ملخص
الربط بين "مزاعم الضحية" التي بُنيت على مأساة الهولوكوست، و"ذرائع البقاء" التي وُلدت من طوفان الأقصى، يكشف نمطاً متكرراً، يقوم على توظيف الصدمة لإنتاج شرعية دولية أو داخلية لمشاريع توسع. وبينما مثل "الهولوكوست" مدخلاً لإقامة دولة، يحاول اليمين الإسرائيلي اليوم تحويل طوفان الأقصى إلى مدخل لإقامة كيان أوسع، وأقل قابلية للتراجع، تحت شعار الأمن والديموغرافيا والسيادة المطلقة.
لطالما ارتكز المشروع الصهيوني منذ بدايات القرن الـ 20 على فكرة "الضرورة التاريخية" لإنشاء وطن قومي لليهود، لكن هذه الفكرة لم تتحول إلى واقع سياسي ملموس إلا بعد الحرب العالمية الثانية. فقد استثمرت الحركة الصهيونية العالمية في "الهولوكوست"، ليس فقط بوصفها مأساة إنسانية طاولت ملايين اليهود قبل عقود على يد الحركة النازية، بل كـ"صدمة أخلاقية" وظفتها ببراعة لإقناع القوى العظمى والمجتمع الدولي بأن إقامة دولة إسرائيل باتت حلاً لا مفر منه.
هنا تداخل البعد الإنساني بالاستراتيجي، فتم تمرير قرار التقسيم عام 1947، ثم أعلنت الدولة الإسرائيلية عام 1948، تحت غطاء سردية "الضحية- الناجية" التي تحتاج إلى كيان يحميها.
اليوم، وبعد عقود من قيام الدولة، تكرر إسرائيل وحلفاؤها النمط نفسه لكن بصيغة مغايرة. فـ"طوفان الأقصى"، الذي اندلع في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، قرأته تقارير عدة باعتباره نتاجاً تراكمياً لعوامل الحصار، والانقسام الفلسطيني، والتراخي الإقليمي والدولي في حل جذور الصراع.
غير أن إسرائيل تعاملت معه لا كجرس إنذار لانسداد سياسي طويل، بل كـ "ذريعة وجودية" جديدة لإعادة صياغة خرائط السيطرة. فالهجمات وما رافقها من مشاهد قتل وخطف استُثمرت داخلياً لتغذية خطاب "الحرب من أجل البقاء"، تماماً كما استُخدم "الهولوكوست" في الأربعينيات.
الفارق أن إسرائيل اليوم لا تسعى إلى شرعنة "حق الوجود"، فهذا مكفول منذ 1948، بل إلى شرعنة مشروع التوسع والسيطرة الكاملة على الأرض من النهر إلى البحر، أي ما يُسمى في الخطاب الأيديولوجي بـ "إسرائيل الكبرى".
فالمجازر المستمرة والدمار في قطاع غزة، والمشاريع الاستيطانية المتسارعة في الضفة الغربية، ومحاولة فرض مناطق عازلة جديدة، كلها تأتي في سياق استثمار اللحظة لإعادة إنتاج "معادلة أمنية" تجعل من (الدولة العبرية) اللاعب الوحيد المهيمن، فيما يُدفع الفلسطينيون إلى الهامش سياسياً وديموغرافياً.
كذلك فإن الربط بين "مزاعم الضحية" التي بُنيت على مأساة "الهولوكوست"، و"ذرائع البقاء" التي وُلدت من عملية السابع من أكتوبر، يكشف نمطاً متكرراً، قائماً على توظيف الصدمة لإنتاج شرعية دولية أو داخلية لمشاريع توسع. وبينما مثل "الهولوكوست" مدخلاً لإقامة دولة، يحاول اليمين الإسرائيلي اليوم تحويل هجوم حركة "حماس" إلى مدخل لإقامة كيان أوسع، وأقل قابلية للتراجع، تحت شعار الأمن والديموغرافيا والسيادة المطلقة.
"الهولوكوست" ودعم إقامة دولة بديلة
يقول موقع "موسوعة الهولوكوست"، وتحت عنوان "الناجون من الهولوكوست، وإقامة دولة إسرائيل 14 مايو (أيار)، 1948"، إن معاناة اليهود الأوروبيين "استمرت طيلة قرون عدة لما لاقوه من معاداة السامية. حيث فرضت الحكومات والكنائس في جميع أنحاء أوروبا حملات من القيود عليهم. على سبيل المثال، منعوا من امتلاك الأراضي وفرضت قيود على الأماكن التي يمكنهم العيش فيها والوظائف التي يمكنهم شغلها. وفي بعض الأحيان، أُجبروا على ارتداء علامات مميزة لجعلهم منبوذين اجتماعياً".
