Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

التدرج من المخيلة الصهيونية إلى الاحتلال والتوسع

لم يقتصر على إقامة دولة قومية آمنة لليهود، بل ترك الباب موارباً لتوسعات مستقبلية تراكمت على مدى عقود من التخطيط السياسي والهجرة المنظمة والاستيطان

تيودور هرتزل في المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية 1897 (ويكيميديا)

ملخص

كان الانتصار العسكري لإسرائيل في حرب يونيو 1967 هو اللحظة التي فتحت أمام الخيال السياسي والديني على السواء أبواب يهودا والسامرة (الاسمين العبريين للضفة الغربية) وقلب "أرض إسرائيل التوراتية"، أو ما يوصف بـ"مهد الأمة".

أثارت صورة جندي إسرائيلي يرتدي شارة مطبوعة بخريطة "إسرائيل الكبرى" جدلاً واسعاً عند نشرها في "ميدل إيست مونيتور" العام الماضي. الخريطة، التي تظهر إسرائيل ممتدة من النيل إلى الفرات، لم تكن مجرد رسم رمزي، بل استدعاء مباشر لأسطورة صهيونية قديمة جرى استحضارها مراراً عبر قرن من الزمن.

وقد علقت البروفيسور إيكاترينا ماتوي، وهي مديرة البرنامج في معهد الشرق الأوسط للدراسات السياسية والاقتصادية، بأن ما أثار الغضب ليس وجود الفكرة في حد ذاتها، فهي متجذرة في خطاب الحركة الصهيونية منذ تيودور هرتزل، بل ظهورها العلني في فضاء التواصل الاجتماعي، إذ تحولت إلى صورة محسوسة تعكس طموحاً توسعياً يتجاوز حدود إسرائيل الراهنة.

ولم يكن هذا التصور غائباً عن الخطاب السياسي الإسرائيلي المعاصر. ففي مطلع عام 2024 صرح السياسي الإسرائيلي آفي ليبكين قائلاً "في نهاية المطاف ستمتد حدودنا من لبنان إلى الصحراء الكبرى، ومن المتوسط إلى الفرات، وصولاً إلى مكة والمدينة وجبل سيناء"، هذه الرؤية، بقدر ما تبدو جذرية، تستند إلى خيوط فكرية وسياسية ممتدة منذ عقود، أبرزها وثيقة عوديد ينون، مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرئيل شارون التي صيغت عام 1982 في مناخ إقليمي متوتر عقب اتفاقية كامب ديفيد، والثورة الإيرانية، والحرب العراقية - الإيرانية.

خطة ينون لم تكتفِ بتأكيد مركزية إسرائيل، بل صاغت تصوراً لإعادة تشكيل الشرق الأوسط على أسس طائفية وعرقية، بما يضعف الدول المحيطة ويجعلها كيانات مفككة يسهل التحكم بمساراتها، وقد ربطت الخطة بين أمن إسرائيل واستدامة تفكك العالم العربي، في امتداد مباشر لفكر هرتزل ورموز الصهيونية الأوائل.

هذا الطرح وجد صدى في قراءات ناقدة مثل ما خطه أمين عام مؤسسة برتراند راسل للسلام رالف شونمان في كتابه "التاريخ الخفي للصهيونية"، إذ وصفه بـ"استراتيجية الغزو" القائمة على التفتيت والتقسيم، مثل حل لبنان وإضعاف سوريا وضرب إيران والعراق وإفراغ فلسطين من سكانها. وعلى رغم الجدل حول تحيز شونمان، فإن ما عرضه يعكس بوضوح أن الرؤية لم تكن معزولة، بل ارتبطت بتيارات سياسية متباينة داخل إسرائيل، من حزب "العمل" إلى قادة مثل أرئيل شارون. ويظهر ذلك في "لاءات" حزب العمل الأربع عام 1984 "لا للدولة الفلسطينية، ولا للمفاوضات مع منظمة التحرير، ولا لحدود 1967، ولا لإزالة المستوطنات".

