ملخص
من الجلي للعيان، أن لاوون قد بذل قصارى جهده خلال أول 100 يوم من ولايته، لمحاولة معالجة الانقسامات التي تعمقت خلال حبرية فرنسيس، إذ قدم رسائل الوحدة وتجنب الجدل في كل منعطف تقريباً .
بعد نحو 100 يوم من تنصيبه على السدة البطرسية، بعد أن خلت بوفاة البابا فرنسيس، لا تزال الأنظار متعلقة بالحبر الروماني الأعظم، البابا لاوون الـ14، في محاولة لفهم شخصيته، وإلى أين يبحر أول بابا أميركي الأصل، بسفينة بطرس الصياد الجليلي الفلسطيني، الذي إليه يعزى تأسيس كنيسة روما.
من الواضح بداية الأمر أن الرجل يحاول العمل بهدوء ومن دون جلبة، وفي سعيه يبدو متطلعاً إلى الوفاق لا الافتراق، لا سيما بعد أن حفلت حبرية البابا فرنسيس، على أهميتها، بكثير من نقاط الشد والجذب، بين الليبراليين والمحافظين وراء أسوار واحدة من أقدم وأهم المؤسسات الإنسانية عبر التاريخ.
والشاهد أنه عبر التاريخ الطويل للكنيسة الرومانية الكاثوليكية، كان هناك 14 شخصاً حملوا اسم "ليو أو الأسد"، فقد كان هناك ليو الأول "العظيم أو الكبير"، وكان من أهم الباباوات في تاريخ الكنيسة، فقد أنقذ مدينة روما، وأرسى الملامح العصرانية للبابوية بقوة كخليفة حقيقي لبطرس، ليس فقط لروما ولكن للعالم أجمع.
ومن الشخصيات المهمة أيضاً التي حملت الإنساني عامة وليس المسيحي فحسب، من جراء رسالته العامة الشهيرة "الشؤون الحديثة"، التي كانت رؤية استباقية لما ستواجهه الخليقة عما قريب من جراء الشيوعية.
في الأيام الأولى من حبريته، قال البابا الحالي إن اسمه مستوحى من البابا ليو الـ13، الذي تحلى بالشجاعة في مواجهة القضايا الكبرى التي طرحتها الثورة الصناعية في أوروبا، واليوم تواجه الكنيسة تحدياً جديداً وعاجلاً بالقدر نفسه يتمثل في ثورة الذكاء الاصطناعي، والنوازل التي ستقابلها الإنسانية في مسيرتها اليومية، مما يعني أن الأمر أكثر ثقلاً ومسؤولية من مجرد ملاقاة القضايا الروحية.
عطفاً على ذلك، فإن كونه بابا من أصول أميركية، وضع عليه لا إرادياً عبئاً كبيراً، إذ يخشى العالم من قبل أن يكون أداة روحية، ضمن القوة الأميركية القطبية الضاربة، بهدف تأكيد الهيمنة على العالم.
ماذا عن تلك الـ100 يوم؟
ليو - فرنسيس... مسيرة وصل بابوية
حين اختير الكاردينال بريفوست الأميركي لمنصب البابوية، كان التساؤل المثير والكبير المطروح على موائد النقاش الفكرية الموصولة بالكنيسة الرومانية الكاثوليكية، "هل ستكون هذه البابوية بمثابة انقلاب، ولو ناعم، على توجهات فرنسيس، تلك التي اتسمت بالبساطة والعفوية، والابتعاد من مظاهر العظمة الدنيوية"؟
في تقرير لوكالة الصحافة الفرنسية، منشور أخيراً، نجد أن البابا المنتخب أظهر بالفعل استمرارية مع سلفه فرنسيس، ولكن مع بعض التحفظ، إذ أعاد التركيز من البابوية للكنيسة ورسالتها.
عندما فاجأ البابا لاوون الـ14 عشرات الآلاف من الشباب في احتفالات السنة المقدسة في أغسطس الجاري، عبر جولة مرتجلة بسيارته البابوية حول ساحة القديس بطرس، بدا الأمر وكأن بعض العفوية غير الرسمية التي ميزت بابوية البابا فرنسيس، التي استمرت 12 عاماً، قد عادت لحاضرة الفاتيكان.