دفع هذا التاريخ الطويل من الإقصاء والاضطهاد العديد من اليهود إلى استنتاج أن المستقبل الوحيد للحياة المجتمعية اليهودية يتمثل في إنشاء وطن في أرض إسرائيل. وفي أواخر القرن 19، تأسست حركة سياسية يهودية جديدة تُسمى "الصهيونية" لتحقيق هذا الهدف. وذاع صيت الحركة الصهيونية بشكل مطرد في أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى، وحينها أدى ظهور حركات وسياسات جديدة معادية لليهود إلى ازدياد حدة الاضطهاد ضدهم.
ويتابع البحث، ودائماً وفقاً لـ "موسوعة الهولوكوست"، أنه "قتل النازيون وحلفاؤهم والمتعاونون معهم ستة ملايين يهودي من الرجال والنساء والأطفال... وفي أعقاب هذه الإبادة الجماعية، بات واضحاً للعديد من الناجين وغيرهم أن اليهود بحاجة ملحة إلى بلد يجمع شتاتهم حيث يتمكنون من العيش بأمان واستقلال. وازداد دعم الصهيونية بين الناجين من الهولوكوست والقادة الدوليين وغيرهم".
"الوطن اليهودي"
يرى الحاخام اليهودي الأميركي المعارض للصهيونية يعقوب شابيرو أن "الصهيونية هي الكذبة الجامعة التي تنطوي تحتها كل الأكاذيب اللاحقة". وفي مقابلة إعلامية أوضح أن اليهود، في لحظة تبلور الفكرة الصهيونية، لم يكونوا يوماً شعباً واحداً أو قومية متجانسة، بل كانوا جماعات متناثرة لا يوحدها عِرق أو لغة أو ثقافة، وحتى ديانتهم لم تكن بنسخة واحدة.
ويشرح شابيرو أن العزلة التي اتسمت بها "الغيتوات" اليهودية في أوروبا، وكلمة "الغيتوات" تعني الأحياء أو المناطق السكنية المغلقة أو شبه المغلقة، لم تكن مفروضة فقط من الخارج، بل كانت خياراً داخلياً للحفاظ على الخصوصية والتميز وسط محيط مسيحي.
وبما أن اليهودية لم تكن ديانة تبشيرية، فقد بدت هذه الانعزالية السبيل الطبيعي للاستمرار. غير أن مؤسسي الحركة الصهيونية الأوائل قلبوا المعادلة، وحولوا الديانة إلى قومية جامعة، وابتدعوا "الكذبة الأولى" التي تقوم على خلق هوية موحدة لليهود من الشرق والغرب والشمال والجنوب، المتدينون منهم وغير المتدينين، وفتحوا هذه المجتمعات على العالم من أجل دمج خليط متباين في مشروع واحد. لكن هذا التحول، بحسب شابيرو، كان يحمل في طياته معضلة وجودية. ففكرة "الوطن اليهودي" في زمن صعود القوميات الأوروبية، وضعت الأقليات اليهودية أمام خيارات حادة، إما البقاء في أوروبا تحت التهميش والشك، إذ بات وجودهم غير مبرر بعد إعلان "قيام وطنهم"، أو الانخلاع من جذورهم التاريخية والانضمام إلى مشروع لم يكن واقعياً أو مستداماً. ومن هنا، لجأ الرواد الصهاينة إلى افتعال حالة عداء بين اليهود والدول المضيفة، من أجل دفعهم باتجاه الهجرة.
وبالعودة إلى واقع الحال اليوم، يطرح سؤال على طاولة المحللين، وفيه هل أسهمت عملية السابع من أكتوبر في تسويغ فكرة "إسرائيل الكبرى"، وتمريرها ضمن الأجندات الدولية؟
قبل "الهولوكوست" بسنوات طويلة وُجد مشروع قومي صهيوني وهيئات ومؤسسات ووقائع استيطان، لكن الكارثة لعبت دور "الصدمة الأخلاقية" التي عجلت بتبلور إرادة سياسية دولية لقبول فكرة الدولة اليهودية، وظهرت ترجمتها في قرار التقسيم (181) عام 1947. وهذا لا يعني أن "الهولوكوست" أنشأ إسرائيل من العدم، بل أنه سرع قبول خطة كانت مطروحة أصلاً.
