ملخص
بدأ الشقاق يتسلل إلى قلب الأنظمة الديمقراطية ويهدد الانقسام بتقويض ديمومة النموذج الديمقراطي
كتبت بلانش لوريدون، الباحثة الفرنسية ومديرة تحرير معهد مونتاني، مقالة رأي، في صحيفة لوموند، اليومية الفرنسية، في 22 أغسطس (آب) 2025، تنبه فيه إلى بروز رأيين مختلفين ومتناقضين في دولة الحق والقانون. يرى الأول في هذه الدولة حائلاً دون بلوغ الإرادة الشعبية غايتها ومداها، بينما يدافع الرأي الآخر عنها ويتمسك بها. وتتيح العطل والهدن الصيفية، وصبغتها هذه السنة إجراءات دونالد ترمب بصبغته المحمومة، التأمل وإمعان النظر اللذين يحتاج إليهما المعلق السياسي، على قول مديرة التحرير.
دينامية انقسام الديمقراطيات على نفسها
والخلاصة الأولى التي تخلص إليها الكاتبة من تناولها البانورامي، أو العريض، لحوادث الأشهر الستة المنصرمة من العام الجاري، هي أن المواجهة بين الديمقراطيات والأنظمة المتسلطة ليست السمة البارزة للعلاقات السياسية الدولية، على خلاف الحال في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، وربما في السنوات القادمة، على ما ترجح الكاتبة، وتتوقع. وتحصي بلانش لوريدون سلسلة حوادث تدل على اشتراك في دينامية سياسية واحدة من الأصداء التي أعقبت إدانة اليمينية الفرنسية المتطرفة مارين لوبن بالاستيلاء احتيالاً على مال عام، وسياسات ترمب ومن يميلون ميله، ووصولاً إلى تنصيب الرئيس البولندي كارول نافروكي، وبينهما حوادث إيطاليا في عهد جورجيا ميلوني. وهذه تنحو نحو انقسام الديمقراطيات على نفسها، والواحدة منها على الأخرى. وخلف [الانقسام هذا] الإجماع على خريطة علاقات دولية تميز كتلة أنظمة ديمقراطية من كتلة أنظمة متسلطة أو ديكتاتورية أو لا ليبرالية على شاكلة النظام الصيني، والنظام الروسي، أو النظام الإيراني، أو النظام الهندي... وتكرر الكاتبة أن التمييز هذا كان ظاهراً ولا لبس فيه، على رغم إصابة بعض الأنظمة الديمقراطية بالوهن والتصدع.
الإرادة الشعبية المطلقة
أما في المرحلة الجديدة، فلم يعد التمييز على ظهوره وجلائه السابقين. وتسلل التمييز، أو الانقسام، إلى قلب كتلة الديمقراطيات نفسها. وتعريف هذه لم يعد ليحظى بالإجماع. وأميركا دونالد ترمب خير مثال وأبلغه على الانقسام الديمقراطي أو ظهور "ديمقراطيات موازية". وهذه تنتسب إلى "معسكر ماغا" ("مايك أميركا غرايت أغاين)، وتنحاز إلى عقيدة حرفية تدعو إلى إطلاق السلطة التي ينيطها الشعب بنوابه من كل قيد أو رقابة. وهذه العقيدة يترتب عليها، تنبه لوريدون، حمل دولة الحق والقانون، أو سلطات الرقابة والمحاسبة، على قيود تحول دون إنفاذ الإرادة الشعبية، وهي القيود، على شاكلة الرقابة على منشورات وسائط التواصل الاجتماعية، واستقلال القضاء عن السلطة السياسية، وحصانة حقوق الأفراد، واحترام حقوق الأقليات. وتجمع هذه في باب واحد هو باب "الدولة العميقة" ويصليه "معسكر ماغا" التنديد الشديد والعنيف. وهذا التنديد لا يقتصر على الولايات المتحدة.
المساكنة والفصام
وتروي الكاتبة، في معرض البرهان على اتساع الظاهرة، أنها أقامت بعض الوقت في العاصمة البولندية، فرصوفيا، حيث وثقت بحثاً في الأعوام 2015- 2023 التي تولى فيه الحكم الحزب القومي المحافظ، الحق والعدالة (PIS)، واستوقفها تردد محاوريها المحليين في وصف النظام الذي حكم بولندا طوال ثمانية أعوام بـ"الديمقراطي". بعض هؤلاء المحاورين قالوا إن الديمقراطية صمدت، وحجتهم أن تداول السلطة في 2023 هو برهان قاطع. وبعض آخر كانوا على يقين بأن الديمقراطية أُفرغت من مضمونها، وأن الهجمات الممنهجة على القضاء، وعلى المحكمة الدستورية، تولت هذا الإفراغ في بلد أجمع مراقبون كثر على حمله على مثال إنجاز مرحلة انتقالية ناجح إلى الديمقراطية، غداة خروجه من المرحلة السوفياتية. وجدد تنصيب الرئيس نافروكي، من حزب الحق والعدالة، المناقشة. فرئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، لا يتشاركان نظرة واحدة إلى الديمقراطية، على ما تلاحظ بلانش لوريدون. ولا يقود هذا الازدواج إلى مساكنة في إطار نظام واحد، بل إلى فصام في صلب النظام المزدوج.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد يلاحظ كثر، على ما تذكر الكاتبة، أن الديمقراطية لا تخلو، ولم تخلُ يوماً، من خلافات ومناقشات عضوية. وهي لم تنفك تتساءل عن عللها وأسسها. ولكنها قلما شهدت ما تشهده في الأعوام القليلة الماضية من معارضة جادة تبلغ حد الانشقاق. فكلا الطرفين المتنازعين على يقين من أنه مع الحق، وأن حقه يخالف حق خصمه مخالفة وجودية. فالاستقطاب السياسي تفاقمت حدته، ولم يبق معارضة فكرية وشخصية، وهو يطاول، بحسب تشخيص الكاتبة، إطار المناقشة السياسية نفسه، وليس مواد المناقشة وموضوعاتها.
ومنذ اليوم، في الولايات المتحدة، لا يحجم الناخبون عن الانتقال إلى حيث يغلب هواهم السياسي. وتسهم وسائط التواصل الاجتماعي في بلورة الميول وتكتيلها، وفي تسريع فرز الجماعات، الواحدة على حدة من الأخرى، بحسب ميول أفرادها. وتجهر الكاتبة خشيتها، في ضوء هذه الظاهرة، من أن يرحل المواطنون، كل إلى "فقاعته الديمقراطية المستقلة"، ويعتزل الواحد منهم قسماً من مواطنيه الذين يتصلون بالخارج من طريق قنوات الميول المتفقة والمتعالية على الحدود. فلا يقتصر تداول السلطة، والحال هذه، على حلول طاقم حكم محل طاقم حكم من الحزب الخصم، بل يتعدى الأمر، إذا لم يلغَ التداول من النظام السياسي، إلى تغيير نظام الحكم نفسه.
ولا سبيل إلى تفادي التصدع الديمقراطي الكبير هذا، تقول بلانش لوريدون، إلا من طريق محاولة فهم عالم الآخر من داخل، وتجديد معاني الكلمات التي أُفرغت من مضمونها مثل "الديمقراطية" و"الحرية"، أو "التسلط" و"الفاشية" ويلوِّح بها المتخاصمون والمساجلون من غير تمييز. فمحال ألا يقع أنصار الديمقراطية الكثر على ما يتشاركونه، ويعينهم على التفاهم في ما بينهم ومع غيرهم، تأمل الكاتبة في ختام مقالها.