ديناميكيات "إسرائيل الكبرى"

تعد قضية "إسرائيل الكبرى" واحدة من أكثر القضايا مركزية وإثارة للجدل في التاريخ الحديث للشرق الأوسط، فالمشروع الصهيوني، منذ بداياته في أواخر القرن الـ19، لم يقتصر على إقامة دولة قومية آمنة لليهود فحسب، بل ترك الباب موارباً لتوسعات مستقبلية تراكمت تدريجاً على مدى عقود من التخطيط السياسي والهجرة المنظمة والاستيطان، فقد صور تيودور هرتزل في كتابه "دولة اليهود" عام 1896، دولة محدودة المساحة، آمنة قادرة على استيعاب المهاجرين، لكنه أقر في يومياته بأن الحاجة إلى مزيد من الأرض ستزداد مع تزايد أعداد اليهود، في إشارة مبكرة إلى رؤية استراتيجية تتجاوز حدود الكيان الأولى.

 

 

ومع قيام إسرائيل عام 1948 شرعت الدولة الوليدة في تحويل هذه الرؤية إلى واقع عبر ثلاثية واضحة، هي تكثيف سياسات الهجرة، والتوسع التدريجي في الأراضي، وصياغة خطاب مزدوج يعلن عن دولة قومية، بينما يحجب الطموحات التوسعية عن الرأي العام الدولي.

لكن اختزال الصراع في ثنائية "العرب مقابل الصهاينة" يغفل ديناميكيات داخلية أكثر تعقيداً، فالوجود اليهودي في فلسطين (اليشوف) القديم، الذي ضم جماعات يهودية سفاردية وعربية عاش في توازن نسبي تحت الحكم العثماني، سرعان ما وجد نفسه مهمشاً مع قدوم الأشكناز وسيطرتهم على البنية السياسية والاقتصادية لـ"اليشوف" الجديد، هنا أعادت الصهيونية تعريف الهوية اليهودية على نحو متعارض مع البعد العربي، فاعتبرت اليهود الشرقيين عبئاً ثقافياً، حتى وهي توظف أعدادهم لتعزيز التوازن الديموغرافي، ومن المفارقات أن الحركة الصهيونية استفادت من موجات اضطهاد اليهود في مصر والعراق واليمن والمغرب لتغذية مشروعها القومي، مقدمة هذه الهجرات كدليل على الحاجة الملحة لـ"الوطن القومي".

كما أن الوعد الأولي الذي صور للفلسطينيين بأنه يحمل ملامح رفاهية وشراكة في إطار الدولة الجديدة، سرعان ما تلاشى أمام سياسات التهميش والإقصاء المنهجي، إذ تحول الفلسطينيون من شركاء محتملين إلى "عقبة" ينبغي إزاحتها من المشهد، وتكمن أهمية تتبع هذه التحولات في فهم ديناميكيات "إسرائيل الكبرى"، فهي ليست مجرد مشروع توسعي جغرافي، بل منظومة فكرية واستراتيجية متكاملة، نسجت خيوطها من الهجرة، والديموغرافيا والاقتصاد والخطاب الإيديولوجي، وصولاً إلى الممارسات العملية التي جعلت من التوسع المستمر أحد أعمدة الدولة.

أدوات مركزية

 ولدت الحركة الصهيونية الحديثة في قلب أوروبا، كاستجابة مباشرة لسياقات اجتماعية وسياسية واقتصادية معقدة عاشها اليهود في الغرب، فقد تزامن صعودها مع اشتداد موجات معاداة السامية في أوروبا الوسطى والشرقية، خصوصاً في روسيا القيصرية وفرنسا النابليونية الجديدة، ولم يكن لهذه العداوات جذور في فلسطين أو في المنطقة العربية، لكنها أوجدت بيئة دفعت بعض النخب اليهودية إلى البحث عن حل جذري خارج القارة الأوروبية.

طرح هرتزل في كتابه الذي عد بمثابة البيان التأسيسي للصهيونية السياسية، تصوراً براغماتياً لحل "المسألة اليهودية" يقوم على إقامة دولة قومية يهودية، توفر لليهود الأمن والسيادة على "جزء من سطح الأرض"، لم يحدد هرتزل بداية موقعاً قاطعاً لهذه الدولة، بل أشار إلى فلسطين أو الأرجنتين، لكنه أدرك سريعاً القيمة الرمزية والسياسية لفلسطين بوصفها الأرض الأكثر قابلية لجمع الحشد الدولي حول المشروع.