اليوم تبدو هناك رؤية مؤكدة، وهي أن الفاتيكان عاد من جديد لحال من الهدوء والتحفظ ويبدو أن لاوون الـ14، وقبل كل شيء، حريص على تجنب الجدل أو جعل البابوية تدور من حوله، ويريد بدلاً من ذلك التركيز على إيمان الكنيسة الجامعة المستمر والمستقر منذ ألفي عام، وغالب الظن أن هذا هو بالضبط ما يريده ملايين من المؤمنين الكاثوليك في قارات العالم.
يقول كيفن هيوز، رئيس قسم اللاهوت والدراسات الدينية في جامعة فيلانوفا بولاية بنسلفانيا الأميركية، وهي جامعة البابا لاوون، "لقد كان صريحاً ومباشراً للغاية، لكنه لم يثر ضجة إعلامية عفوية". ويضيف في مقابلة هاتفية مع وكالة الصحافة الفرنسية، "إن لاوون الـ14 يتميز بأسلوب مختلف عن فرنسيس، وهذا ما أراح كثيرين".
والثابت أنه حتى أولئك الذين أحبوا البابا فرنسيس حقاً، كانوا دائماً يحبسون أنفاسهم قليلاً، ذلك أنهم لم يكونوا يعرفون ما الذي سيخرج بعد ذلك أو ما الذي سيفعله خليفته .
ولعله من الجلي للعيان، أن لاوون قد بذل قصارى جهده خلال أول 100 يوم من ولايته، لمحاولة معالجة الانقسامات التي تعمقت خلال حبرية فرنسيس، إذ قدم رسائل الوحدة وتجنب الجدل في كل منعطف تقريباً .
ولعل قضيته الرئيسة، المتمثلة في مواجهة الوعد والخطر الذي يفرضه الذكاء الاصطناعي، هو أمر يتفق عليه المحافظون والتقدميون، على حد سواء على أهميته.
من هنا يمكننا القطع بأنه فيما كان تركيز فرنسيس على الاهتمام بالبيئة والمهاجرين في كثير من الأحيان سبباً في تنفير المحافظين، فإن لاوون قدم إلى بيروقراطية الكرسي الرسولي رسالة مطمئنة ومصالحة، بعد أن أثار أسلوب فرنسيس، ذي الطبيعة المنفردة كما رآها بعضهم، في بعض الأحيان حفيظة جانب من القائمين على شؤون الفاتيكان.
ولعله من أهم العبارات التي فاه بها البابا لاوون بعد وقت قصير من انتخابه في الثامن من مايو (أيار) الماضي، "الباباوات يأتون ويذهبون، لكن الكوريا باقية"، يذكر أن الجهاز الإداري المركزي للكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان يطلق عليه "الكوريا".
في 69 سنة، يبدو أن لاوون يدرك أن الوقت في صالحه، وأن الكنيسة ربما تحتاج إلى قسط من الراحة بعد البابوية الثورية لفرنسيس، وربما صدق أحد مسؤولي الفاتيكان، الذين يعرفون لاوون من قبله، حين وصف تأثير بابويته القادمة بأنها ستكون "كالمطر الهادئ" على الكنيسة .
لاوون المنفتح والمتفاعل مع العالم
بدا واضحاً منذ أيامه الأولى، أن البابا الـ69 بعد الـ200، منفتح على العالم الخارجي، ومتفاعل بصدق نية وحسن طوية، على جراحات البشرية المعاصرة كافة.
ففي أول لقاء عام له كبابا، ناشد لاوون إنهاء الأعمال العدائية في غزة وإدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع، وقال "أجدد ندائي الصادق للسماح بدخول المساعدات الإنسانية اللائقة، وإنهاء الأعمال العدائية التي يدفع ثمنها الأطفال وكبار السن والمرضى".