فما المقصود بـ "إسرائيل الكبرى" اليوم؟
مما لا شك فيه، أن المصطلح ليس سياسة رسمية مُجمعاً عليها، بل تعبير أيديولوجي-تاريخي متشظٍ، من "أرض إسرائيل الكاملة" التوراتية، إلى إبقاء السيطرة الإسرائيلية على كل ما بين النهر والبحر، في إشارة إلى نهر الأردن البحر الأبيض المتوسط.
في الحاضر، يستخدمه التيار القومي- الديني المتشدد للدفع نحو سيادة دائمة على الضفة، وأحياناً إعادة توطين في غزة.
ماذا غير السابع من أكتوبر 2023 داخل إسرائيل؟
فتحت الهجمات غير المسبوقة في الداخل الإسرائيلي، نافذة لتيار اليمين المتشدد لتسريع "الضم بحكم الواقع". والمؤشرات على ذلك، القفزة الاستيطانية القياسية بين عامي 2024–2025، وشملت قراراً حكومياً في 29 مايو (أيار) الماضي، بإنشاء أو إضفاء شرعية على 22 مستوطنة جديدة في الضفة، ثم إعادة تحريك مشروع (E1) الفاصل بين شرق القدس والضفة، وهو مخطط استيطاني إسرائيلي يهدف إلى ربط مدينة القدس بمستوطنات إسرائيلية شرقها في الضفة الغربية، ويقع بين تجمع مستوطنة "معاليه أدوميم" ومستوطنة "بسجات زئيف".
يهدف هذا المشروع إلى تعزيز الاستيطان وربط القدس بكتلة مستوطنات كبيرة شرق المدينة، مما يمثل تغييراً ديمغرافياً واستراتيجياً في الضفة الغربية، وقُدم هذا المشروع بوصفه خطوة تدفن فكرة الدولة الفلسطينية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"ثورة الضم" في الضفة الغربية
وفقاً لتقارير تابعة لمنظمات مثل حركة "السلام الآن" الإسرائيلية (أكبر وأقدم حركة سلام إسرائيلية. تأسست عام 1978، بهدف الدفع نحو تسوية سياسية عادلة للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني)، فقد رصدت ووثقت تحويلات مالية، وتقنين بؤر، ومسارات إجرائية تُعدها "تسريعاً للضم". وتعتبر هذه المنظمة أن حكومة بنيامين نتنياهو "استغلت الظروف لخلق وقائع جديدة على الأرض في الضفة، وسرعت عمليات مصادرة وضم الأراضي، وأنشأت أكثر من 25 بؤرة استيطانية جديدة هناك". ووصفت الحركة ما قامت به حكومة نتنياهو في الضفة الغربية بـ"ثورة الضم"، مضيفة أنه تم إنشاء ما لا يقل عن 25 بؤرة استيطانية جديدة، معظمها بؤر استيطانية زراعية، مشيرة إلى أن الحكومة "متورطة في الاستيلاء على الأراضي والطرد الممنهج للفلسطينيين من المنطقة". وجاء في تقرير الحركة أنه جرى تعبيد عشرات الطرق لإقامة بؤر استيطانية جديدة والاستيلاء على أراض إضافية. كما تم الإعلان عن 24 ألفاً و193 دونماً "أراضي دولة"، أي ما يقرب من نصف إجمالي المساحة المعلن عنها كأراضي دولة منذ اتفاقيات أوسلو حتى اليوم.
وفي غزة، تم إنشاء مناطق عازلة، كـ "ممر نتساريم" وبنية عسكرية دائمة الطابع، مع تصريحات رسمية بالإبقاء على "حزام أمني" حتى بعد أي تسوية.
وعلى مستوى الخطاب القيادي، كرر نتنياهو رفض قيام دولة فلسطينية واشتراط "التحكم الأمني الإسرائيلي بكل ما يقع غرب نهر الأردن"، بما يتعارض مع السيادة الفلسطينية.
تغير المزاج الدولي
على الصعيد الدولي، حصل العكس تقريباً، إذ بدا واضحاً أن هناك تحولاً في المزاج الأوروبي باتجاه تعويم "حل الدولتين" لا "إسرائيل الكبرى". كما وجمدت الولايات المتحدة شحنة قنابل 2000 رطل في مايو (أيار) 2024 على خلفية عملية رفح، بينما سجلت أوروبا قرارات وأحكاماً متباينة بين تقييد وتسويغ صادرات السلاح، كهامش مناورة لا تفويض لضم دائم.
وغذت الكلفة الإنسانية الضخمة في غزة، رأياً عاماً ضاغطاً عابراً للقارات، حيث أشارت تقديرات أممية حديثة إلى سقوط أكثر من 62 ألف فلسطيني منذ اندلاع الحرب، ما عمق العزلة السياسية والأخلاقية، لإسرائيل، وحد من التفويض المفتوح الذي كانت تتمتع به سابقاً.
