ملخص
كان الهدف المباشر من "الخطابات" إيقاظ روح المقاومة لدى الألمان وتأكيد أن اللغة والثقافة قادرتان على توحيد شعب مقسم، في دولة غير موحدة كانتها ألمانيا حينها، إذ كانت مجرد فسيفساء من الإمارات والمقاطعات.
هناك ما لا يقل عن ثلاثة مبدعين ألمان يطلعون من الماضي كمادة لدعم الفكر النازي، وليس في صيغته الجرمانية وحسب، بل في انتشاره خارج الرقعة الجغرافية التي يفترض أنهم ينتمون إليها، فهناك أولاً نيتشه الذي لم يكتف النازيون بتفسير فكره على هواهم، بل إنهم استندوا في ذلك إلى "تفسيرات" شقيقته بعد انتمائها إلى فكر النازيين لدعم رؤاهم بأفكار ونصوص بدت لهم ملائمة ولو مشوهة، وصولاً إلى تقويلها ما لم تقله، وهناك ثانياً فاغنر الذي فهم النازيون اهتمامه بالأساطير الجرمانية في أوبراتاته الكبرى، كجزء من تقديس لما اعتبروه الخصوصية الآرية فتبنوه تماماً معتبرينه مع نيتشه من مؤسسي تلك الأيديولوجيا الكأداء، أما ثالث الثلاثة فكان الأخطر من بين كل الذين نظر إليهم النازيون باعتبارهم منبعاً أيديولوجياً لنظرياتهم، ذلك لأنه مفكر وفيلسوف لا يحتمل فكره أي التباس، كان الالتباس الوحيد أنه عاش وكتب قبل قرن من ولادة النازية، كأيديولوجية للسلطة، تتسم أول ما تتسم بنظرة احتقار تلقيها على كل ما ليس آرياً في هذا الوجود، وذلك بالتحديد انطلاقاً مما يقوله مؤسس تجديديتها أدولف هتلر في كتابه البائس "كفاحي"، الثالث هو، إذاً، الفيلسوف التنويري فيخته وبالتحديد من خلال كتابه المعروف بعنوان شديد الدلالة هو "خطابات إلى الأمة الألمانية"، والحقيقة أن كثراً الذين، كما حال كثير من المفكرين العرب، يستخدمون هذا الكتاب لتأكيد ما يعتبرونه "تأسيس فيخته الفكر النازي"، يغريهم العنوان في المقام الأول، فينسفون تاريخية الكتاب ويجتازون قسراً أكثر من 100 عام، متعاملين مع نصوصه باعتبارها من مكونات "الحداثة" القومية، كما راقت لهم واعتبروها ملائمة لفكرهم الانغلاقي القائم أصلاً على كراهية الآخر، ساكتين عن ظروف صدور هذا الكتاب والخلفيات التي حتمت على المفكر الألماني التنويري إصداره، ومع ذلك لا بد لنا من أن نتساءل هنا مع آخرين تساءلوا من قبلنا وسيتساءلون من بعدنا، عما إذا كان منطقياً اعتبار هذه "الخطابات" سلاحاً نافعاً في المعركة.
النازية أو القومية في أي من انتماءاتها... أصل الحكاية
الحقيقة أن المسألة التي يمكن أن تطرح من خلال مدخلنا إلى هذا الموضوع، تنطلق من سؤال شغل دائماً مؤرخي الفكر الألماني، لأن يوهان غوتليب فيخته (1762 - 1814) يقع بفكره في منطقة ملتبسة بين كونه أحد آباء الفلسفة المثالية الألمانية من جهة، وكون بعض أفكاره ولا سيما منها تلك التي يعبر فيها عن فكر يبتعد عن تلك المثالية، في "خطابات إلى الأمة الالمانية" على سبيل المثال، قد أتى يخدمهم لاحقاً في بناء الهوية القومية الألمانية التي عرفت النازية بطريقة متطرفة، غير أن أي تحليل هنا يحتاج إلى فرز دقيق بين ما قاله فيخته بالفعل، وبين ما استخدم منه لاحقاً بقراءة انتقائية، بحسب تأكيدات مؤرخي الفكر الأكثر وعياً بين الألمان.