وخلال أول 100 يوم له، رحب البابا لاوون بعدد من الشخصيات البارزة في القصر الرسولي بالفاتيكان، بدءاً من الرياضيين المحترفين إلى الممثلين والسياسيين. ومن بين هؤلاء الأفراد نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس، ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، والرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي، ولاعب التنس المحترف يانيك سينر، والممثل جوناثان رومي، وفريق كرة القدم المحترف إس إس سي نابولي، والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، من بين آخرين.
وفي مقابلة مع مراسل الشبكة الكاثوليكية للإعلام EWTN كولم فيلن، وصف الممثل جوناثان رومي المعروف بدوره في تجسيد شخصية السيد المسيح في المسلسل الشهير "المختار" على شبكة "نتفليكس" لقاءه مع البابا بأنه "رائع". وأضاف "لقد كان لطيفاً للغاية ومحترماً وكريماً بوقته، كان هناك لطف على وجهه وصدقه أثر في".
بدا لاوون قريباً من الشعب، وليس بعيداً، ففي لحظة مؤثرة، قدم نصائح روحية لزوجين أميركيين حديثي الزواج، خلال إحدى أولى لقاءته العامة في الـ11 من يونيو (حزيران) الماضي. وتقول العروس آنا ستيفنز "لم يكن صوته متسرعاً، لم يكن ينظر حوله، كان يركز فقط على الاستماع لتساؤلاتنا وتقديم الجواب عليها".
ملامح الإنسان تبدو من جديد من فرنسيس إلى لاوون، ذلك أنه بعد أن كسر البابا فرنسيس عام 2013 العادة البابوية بالهرب من حر روما في كاستل غاندولفو، واصل البابا لاوون التقليد، إذ أمضى أسبوعين خلال يوليو الماضي في المقر البابوي الصيفي.
هناك رحب به المؤمنون، في البلدة الإيطالية الصغيرة بحفاوة، وخلال فترة وجوده هناك، زار البابا دار القديسة مارثا للمسنين. بعد قضاء بعض الوقت في الصلاة في الكنيسة، استقبل الأب الأقدس شخصياً ما يقرب من 20 شخصاً مسناً تتراوح أعمارهم جميعاً بين 80 و101 سنة.
بدا لاوون وكأنه يبلسم جراح المسنين، أولئك الذين لم يعد كثيرون يهتمون بهم، ولا يجدوا من يأنسون إليه، فجاء البابا بنفسه ليكون يداً حانية، وسميراً في أوقات الهجر والألم النفسي الناجم عن الشيخوخة .
ظهر لاوون في تلك الأمسية مع المسنين، سائراً على درب البابا فرنسيس الذي أشار مراراً وتكراراً إلى أن "الكنيسة مدعوة إلى الخروج من ذاتها والذهاب إلى الأطراف، ليس فقط الأطراف الجغرافية، ولكن أيضاً الأطراف الوجودية".
الدور الجديد لسيد مطلق الحرية
تشكل القصص حول الـ100 يوم الأولى، حدثاً قياسياً في بداية ولاية أي رئيس أميركي تستمر أربعة أعوام، وعادة ما تركز المقالات على مدى قدرة الرئيس الجديد على الإنجاز ومدى السرعة التي تمكن بها من ذلك، لكن البابا يكون منتخباً مدى الحياة من دون أن يكون قد وعد الناخبين بأي شيء أو قدم برنامجاً .
وفي حين أن الـ100 يوم الأولى من حبريته قد تشير إلى ما هو آت، فإن الفترة الأولى من خدمة البابا لاوون خليفة لبطرس وأسقف روما بدت في الغالب، وكأنها تتمحور حول اعتياده على الدور والحشود والبروتوكول.
وفقاً للقانون الكنسي، يتمتع البابا "بسلطة عليا وكاملة وفورية وعالمية في الكنيسة، وهو قادر على ممارستها بحرية دائماً".
بمعنى آخر، كان بإمكانه إصدار سلسلة من القرارات الكنسية التي تشبه الأوامر التنفيذية في أيامه الأولى، لكنه بدلاً من ذلك، حافظ على سمعته كشخص ينصت جيداً قبل اتخاذ القرارات، فعقد اجتماعاً مع مجمع الكرادلة واجتماعات فردية مع رؤساء مكاتب الفاتيكان.
