Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الروحانية الحديثة في زمن "السوشيال ميديا"

لم تعد الطبيعة رسائل من الآلهة بل مخزن لموارد يمكن استخراجها وتحويلها إلى طاقة وسلع

انتقلت الطقوس البوذية والهندوسية إلى أوروبا وانتشرت طقوس التأمل والتصوف والرياضة الروحية في كل مكان (رويترز).

ملخص

في بدايات القرن الـ20، بدأت الروحانية تتحول من منظومة عامة ومؤسسية إلى شأن شخصي، وفقدت المؤسسات الدينية التقليدية قبضتها التدريجية على المجال العام.

في الزمن المعاصر يمكن للهاتف أن يخبرك بموقع نجم يبعد مئات السنين الضوئية، ولكنك لن تعرف كثيراً عما يدور في نفسك من تساؤلات أو أن تعرف ما يمر به جارك القريب. هذه المفارقات تختصر رحلة البشرية من عالم مليء بالطقوس والأساطير إلى واقع يزداد تقديساً للعلم والمعادلات الرياضية والفيزيائية وللمنتجات الجاهزة والأحاسيس المقاسة وفقاً للميزان الاجتماعي الحديث والمتطلب.

الثورة الصناعية وهيمنة العقل

منذ الثورة الصناعية انسحبت المعتقدات الروحانية والسحر والإيمان بالغيبيات من مسرح الحياة العامة، كما لو أنها عيوب تزعج سيطرة منطق العلوم الجديدة التي برزت آنذاك، والقائمة على إثبات كل موجود بالمعادلة العلمية المجردة، وبالنظر واللمس، وعلى تكرار النتائج كإثبات لأي نظرية، ولو كانت تتناول موضوعاً غير ملموس كسرعة الضوء أو قياس الجاذبية.

بدا وكأن مبتغى العلوم الحديثة هو حصر الحقيقة والمعرفة بما هو مرئي وملموس أو قابل للبرهنة بالتجربة والمعادلة، واعتبار ما عدا ذلك ضرباً من الخرافة أو هواية شخصية لا نصيب لها في الشأن العام. ومع هذا التحول تسارعت وتيرة التقدم البشري، وعم التعليم والمعرفة أرجاء العالم، لكن ذلك جرى وفق منهج واحد صارم: الإثبات عبر التكرار والقياس وتأكيد المعادلات الرياضية والفيزيائية.

غير أن هذا المنهج، على رغم إنجازاته، أزاح من يومياتنا اللغة الرمزية والدهشة القديمة، وأقصى الموروثات المبنية على الإيمان باللامرئيات والطقوس الدينية التي نظمت العلاقات الاجتماعية، والاعتقاد بقدرات الطبيعة وطاقاتها الخفية، وتأثير النجوم والكواكب في مسارات حياتنا وأقدارنا، بل وأبعد حتى الحكايات من الكائنات السحرية والقصص الغامضة التي شكلت لقرون جزءاً من وجدان المجتمعات، واضعاً إياها في خانة الخرافات. ومع مرور الزمن، صار كل ذلك في نظر الثقافة السائدة مجرد أساطير لا تستحق النظر أو الدراسة.

اليوم، وبعد قرون من سيادة العقل العلمي والاعتماد المطلق على نتائج المختبرات والمعادلات الرياضية والفيزيائية، للتفريق بين ما هو واقعي وما هو مجرد تهويمات، بدأت آثار هذا الإقصاء تظهر جلية: فراغ روحاني يطاول الدول الغنية والفقيرة على السواء، والمجتمعات المتعلمة والأمية معاً. في صور وأساليب شتى، نشهد عودة مترددة ولكن ملحوظة إلى البحث عن المعنى، كنوع من التوازن في مواجهة صرامة العلم وجفافه، واستعادة لما فقدناه من خيال وارتباط حي بالعالم من حولنا. الأمر أشبه بترك التلسكوب على الشرفة من دون أن نستغني عن العدسة المكبرة، أو بمزج ضوء البروجكتور الكاشف مع دفء الشمعة على الطاولة.