في السياق، أسهم هذا الواقع بسقوط أي "تحالف دولي لتمرير إسرائيل الكبرى" بل على العكس، نشأ مزيج من ضغط قانوني-دبلوماسي وتزايد الاعتراف بفلسطين، يقابله إصرار إسرائيلي داخلي على توسيع السيطرة الميدانية.
وهنا لا بد من طرح سؤال أساسي وجوهري عن حدود مسؤولية حركة "حماس" وغيرها من الفصائل الفلسطينية في توفير ذرائع للتغول الإسرائيلي؟
منذ عقود، شكلت التنظيمات الفلسطينية سيفاً ذو حدين في مسار الصراع. فبينما قدمت نفسها كقوى مقاومة للاحتلال، أسهمت، عن قصد أو عن غير قصد، في توفير الذرائع التي استثمرتها إسرائيل للتوغل أكثر في الضفة الغربية وغزة. وأحدث مثال على ذلك كان هجوم "حماس" في أكتوبر، والذي وفر للتيار الإسرائيلي اليميني المتشدد "الفرصة الذهبية" لتبرير تدمير البنية المدنية في غزة، وإقامة مناطق عازلة، وبناء المستوطنات في الضفة.
وما بين العمليات الفردية غير المنضبطة، والانقسامات الفصائلية، والخيارات العسكرية التي تستجلب ردوداً إسرائيلية عقابية واسعة، وجدت إسرائيل دائماً في هذه الأفعال مادة دعائية وأمنية تتيح لها تعميق مشروع السيطرة، وإقناع الداخل والخارج معاً بأن "التهديد الوجودي" يفرض استراتيجيات توسعية لا يمكن التراجع عنها.
وصحيح أن عملية "طوفان الأقصى" لم تنتج سياسة "إسرائيل الكبرى" من فراغ، لكنها وفرت لحكومة يمينية متشددة "لحظة تمكين" لتكثيف الضم الفعلي في الضفة وترتيبات أمنية طويلة الأمد في غزة.
"الفعل المُسلح" يفتح نافذة "إعادة هندسة" الصراع
أتاحت كل موجة عنف كبيرة لإسرائيل ترجمة سردية "التهديد الوجودي" إلى إجراءات بنيوية دائمة، جدران، أحزمة أمنية، وقوننة توسع استيطاني، والأمثلة عديدة منها، قرار يونيو (حزيران) 2002 ببناء جدار الفصل بعد موجة تفجيرات انتحارية في الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وعلى رغم إصرار إسرائيل على اعتباره حاجزاً أمنياً، وصفه الفلسطينيون ومحكمة العدل الدولية بأنه غير شرعي وينتهك القانون الدولي.
فيما تكرست ثلاث آليات بعد "طوفان الأقصى"، أولاً، عقيدة "صفر المخاطر" الأمنية، إذ قُدمت كل طبقة جديدة من السيطرة بوصفها ضرورة لخفض المخاطر إلى الصفر، أحزمة عازلة أعمق داخل غزة، و"ممر نتساريم" الذي يقسم القطاع عملياً ويُقيد حركته. ووثقت صور الأقمار الاصطناعية والتقارير الميدانية توسع منطقة العزل وقيام بنى عسكرية ثابتة على طول الممر.
ثانياً، "الهندسة الجغرافية" كسياسة، وتوسيع "المنطقة العازلة" إلى عمق يصل إلى 3 كلم، وفي بعض الأماكن من القطاع دمرت أحياءً وبنية زراعية، وأعيد رسم خطوط سيطرة يومية عبر حواجز، ومعابر، ومحاور تحكم. ووصفت هذه الخطوات بأنها قد تمتد لسنوات تحت عنوان "التحكم الأمني الدائم".
ثالثاً، البيروقراطية الاستيطانية المسرعة، في الضفة، إذ استثمر اليمين المتشدد اللحظة لدفع عجلة التقنين والتمدد عبر إقامة 22 مستوطنة.
أين تقع مسؤولية "حماس" والفصائل في "صناعة الذريعة"؟
تكمن مسؤولية "حماس" وغيرها من الفصائل، بخاصة في الحرب الأخيرة، بأنها خالفت مخالفة صريحة قانون الحرب، ووثقت منظمات كـ "هيومن رايتس ووتش" و"أمنستي" جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في 7 أكتوبر، كاستهداف المدنيين، وأخذ رهائن، وإطلاق صواريخ عشوائية، وهي أفعال تمنح الخصم ذخيرة قانونية ودعائية لشرعنة إجراءات قاسية طويلة الأمد.