هنا، فإن اختياراته لأعضاء فريقه، وما إذا كان يقرر تشكيل مجلس دولي للكرادلة لتقديم المشورة له، سيرسل إشارات ليس فقط حول ما يريد فعله، بل أيضاً حول كيفية القيام بذلك.
ومن المتوقع أيضاً أن يشهد سبتمبر (أيلول) المقبل إعلاناً عن مكان إقامة البابا لاوون، وصرح عدد من الكرادلة بأنهم شجعوا البابا المقبل - أياً كان - في الأيام التي سبقت المجمع على العودة للشقة البابوية في القصر الرسولي. ذلك أن هذه الخطوة ستسهل الإجراءات الأمنية وتوفر على الفاتيكان المال، وتتيح لبيت القديسة مارثا، حيث اختار البابا فرنسيس الإقامة، العودة للعمل بكامل طاقته كدار ضيافة .
هل من ملامح أو معالم للكنيسة التي في ذهن لاوون التي يسعى إلى قيادتها؟
في أول خطاب عام له، بعد لحظات من انتخابه، قال البابا الجديد "نريد أن نكون كنيسة مجمعية، كنيسة تتحرك إلى الأمام، كنيسة تسعى دائماً إلى السلام، وتسعى دائماً إلى المحبة، وتسعى دائماً إلى أن تكون قريبة قبل كل شيء من أولئك الذين يعانون".
بل إلى أبعد من ذلك ذهب لاوون عندما تحدث عن الأهداف الرئيسة لخدمته، فقد طلب من الكرادلة الانضمام إليه في تجديد "الالتزام الكامل بالمسار الذي اتبعته الكنيسة في العالم منذ عقود عقب المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني".
ولعله من العلامات الإيجابية في بدايات حبرية البابا لاوون، أن استطلاعاً للرأي أجرته مؤسسة "غالوب" في الولايات المتحدة في الفترة من السابع إلى الـ21 من يوليو (تموز) الماضي، ونشر في الخامس من أغسطس (آب) الماضي، كان البابا لاوون الأكثر شعبية بين 14 من زعماء العالم وصناع الأخبار الرئيسين، إذ قال 57 في المئة من الأميركيين إن لديهم "رأياً إيجابياً" عنه، بينما قال 11 في المئة إن لديهم رأياً غير إيجابي.
هل لاوون الـ14 بابا يفهم معطيات العصور وسياقات الأحداث المجتمعية، وحاجات البشر في أزمنة الضيق النفسي؟ مع مرور الأسابيع بعد انتخابه، بدا أن لاوون أصبح يشعر براحة أكبر مع الحشود، إذ كان يقضي مزيداً من الوقت في مباركة الأطفال، ويستمتع بتفاعلاته مع آلاف من الأشخاص الذين جاءوا إلى ساحة القديس بطرس لحضور مقابلاته العامة الأسبوعية .
ويبدو واضحاً أن مقدرته اللغوية في التحدث بطلاقة بالإنجليزية والإسبانية، فضلاً عن الإيطالية أمر بات يمكنه من الحضور وسط الجماهير والشباب بنوع خاص، وهو ما بدا واضحاً خلال احتفال يوبيل الشباب في الفترة من الـ28 من يوليو الماضي إلى الثالث من أغسطس الجاري، إذ هتف الشباب له استحساناً عندما تحدث إليهم باللغات التي يفهمها معظمهم .
قضايا المناخ والاقتصاد العالمي
منذ اللحظات الأولى لبابوية لاوون الـ14، بدا واضحاً أن هناك مقاربات عدة تنعقد في الأجواء الفاتيكانية، بل والأممية، بينه وبين فرنسيس.
لم يكن فرنسيس حبر روماني أعظم اعتيادي، في الأقل من جهة تلاحمه مع القضايا العالمية، فقد كانت أول رسالة عامة له، تلك التي عرفت بـ"كن مسبحاً"، تناقش أحوال الكوكب الأزرق الذي يكاد ينفجر بمن عليه من جراء التغيرات المناخية .