 جاء انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897 ليحول فكرة هرتزل إلى حركة سياسية منظمة تعتمد الهجرة المنظمة والاستيطان الزراعي كأدوات مركزية، وفي عام 1891 كتب الزعيم الصهيوني آحاد هعام أن العرب "يفهمون جيداً ما نفعله وما نهدف إليه"، وفي عام 1901 شكلت المنظمة الصهيونية العالمية شركة، وهي "كيرين كايميث" (الصندوق القومي اليهودي)، لشراء الأراضي للمستوطنين اليهود، ووفقاً لميثاقها، فإن الصندوق يشتري الأراضي في "فلسطين وسوريا وأجزاء أخرى من تركيا في آسيا وشبه جزيرة سيناء".

وكان هدف الصندوق هو "استرداد أرض فلسطين باعتبارها ملكية غير قابلة للتصرف للشعب اليهودي"، ووصف مدير الصندوق أبراهام غرانوفسكي "استرداد الأرض" بأنه "العملية الأكثر حيوية في إقامة فلسطين اليهودية" أو"الوطن القومي"، مع تأكيد أن الأراضي المستحوذ عليها تبقى "وقفاً أبدياً لليهود"، تزرع وتدار حصراً بأياد يهودية.

 

 

حذر إسحاق إبشتاين، أحد المندوبين في المؤتمر الصهيوني عام 1905، قائلاً "هل يعقل أن يلتزم المهجرون الصمت ويقبلوا بهدوء ما يرتكب بحقهم؟ فيما انتقد آحاد هعام مبكراً سياسات استبعاد العمال العرب، متسائلاً "إذا كان هذا حالنا ونحن بلا سلطة، فكيف سيكون إن امتلكناها؟"، لكن هرتزل نفسه لم يخف، في مذكراته، أن إخراج السكان العرب الفقراء "بهدوء وتكتم" شرط لإنجاح المشروع.

استيطان ممنهج

منذ اللحظة الأولى لإعلان قبول خطة التقسيم عام 1947، لم يخف ديفيد بن غوريون قناعته بأن هذا القرار ليس نهاية المطاف، بل خطوة أولى في مسار مشروع أكبر، وكان الخطاب الرسمي حينها موجهاً إلى المجتمع الدولي لإظهار الواقعية والاعتدال، بينما كانت المداولات الداخلية تؤكد أن التقسيم تكتيك مرحلي، لا غاية نهائية، وهذا التناقض بين العلن والسر شكل جوهر الاستراتيجية الصهيونية، تقديم صورة معتدلة للخارج، مع إبقاء المجال مفتوحاً أمام التوسع كلما سمحت الظروف.

على الأرض، جسد قيام إسرائيل عام 1948 هذه المعادلة، فبينما اعتمدت الدولة الوليدة شرعية الأمم المتحدة، مارست في الواقع سياسات طرد وتهجير واسعة طاولت ما لا يقل عن 750 ألف فلسطيني، وهو ما أسس لما يعرف بـ"النكبة"، وتكرر النموذج ذاته في الحروب اللاحقة، انتصاراًت عسكرية تعقبها وقائع توسعية تتجاوز ما أعلن رسمياً، فحرب 1967 على سبيل المثال، لم تقدم كحرب توسع، لكن نتيجتها كانت السيطرة على الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة والجولان وسيناء، وهو ما فتح الباب لمرحلة استيطان ممنهجة.

السياسات المعلنة اعتمدت دوماً لغة الدفاع عن النفس والبحث عن السلام، فيما كشفت الوقائع عن مسار مغاير، تجسد في بناء مستوطنات، وفرض قوانين عسكرية، وتغيير ديموغرافي متدرج. وقد أدى الإعلام والدبلوماسية دوراً محورياً في هذا "الإخفاء المرحلي"، فبينما تتعهد الحكومات الإسرائيلية الالتزام بحلول تفاوضية، تستمر سياسات التوسع على الأرض، مدعومة بخطاب مزدوج، خطاب خارجي يوحي بالاعتدال، وخطاب داخلي يستند إلى سرديات دينية وقومية عن "أرض إسرائيل الكبرى".

 

 

المشهد المعاصر يثبت استمرارية هذه الاستراتيجية، من حصار غزة بعد 2007 إلى الحرب بعد هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الثاني) 2023، بدا واضحاً أن الأهداف العسكرية تجاوزت ملاحقة حركة "حماس" نحو إعادة تشكيل جغرافيا القطاع، وفي الضفة الغربية، إذ يقيم أكثر من 380 ألف مستوطن، يجري تكريس واقع ميداني يتناقض مع ادعاءات الالتزام بحل الدولتين، أما لبنان، فقد أثارت عمليات التوغل الموقتة في الجنوب عام 2024 مخاوف من أن تكون بمثابة اختبار لضم طويل الأمد.

