويع مصادر المواد الأولية لنشاطها بعيداً من الصين، وتدخلت الحكومات في محاولة لتوطين سلاسل الإمداد بحيث تكون الشركات والأعمال مكتفية ذاتياً بوجود كل مراحل إنتاجها في الموقع الجغرافي لأسواقها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إلا أن ذلك لم ينجح تماماً في معظم الأحيان، وفي وقت سابق من هذا العام نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تحقيقاً مطولاً عن الأسباب العملية التي تجعل عودة المصانع من دول مثل الصين وفيتنام والمكسيك وغيرها إلى أميركا أمراً في غاية الصعوبة.

وركز التحقيق على مثال من القلة التي ترى أن فرض التعريفة الجمركية يمكن أن يساعد الصناعات الأميركية، ليكشف في خلاصته عن أنه حتى ذلك النموذج لن يستطيع توسيع أعماله في أميركا مع فرض التعريفة واضطراب سلاسل الإمداد وتشديد إجراءات منع هجرة العمالة إلى أميركا.

فبالنسبة إلى غالب الأعمال والصناعات التي استعرضها تحقيق الصحيفة فإن الهم الأساس لها أن إنشاء مصانع جديدة أو توسيع مصانع قائمة قد يأخذ أعواماً، إن لم يكن عقوداً، وبغض النظر عن استثمارات رأس المال المطلوبة لذلك، فإن الولايات المتحدة تفتقر إلى كل مكونات الصناعة تقريباً، من الأيدي العاملة إلى التدريب المهني والتكنولوجيا والدعم الحكومي كما يقول أرباب الصناعة في القطاعات المختلفة.

ومن الأمثلة على ذلك قد يأخذ إقامة مصنع لبنطلونات الجينز في أميركا أعواماً ليبدأ العمل، ناهيك بالكلفة العالية جداً للإنشاء والتجهيز، لكن المشكلة ستظل أن أميركا تفتقر لغالب سلاسل الإمداد للصناعة، فليس بها مصانع أزرار ولا سحاب (سوسته) ولا غيره، لذا يصعب عودة مصانع الشركات الأميركية من الصين وفيتنام وغيرها إلى الولايات المتحدة، حتى صناعة السيارات في الولايات المتحدة تعتمد على استيراد كثير من المكونات من المكسيك وكندا.

نتائج جانبية إيجابية

على عكس معظم التحليلات المتشائمة حول نهاية العولمة وتغيير سلاسل الإمداد والتوريد نتيجة السياسات التجارية الحمائية فأن هناك نتائج جانبية إيجابية، منها على سبيل المثال تطور مسارات جديدة لسلاسل الإمداد والتوريد تقلل الاعتماد على الصين، حتى إن الأخيرة ذاتها بدأت تتوسع في إقامة مصانع لمنتجاتها في دول آسيوية أخرى كباكستان وفيتنام وفي أوروبا وأميركا اللاتينية.

وكما أن الممرات التجارية التقليدية بدأت تواجه بروز ممرات جديدة، مثل ممر الشرق الأوسط الذي طرح قبل 3 أعوام لربط آسيا بأوروبا عبر طرق برية ما بين الخليج وإسرائيل، وأخيراً ممر ترمب ما بين أذربيجان وأرمينيا وغيرهما، كما تبرز الهند كمركز صاعد لسلاسل الإمداد والتوريد يستفيد من ممرات تجارية جديدة، ويقلل ذلك من الاعتماد الكبير على الصين الذي يشكل مخاطرة على التجارة العالمية.

وحسب أحدث بيانات وأرقام منظمة التجارة العالمية، فإن تركز سلاسل الإمدادات في الصين وهونغ كونغ، خصوصاً في مجالات التكنولوجيا والتمويل لم يكن تأثيره جيداً في التجارة العالمية، ويشكل ذلك المركز، الصين وهونغ كونغ، نسبة 20 في المئة من الصادرات العالمية للسلع الوسيطة اللازمة لتشغيل قطاعات التصنيع حول العالم.

وفي الربع الأخير من عام 2022 تراجعت صادرات الصين من تلك السلع بنسبة 15 في المئة وانخفضت صادرات هونغ كونغ منها بنسبة 27 في المئة.

ذلك التراجع يعني أن تركز سلاسل الإمدادات في مركز واحد عالمياً له تأثير سلبي في نمو التجارة العالمية، بالتالي على العولمة عموماً، أما كون التفتيت في سلاسل التوريد يمكن أن يزيد من التوجهات الحمائية والانعزالية، فإنه مردود عليه بأن التغييرات في سلاسل الإمداد والتوريد ستظل تتضمن أطرافاً عدة بما يبقي على الاعتماد المتبادل.

وبعد كل هذه الأعوام من النمو والتطور لا يتوقع أن تنتهي العولمة، وإن اتخذت صوراً جديدة أقل توسعاً وصعوداً، بل يمكن القول إنها مرحلة "استقرار العولمة" لتظل باقية وأن بصورة مختلفة.

أما بالنسبة إلى سلاسل الإمداد والتوريد فإنه حتى إذا كان من الصعب توطينها فإنها ستصبح أقل تركيزاً في بؤرة واحدة كالصين، وفي ذلك فائدة لدول ومناطق صاعدة وفي الوقت نفسه تعزيز الاعتماد المتبادل على أسس جديدة.

اقرأ المزيد