أما عن دعوات فرنسيس للسلام حول العالم فحدث عنها ولا حرج، ويكفي أن تتذكر الخليقة، أنه البابا الوحيد عبر ألفي عام، الذي أنحنى مقبلاً أقدام الزعماء السياسيين في جنوب السودان، للحفاظ على مكتسبات دولتهم من المودة والابتعاد من الحروب مرة جديدة.
عطفاً على ذلك، طفا على السطح خلال حبرية فرنسيس، مصطلحات مثيرة عن "اقتصاد فرنسيس"، ذلك الدرب الذي سعى إلى إيجاد بديل عن الرأسمالية المتوحشة، ذلك التعبير الذي يعود في أصوله لسعيد الذكر البابا يوحنا بولس الثاني .
"السلام عليكم"، بهذه الكلمات القوية، وجه البابا لاوون تحية للعالم بعد انتخابه حبراً أعظم. كان هذا السعي نحو السلام محوراً رئيساً في حبرية لاوون الـ14 المبكرة، فقد صلى مراراً وتكراراً من أجل المتضررين من العنف، ودعا إلى إنهاء النزاعات، لا سيما في أوكرانيا والسودان وميانمار والشرق الأوسط. كما التقى مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وتحدث إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حاثاً إياه على القيام "ببادرة من شأنها أن تعزز السلام".
وفي رسالته لليوم العالمي للصلاة من أجل رعاية الخليقة 2025، عد لاوون الـ14 أن الطبيعة نفسها في بعض الأحيان تتحول إلى مجرد ورقة مساومة أو سلعة يمكن مقايضتها لتحقيق مكاسب اقتصادية أو سياسية.
وخلال صدى المخاوف البيئية العميقة التي أعرب عنها البابا فرنسيس، أكد لاوون بصورة لا لبس فيها التزام الكنيسة برعاية الخليقة.
وفي حدائق القصر البابوي الصيفي في كاستل غاندولفو، احتفل لاوون بالقداس الأول لرعاية الخليقة، داعياً إلى الصلاة "من أجل ارتداد عدد من الناس، داخل الكنيسة وخارجها، الذين ما زالوا لا يدركون مدى إلحاح رعاية بيتنا المشترك".
وضمن رسالة اليوم العالمي للفقراء 2025، قال لاوون إن الفقراء ليسوا مصدر إلهاء للكنيسة، بل هم إخوتنا وإخواننا الأحباء، لأنهم من خلال حياتهم وكلماتهم وحكمتهم يضعوننا في اتصال بحقيقة الإنجيل.
ولعله بفضل سنواته التي عاشها بين المجتمعات التي تعاني الفقر في بيرو، أضحى لاوون واضحاً في الدعوة إلى كنيسة تعلن العدالة وتسير بجانب المهمشين والضعفاء. إضافة إلى ذلك، في قداسه الافتتاحي، دان لاوون "النموذج الاقتصادي الذي يستغل موارد الأرض ويهمش أفقر الناس".
كما تحدث عن أهمية التأمل في "إعفاء الدين العام والديون البيئية" في يونيو (حزيران) الماضي، ونشر "تقرير اليوبيل" بدعم من الفاتيكان، دعا فيه 30 خبيراً اقتصادياً رائداً عالمياً إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لمعالجة مشكلة الديون غير العادلة .
ولعله من نافلة القول الإشارة إلى أن لقب الحبر الأعظم، مشتق من اللغة اللاتينية pontifex، التي تعني "باني الجسور". وقد بان جلياً منذ خطابه الأول، أن لاوون الـ14 يؤكد ضرورة بناء الجسور من خلال الحوار واللقاء.
إن خلفية لاوون الـ16 باعتباره بابا من أصل أميركي يحمل الجنسية البيروفية، ومتعدد اللغات، وله تاريخ كنسي ورعوي متنوع، تجعله بمثابة جسر طبيعي بين الثقافات ووجهات النظر المختلفة .
ولعله أكد كذلك إرث البابا فرنسيس، فقد أكد بدوره "على روح الأخوة الإنسانية"، كأساس لطريق مشترك مع اتباع الديانات المختلفة، وإيجاد أرضية مشتركة من أجل خير العالم أجمع .