خيارات قصوى

منذ أن خط تيودور هرتزل في يومياته أن "أرض إسرائيل" لا تقتصر على فلسطين التاريخية بل تمتد من "وادي النيل إلى نهر الفرات"، تشكل لدى الحركة الصهيونية تصور يتجاوز حدود الدولة القومية ليأخذ طابع "المشروع الحضاري" المرتبط بـ"الوعد الإلهي والحق التاريخي"، وعلى رغم أن هرتزل قدم مشروعه للعالم ككيان سياسي متعدد الأعراق والأديان يضمن حقوق الجميع ولا يهدد الفلسطينيين، فإن الطموح الكامن ظل يلوح في خطابه الخاص، التوسع إلى "الأرض كلها".

هذا البعد العقائدي صاغ ملامحه لاحقاً رئيس المنظمة الصهيونية العالمية في تلك الفترة حاييم وايزمان حين نجح في إقناع آرثر بلفور الذي كان يشغل منصب وزير الخارجية البريطانية حينذاك بإصدار الوعد الشهير عام 1917، الذي نص على "ألا يؤخذ بأي إجراء ينتقص من الحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية"، غير أن الأحداث اللاحقة برهنت أن هذا التعهد كان أقرب إلى أداة سياسية مرحلية منه إلى التزام فعلي.

أستاذ النظرية القانونية والسياسية في جامعة تل أبيب البروفيسور حاييم غانس ميز بوضوح بين "الحقوق التاريخية" و"الحقوق السيادية"، مشيراً إلى أن فكرة "الأرض كلها" تحولت إلى ذريعة لتبرير الاستيلاء على الأراضي وقمع الفلسطينيين معتمدة على منطق داخلي مغلق "لا يصدقه إلا من يصدقه"، بعيداً من أي حجج أخلاقية أو كونية.

الأحداث الراهنة في غزة ولبنان أعادت هذا الخطاب إلى الواجهة. فبينما تبرر الحكومة الإسرائيلية حملاتها العسكرية على أنها دفاع ضد "الإرهاب"، يتحدث وزراء اليمين المتطرف، مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير وأفيغدور ليبرمان وعميحاي إلياهو، بلغة صريحة عن "تشجيع الفلسطينيين على الرحيل"، وإعادة بناء المستوطنات في غزة، بل والتفكير في "خيارات قصوى" تصل حد الإبادة، ففي مؤتمر "الاستعداد لتسوية غزة" في أكتوبر 2024، دعا بن غفير علناً إلى طرد السكان، بينما وصفت ناشطات صهيونيات مثل دانييلا فايس الفلسطينيين بأنهم "فقدوا حقهم في العيش" في غزة، معلنة أن 700 عائلة مستوطنة جاهزة للانتقال فور الإجلاء.

أيديولوجية الاستيطان

كان الانتصار العسكري لإسرائيل في حرب يونيو (حزيران) 1967 هو اللحظة التي فتحت أمام الخيال السياسي والديني على السواء أبواب يهودا والسامرة (الاسمين العبريين للضفة الغربية)، وقلب "أرض إسرائيل التوراتية"، أو ما يوصف بـ"مهد الأمة"، وفي تلك الأجواء، غنت نعومي شيمر أنشودتها الشهيرة "يروشالايم شيل زهاف" (القدس الذهبية)، فمنحت لقب "السيدة الأولى للأغنية والشعر الإسرائيلي"، إذ أصبحت أغنيتها التي كتبتها عام 1967 نشيداً ثانياً غير رسمي بعد فوز إسرائيل في حرب الأيام الستة في ذلك العام وضم القدس.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأشار الباحث البريطاني في مركز الشرق الأوسط بكلية لندن للاقتصاد إيان بلاك إلى أن أيديولوجية الاستيطان جعلت من "قدسية الأرض" مبدأً جوهرياً، وحولت الفلسطينيين فعلياً إلى "غرباء على أرضهم"، ولاقت فكرة "إسرائيل الكبرى" أو "أرض إسرائيل بأكملها"، استحسان القوميين من اليمين الديني والعلماني على حد سواء، الذين رأوا فيها تحقيقاً لـ"بداية الفداء" ووسيلة لصياغة "وقائع على الأرض" تضمن تعزيز الأمن الإسرائيلي.