إلى ذلك، يدفع العمل المسلح ذي الكلفة المدنية العالية جمهور الخصم نحو أقصى اليمين ويُضعف كل وسيط داخلي مؤيد لتسوية، فتُفتح نافذة سياسات الحسم لا سياسات التسوية. وهذه الديناميكيات هي خلاصة ثابتة في أدبيات النزاعات المسلحة.
ازدواجيات الحكم والسلاح والانقسام في غزة
منذ سيطرة "حماس" على غزة عام 2007 وما تلاها من حصار مُحكم، باتت أية جولة عنف تُقرأ في إسرائيل وأوساط غربية كفشل حوكمة مسلحة، ما يُسهل تمرير إجراءات جماعية عقابية تحت لافتة "إزالة البنية القتالية".
وكانت التفجيرات الانتحارية بين 2000 و2005 قد أفضت إلى عملية "السور الواقي" ثم قرار بناء جدار الفصل يونيو (حزيران) 2002 وتحويله إلى واقع دائم غير أنماط الحركة والاقتصاد، مع تعقيد إضافي لمسألة الحدود النهائية.
ومنذ عام 2007 وما تلاه، وبعد سيطرة "حماس" على غزة، نشأ حصار شامل وتشدد في القيود والحركة والإمداد، ما جعل أي تصعيد لاحق يُوظف لتوسيع "الهندسة الأمنية" للقطاع.
ولاحقاً ومنذ 2023، وحتى اليوم، أقيمت أحزمة أمنية وممرات عسكرية، عدا عن الدمار الواسع واعتماد سياسة الأرض المحروقة داخل القطاع، ودفع السكان قسراً نحو النزوح الجماعي. كما واعتماد سياسة التجويع بحق أكثر من 2.4 مليون فلسطيني في القطاع، عبر المنع المتعمد لدخول الغذاء والماء، ما تسبب بوفاة 332 بينهم 124 طفلاً، إلى جانب "تدمير ممنهج لما تبقَّى من المنظومة الصحية"، وذلك وفقاً للمكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة.
كيف تُترجم الذريعة إلى "تغول" دائم؟
عند هذه النقطة، يمكن القول إن السابع من أكتوبر نقطة تحول إلى "لحظة تأسيسية ثانية" تشبه في الوظيفة السياسية سردية ما بعد 2002. وهذا ما دفع نتنياهو للقول إن هذه الحرب تدور حول التالي، إما نحن إسرائيل أو هم وحوش "حماس"". وأكثر من هذا ذهب إلى حد اعتبار أنها "الحرب الإسرائيلية الثانية من أجل الاستقلال"، مما يعني أن كل شيء مباح، كما كان خلال النكبة عام 1948، وكلامه يقرأ على أنه إعادة للصراع إلى بداياته أي منذ نشأة دولة إسرائيل، وستحدد نتائج هذه الحرب مستقبل القضية الفلسطينية، وأيضاً مستقبل دولة إسرائيل.
توسيع السيطرة الإسرائيلية
في المحصلة عجل "الهولوكوست" بقبول مشروع كان قائماً أصلاً، كما وسرع "طوفان الأقصى" توسيع السيطرة الإسرائيلية الواقعية لكنه لم يُنتج شرعية دولية لـ "إسرائيل الكبرى".
وعليه، نجحت الحركات الفلسطينية المسلحة في إزاحة مركز الثقل الإسرائيلي نحو أقصى اليمين وفتحت للمستوطنين نافذة توسع، وراكمت كلفة بشرية- مادية على مجتمعها وأتاحت مسوغات قانونية- أمنية لإجراءات إسرائيلية بنيوية، كمناطق عازلة، وتفكيك بنى مدنية في غزة، وتسارع الاستيطان في الضفة. ولكن في المقابل، غذت أيضاً موجة اعتراف ومحاولات مساءلة دولية ضد إسرائيل لم تكن بهذا الزخم قبل أحداث أكتوبر.
ولكن الثابت أن استمرار تكتيكات تستجلب ردوداً عقابية شاملة يُضعف القضية ويمنح خصومها وقوداً دعائياً وقانونياً. من هنا فإن توحيد المرجعية، وقطع ازدواجية السلاح مع الحكم، وخطة نضال حقوقية- دبلوماسية منضبطة هي الطريق الوحيدة لتجفيف الذرائع وتغيير المزاج الدولي من التعاطف الإنساني إلى قرارات مُلزمة.