هل هو بابا أميركي حقاً أم لا؟
في الفترة ما بين وفاة البابا فرنسيس، وانعقاد الكونكلاف، لاختيار البابا الجديد، صدح الرئيس دونالد ترمب بتصريحات مختلفة، ألقت نوعاً من القلق وتسبب في درجة من الأرق حول العالم. وبات السؤال "ماذا لم يجر اختيار بابا أميركي؟ وهل سيكون بدوره ضمن أدوات القوة الإمبراطورية الأميركية؟".
لا شك في أن هوية لاوون الأميركية هي التي أثارت الفضول الأكبر حول المكان الذي قد يقود فيه هذا البابا الكنيسة العالمية التي يبلغ عدد أعضائها 1.4 مليار عضو، بخاصة عندما يتعلق الأمر بالتأثير في السياسة والثقافة الأميركية.
اكتسبت بابويته في بعض الأحيان طابعاً أميركياً فهو يتحدث بالإنجليزية أحياناً، وألقى رسالة خلال مباراة لفريق وايت سوكس في شيكاغو في يونيو الماضي، وتقبل بيتزا دسمة خلال لقاء عام .
تقول كاتي بريجين ماكجريدي، مقدمة البرامج الإذاعية والمعلقة الكاثوليكية، لوكالة أنباء "أسوشيتدبرس" الأميركية، "بالنسبة إلى الأميركيين، هناك صلة فورية، فهو يبهرنا في الصوت، ويفهم مراجعنا. الأمر أشبه برؤية أحد أبنائنا هناك، ولكنه يحمل العالم له على كتفيه".
أما كريستوفر وايت، الزميل البارز في مبادرة الفكر الاجتماعي الكاثوليكي والحياة العامة في جامعة جورج تاون كانت المقاومة للبابا فرنسيس الأقوى في الولايات المتحدة، لذا ربما تكون الرغبة في التجمع حول أول بابا أميركي في التاريخ بمثابة لحظة لبناء الجسور.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن لا يزال يتعين علينا أن نرى كيف سيتعامل لاوون مع إدارة ترمب، بخاصة وأن صور شقيقه المؤيد لـ"جعل أميركا عظيمة مجدداً"، في البيت الأبيض كشفت عن أنه لديه مصلحة في اللعبة السياسية الدائرة في البلاد .
وعلى رغم جنسيته الأميركية، يبدو مخلصاً لتوجه رهبانيته الأغسطينية، التابعة لسانت أوغسطين، الأفريقي الأصل، المولود في مدينة تاغاست، حيث الجزائر اليوم .
هنا يقول مارسيلينو دامير وسية، وهو متحدث كاثوليكي ومؤلف كتب الأكثر مبيعاً عن الإيمان، "يمكنك أن ترى الأوغسطيني في الطريقة التي يتحدث بها لاوون عن السلام باعتباره هدوء النظام"، موضحاً أن خلفية البابا كأوغسطيني واضحة في جهوده لإحلال النظام في منزله في الفاتيكان وبين الدول.
وشارك داميرو سيو وسري وكافينز وبريجين ماكجريد بتأملاتهم حول البابا، في كتاب عنوانه "عندما ينقشع الدخان الأبيض: دليل إلى الأيام الأولى للبابا لاوون الـ14".
وعلى غرار البابا الراحل فرنسيس، دافع لاوون عن المهاجرين، واصفاً إياهم بـ"رسل الأمل"، كما دافع عن البيئة. واحتفل بأول قداس من أجل رعاية الخليقة في حدائق يورجو لوداتو سي، وهي جنة خضراء أنشأها البابا فرنسيس لتطبيق مبادئ رسالته العامة حول البيئة .
أمر آخر، أنه وفي الذكرى الـ80 للقنبلة النووية على هيروشيما في السادس من أغسطس (آب) كرر لاوون نداءات فرنسيس لمنع السلاح النووي، واصفاً الأسلحة النووية بأنها "إهانة للكرامة الإنسانية وللخلق".