وذكر بلاك أنه لم تمض سوى أسابيع على الحرب حتى وصل أوائل المستوطنين إلى كفار عتصيون قرب بيت لحم، قبل أن يعيد آخرون إحياء الوجود اليهودي في الخليل خلال عيد الفصح عام 1968، وخلال العقد الأول من الاحتلال، وتحت حكومات حزب العمل، أقيمت نحو 30 مستوطنة "لأسباب أمنية"، ضمت قرابة خمسة آلاف مستوطن.

ومع صعود حزب الليكود إلى السلطة عام 1977 بقيادة مناحيم بيغن، المتحالف مع القوى القومية الدينية، اتسع نطاق المشروع الاستيطاني ليغوص عميقاً في الضفة الغربية، وكما أوضحت حركة "السلام الآن"، فإن الهدف كان منع أي تقسيم للأرض على أساس "دولتين لشعبين".

وفي هذا السياق كتب الباحث السياسي الباكستاني ألطاف موتي في موقع "أوراسيا ريفيو" أن "السياسات التوسعية لإسرائيل، خصوصاً في الأراضي الفلسطينية، كثيراً ما كانت بؤرة خلافية في الشرق الأوسط، فمفهوم إسرائيل الكبرى، الممتد من المتوسط إلى الفرات، ظل موضع نقاش لعقود، لكن التطورات الأخيرة تعكس أن هذا السعي لا يهدد الاستقرار الإقليمي فحسب، بل يقوض أيضاً أمن إسرائيل وازدهارها المستقبلي".

تطور الخطاب

مع الانتداب البريطاني وازدياد الهجرة اليهودية بدأ الخطاب الصهيوني يأخذ طابعاً استعمارياً مرحلياً، بقبول تقسيمات موقتة وإقامة دولة نواة، مع الإشارة ضمنياً إلى التوسع المستقبلي، وقد عبر حاييم وايزمان عن هذا التوجه بقوله "إن فلسطين بالنسبة إلينا ليست قطعة صغيرة من الأرض، بل إنها هي وحدها التي يمكن أن تمنحنا قاعدة للتوسع القومي"، كما أكد ديفيد بن غوريون في 1937 "قبولنا للتقسيم لا يعني أننا سنتنازل عن باقي فلسطين. الدولة التي ستقوم لن تكون سوى مرحلة نحو تحقيق الصهيونية في كل البلاد".

 

 

وأشارت صحيفة "دافار" العبرية عام 1938 إلى أن "الدولة اليهودية لا يمكن أن تقف عند الحدود المرسومة لها اليوم، هذه الحدود موقتة"، ويظهر هنا التدرج الواضح بين الخطاب العام والخطط الاستراتيجية المخفية، إذ كان الهدف النهائي هو توسع السيطرة على الأراضي الفلسطينية تدريجاً.

بعد إعلان دولة إسرائيل ووقوع النكبة عام 1948 أصبح الخطاب أكثر صراحة وواقعية مع اعتراف ضمني بالاستيلاء على الأراضي الفلسطينية واعتماد القوة كأساس للسيطرة، كما كتب بن غوريون "لو كنت قائداً عربياً لما وقعت اتفاقاً مع إسرائيل أبداً، فهذا طبيعي لقد أخذنا بلادهم"، وأكد موشيه ديان لاحقاً "لقد بقينا هنا، في هذا البلد، بالقوة، وما حصلنا عليه لا يمكن الاحتفاظ به إلا بالقوة"، في هذه المرحلة، تحرر الخطاب من الغموض السابق وأصبح يعكس ما تم تحقيقه من مكاسب فعلية على الأرض.

مع احتلال الضفة الغربية وغزة وسيناء والجولان بعد 1967، تحول الخطاب إلى إعلان مشروع "إسرائيل الكبرى" بصورة علنية، فقد صرح مناحيم بيغن عام 1980 "يهودا والسامرة (الضفة الغربية) ليست أراضي محتلة، إنها أرض إسرائيل، علينا أن نستوطنها ونحكمها إلى الأبد"، كما أشار أرئيل شارون في الثمانينيات "علينا أن نحتل ونستولي على مزيد من الأراضي، كل ما نستولي عليه الآن سيبقى في أيدينا، وكل ما نتركه سيذهب إليهم"، هذا الخطاب يمثل الإفصاح الكامل عن الطموح التوسعي، مع تحويل الاستيطان إلى أداة أساسية لفرض واقع جديد على الأرض.