ولعل أول ما يمكن أن نقوله هنا هو أن فيخته كتب خطاباته بين العامين 1807 و1808، وتحديداً في سياق الاحتلال الفرنسي لألمانيا بقيادة نابليون بونابرت، ومن ثم كان الهدف المباشر من "الخطابات" إيقاظ روح المقاومة لدى الألمان وتأكيد أن اللغة والثقافة قادرتان على توحيد شعب مقسم، في دولة غير موحدة كانتها ألمانيا حينها، إذ كانت مجرد فسيفساء من الإمارات والمقاطعات، وهو ما يعني في النهاية أن فيخته كان يكتب بروح تحريرية دفاعية، لا بروح استعمارية أو عنصرية كتلك التي طبعت الفكر النازي وممارساته لاحقاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بين اللغة والهوية
في الخطابات يصر فيخته إذاً على أن الأمة الألمانية هي أمة حافظت على لغتها الأصلية من دون أن تشوبها شائبة، وهنا تكمن نقطة الالتقاء المحتملة، فالنازيون سيحولون هذه الفكرة إلى مبدأ عنصري قائم على نقاء العرق، بينما كان فيخته يقصد في الأساس اللغة بوصفها حاملاً للروح والثقافة بكونها عملية تربوية وتشكيلاً أخلاقياً، من دون احتساب أي حساب للدم أو البيولوجيا، وهنا يكمن الفارق الجوهري، إذ إن فلسفة فيخته الأخلاقية والسياسية إنما تقوم على الحرية والمسؤولية الذاتية، لا على الطاعة العمياء للسلطة. الدولة لدى فيخته ليست غاية بل وسيلة لضمان تربية روحية وأخلاقية، أما النازية فإنها مبنية كما يقول المؤرخون الألمان الأكثر وعياً، من ناحية على إخضاع الفرد للدولة والحزب، كما على عبادة الزعيم، ومن ناحية ثانية على الاستغناء عن الحرية الأخلاقية لمصلحة "الجسد القومي المشترك" وهو ما يتناقض كلياً مع فكر فيخته، ومهما يكن من أمر هنا، يتساءل المؤرخون أنفسهم عما إذا كان ثمة نقاط التقاء جاهزة للاستعمال، بين الفكر النازي والجذور التي صاغ عليها فيخته أفكاره؟ والحقيقة أن الجواب السليم هو: نعم هناك مثل تلك النقاط بالتأكيد لكنها ليست بأية حال من الأحوال تطابقاً فلسفياً، بل مجرد مجموعة من التقابلات في مضمار نوع معين من التأويل الأيديولوجي ومن أبرزها في سياقنا هنا: مركزية الأمة والثقافة الألمانيتين، وفكرة رسالة ألمانيا الأخلاقية والتاريخية، وأخيراً نبرة نبوية في الحديث عن مستقبل الأمة. ويقيناً أن هذه المساحات التي تبدو مشتركة، كانت أرضاً خصبة للقراءة الانتقالية لاحقاً، وخصوصاً بعد توظيف فكر كانت وهيغل ونيتشه بطرق مماثلة من ناحية، وموسيقى فاغنر من ناحية مقابلة.
خلاصة ولو موقتة
ومهما يكن من أمر هنا فإن الخلاصة الأولية التي يمكننا أن نطلع بها من هذا الكلام الذي قد يبدو تبسيطياً بالنظر إلى خطورة البعد الفكري للمسألة، وما قد يترتب عليه، هي أنه ليس من المنطقي القول إن ثمة من علاقة مباشرة بين فكر فيخته والفكر النازي، أو أن فيخته قد مهد لولادة النازية ولو نظرياً بصورة واعية أو متسقة. ففلسفته في نهاية الأمر فلسفة عقلانية وأخلاقية، ووسائله تربوية لا عنصرية، وغاياته تحررية لا شمولية، أما في المقابل فإن بعض لغته يبدو قومجياً في حماسته، مما مكن لاحقاً من العثور على قراءة قومية متطرفة ولا سيما في "الخطابات" وبخاصة في لحظة كانت ألمانيا تبحث فيها عن سرديات قومية كبرى تستند إليها، ولا سيما في "الخطابات" من خلال السعي فيها للوصول إلى فكرة ما عن "رسالة ألمانيا"، مما مكن لاحقاً من قراءة قومية متطرفة لفكر هذا الفيلسوف التنويري الكبير، أما الخلاصة النهائية هنا فتقول لنا إن النازية لم تبنَ على فكر فيخته بل على تشويه انتقائي لهذا الفكر.