وتناول البابا لاوون الـ14 أيضاً مسألة صعود الذكاء الاصطناعي، مقدماً تعاليم الكنيسة حول الكرامة الإنسانية كترياق لمجتمع اليوم الرقمي المتزايد، وفي يونيو الماضي قال لمسؤولين حكوميين "يجب ألا ننسى أن الذكاء الاصطناعي أداة لخير البشر لا لإضعافهم، ولا ليحل محلهم".
وقد دفع تركيزه المستمر على هذه القضية عدداً من مراقبي الفاتيكان إلى الاعتقاد بأن ليو قد يصدر وثيقة بابوية حول الذكاء الاصطناعي، والثورة التكنولوجية الجارية حالياً.
ومع نهاية الصيف، يتوقع مراقبو الفاتيكان أول تعيينات للبابا ليو في "الكوريا الرومانية" (حكومة البابا)، التي ستكشف عن أولوياته، ونهجه في العقيدة والدبلوماسية والحوكمة. كما ستحدد طريقة تعامله مع نقاشات الليتورجيا، وآفاق الفاتيكان والصين، ودور المرأة، معالم باباويته بصورة أكبر .
لاوون.. ماذا بعد؟
لعله بات في حكم المؤكد القول إنه بدلاً من التسرع في اتخاذ القرارات، فضل البابا لاوون تخصيص أشهره الثلاثة الأولى للاستماع عوضاً عن إصدار القرارات.
كان من الواضح منذ طلته الأولى على الجماهير، أنه يميل إلى النسق الروماني الكاثوليكي التقليدي، من حيث الملابس والمظهر، حتى لو لم يؤكد بعد عودته لشقته في القصر الرسولي .
لكن كان من الملاحظ أنه قام بتعزيز إرث فرنسيس عن الشفافية المالية، وعدل بعض المراسيم الأخرى لإضفاء الاتساق والمنطق عليها، لكنه على رغم ذلك لم يجر أية مقابلات شخصية تفصح عن كل شيء، ولم يدل بتعليقات ارتجاليه لافتة للنظر كما فعل سلفه.
يبدو اليوم التساؤل المطروح، "هل الـ100 يوم المقبلة بالنسبة إلى البابا لاوون الـ14 أهم من الـ100 يوم الأولى"؟ الشاهد أنه حين رحل البابا فرنسيس، ترك الكنيسة وسط عام يوبيل، وهو أمر لا يتكرر إلا مرة كل 25 عاماً، وهو ما يرافقه حج مقدس من جميع المؤمنين حول العالم، وأنشطة شبابية مليونية جاءت من كل صوب وحدب.
في هذا الإطار كانت تفضيلات ليو أن تمضي الأمور بهدوء، وكما كان معداً لها في حبرية البابا فرنسيس، غير أنه بات مؤكداً أنه من الوقت الراهن وحتى زمن الكريسماس، أي بعد نحو 100 عام أخرى، فإن العيون تتطلع إلى توجهات البابا الجديد ورؤاه، وطريقة قيادته المعمقة لتلك المؤسسة العريقة .
هل كان بريفوست (لاوون لاحقاً) هو خيار فرنسيس المعد سلفاً؟
يمكن القطع بأن لان ليو نتاج بابوية فرنسيس، فهو من عينه أسقفاً على تشيكلايو في بيرو عام 2014، ثم عينه رئيساً لأحد أهم المناصب في الفاتيكان عام 2023، ألا وهو التدقيق في ترشيحات الأساقفة، وبالنظر إلى الماضي، يبدو أن فرنسيس كان يتطلع إلى بريفوست كخليفة محتمل .
كان أسلوب فرنسيس شخصياً للغاية وأطلق طاقة هائلة، ولكن بينما كان فرنسيس متفجراً، كان ليو ميالاً إلى التركيز على العمق الإيماني .
سيتعين على ليو أن يحكم ويبسط سلطته، عاجلاً أو آجلاً، وعليه فإنه مؤكد جداً أن الـ100 يوم المقبلة، والـ100 التي تليها، هي التي ينبغي على العالم أن يراقبها بدقة شديدة.