إن تتبع تطور الخطاب الصهيوني يظهر خطة مرحلية دقيقة، البداية بلغة إنسانية قومية مضللة، مروراً بمرحلة الاستعمار المرحلي والقبول الجزئي للحدود الموقتة، وصولاً إلى الإفصاح العلني بعد "النكبة"، ثم إعلان مشروع "إسرائيل الكبرى" بعد 1967 مع الاستيطان كأداة مركزية للسيطرة، ويبين هذا التسلسل أن التدرج في الخطاب كان وسيلة استراتيجية لضمان تحقيق الأهداف التوسعية من دون مواجهة مباشرة مع القوى الدولية في كل مرحلة.

سيناريوهات محتملة

لم تعد فكرة "إسرائيل الكبرى" محصورة في المخيلة الصهيونية القديمة، بل تحولت إلى مشروع يتغذى على تراكمات سياسية وعسكرية وتشريعية، وعلى رغم أن حدود هذا المشروع لا تزال في طور التشكيل، فإن المؤشرات الميدانية والسياسية تعكس مساراً تدريجاً نحو ترسيخ واقع توسعي، يربط بين السيطرة على الأرض وإعادة صياغة البيئة الإقليمية بما يخدم التفوق الإسرائيلي.

 

 

نجحت إسرائيل في تحقيق مكاسب ملموسة، أبرزها تكريس الاستيطان في الضفة الغربية كأمر واقع، وسن قوانين تقصي عملياً إمكانية قيام دولة فلسطينية ذات سيادة. كما استفادت من حالة الانقسام الفلسطيني لتضعف القدرة على صياغة مشروع وطني جامع.

على المستوى الإقليمي اتسمت العقود الأخيرة بتبدلات كبرى، انهيار بعض الدول العربية، واستنزاف أخرى في صراعات داخلية أو حروب بالوكالة، وخلق بيئة رخوة تستغلها إسرائيل لتعزيز حضورها العسكري والسياسي، لكن هذه البيئة يمكنها تغذية "محور المقاومة" الذي يمتد من غزة إلى لبنان وسوريا وإيران، ويشير إلى أن التوسع الإسرائيلي سيظل محفوفاً بالكلفة والأخطار.

دولياً، لعبت الولايات المتحدة الدور الأبرز في حماية المشروع الصهيوني عبر الدعم العسكري والغطاء الدبلوماسي، في حين تبنى الاتحاد الأوروبي خطاباً مزدوجاً، يجمع بين الانتقاد اللفظي للسياسات التوسعية والتعاون العملي في مجالات اقتصادية وأمنية، أما روسيا، فقد حاولت استثمار التناقضات الإقليمية لتعزيز نفوذها، لكنها لم تتجاوز حدود ردع تكتيكي يوازن الوجود الأميركي أكثر مما يحد من إسرائيل نفسها، أما الدول العربية، فقد انقسمت بين دول اندمجت في مسار التطبيع، معتبرة إسرائيل شريكاً أمنياً ضد التهديدات الإقليمية، ودول أخرى تواصل دعم المقاومة سياسياً أو لوجيستياً.

في ضوء هذا الواقع، تبرز ثلاثة سيناريوهات، الأول، نجاح إسرائيل في فرض واقع جغرافي جديد يقترب من تصور "إسرائيل الكبرى" بفضل استمرار الدعم الأميركي، والتفكك الفلسطيني، مع خرائط "أمن، ومستوطنات" متداخلة، مما يؤدي إلى بروز أخطار انفجارات دورية تبقي الشرعية الدولية معلقة.

والسيناريو الثاني بروز مقاومة فلسطينية وإقليمية قد تفرض معادلات ردع تصاعدي متعدد الساحات وطويل المدى، يظهر في تناغم فلسطيني - إقليمي أكبر، وقدرات دفاعية متنامية، وتبدل في مزاج العواصم الغربية، مما ينتج منه إبطاء التوسع وفرض أثمان سياسية وقانونية أعلى.

أما السيناريو الثالث، بروز توازن هش طويل الأمد يُبقي إسرائيل بين التوسع الرمزي على الخرائط والحدود وقيود الواقع المفروض من القوى المحلية والإقليمية، إذ لا حسم للتوسع ولا تقويض له، في ظل خطوط تماس مرنة، واقتصادات حرب منخفضة الوتيرة، وشرعية متنازع عليها تدار بالأدوات لا بالاتفاقات.

المزيد من تحقيقات ومطولات