البحث عن الروح في زمن العلم

كلما تقدم القياس والبرهان ازداد احتياج الإنسان إلى معنى يتجاوز البرهنة نحو إجابات على أسئلة تبدأ بـ"لماذا". ولهذا يحاول كثر اليوم إثبات أن الروحانية الرصينة والعلم الجاد يمكن أن يتعايشا تحت سقف واحد، إذا رسمنا بوضوح وظيفة كل منهما ومناط تشابكهما. فنحن نبدو أكثر علماً، وفي الوقت نفسه أكثر عطشاً إلى المعنى الذي لا يقدمه العلم: معنى وجودنا وجدواه، وكيفية التغلب على مصاعب الحياة والتفكير في الموت، وهي أسئلة لا يملك العلم جواباً عنها.

لم يجب العلم حتى الآن عن أسباب تصاعد أزمة الشعور العام بالوحدة وانتشار ما نسميه "مرض القلق" في أنحاء العالم، على رغم تطور وسائل الاتصال والتواصل في فضاء رقمي واسع. في عالم اليوم يمكن لأي إنسان أن يعرف بوجود نجم على بعد مئات السنين الضوئية، لكنه قد يجهل ما أصاب جاره على بعد أمتار. تقرير منظمة الصحة العالمية عن الترابط الاجتماعي أشار إلى أن واحداً من كل ستة أشخاص في العالم يعاني الوحدة، وأن العزلة لم تعد حالاً نفسية عابرة، بل أزمة صحة عامة ترتبط بارتفاع معدلات الاكتئاب والقلق والوفيات المبكرة، والأمر لا يقتصر على كبار السن، بل يطاول الشباب في المدن المكتظة.

وفي مواجهة هذا الفراغ، تشير مؤشرات عالمية إلى بحث متزايد عن المعنى الشخصي، حتى في قلب العصر الرقمي. وأظهرت بيانات مركز "بي إي دبليو" أن نصف البالغين يصفون أنفسهم بأنهم "روحانيون" بدرجات متفاوتة، و20 في المئة منهم يعلنون أن روحانيتهم بلا انتماء ديني مؤسساتي. هذا التحول يعكس مزاجاً ثقافياً جديداً يميل إلى إعادة اكتشاف الارتباط باللامرئي، سواء عبر التأمل واليوغا، أو العودة للفلسفات القديمة، أو ابتكار طقوس شخصية لمواجهة القلق والأسئلة حول الوجود والموت، وكيف نملأ ما نسميه حياتنا. ووفق هذه المعطيات يظهر التناقض العميق لعصرنا، تصنيف المعلومة على أنها موثوقة إذا كانت قابلة للقياس والتكرار فحسب، وفي الوقت نفسه بحث ملايين البشر عن تجارب لا يمكن تأكيدها في المختبر أو ترجمتها إلى أرقام.

الفردانية والحنين إلى الطقوس

لقد أوضحت السياسات الصحية الحديثة في الدول المتقدمة، التي تشهد تغييرات اجتماعية هائلة نحو الفردانية السلبية، أنه يجب أن يشمل العلاج البعد العاطفي والاجتماعي في حياة الإنسان كما يشمل التطعيم أو مكافحة الأمراض المعدية. وكشفت أيضاً عن الحاجة المتزايدة إلى فضاءات رمزية وروحية، حتى في أكثر المجتمعات حداثة وعقلانية، منعاً لاختزال الحياة في معادلات مادية صرفة. فبعد التجربة خلال القرون الثلاثة الماضية، تبين أن العلم يمنحنا القدرة على فهم "كيف" تعمل الأشياء، لكن البشر يريدون معرفة "لماذا" أيضاً. وهذا ما يؤدي إلى ارتفاع نسبة العائدين إلى دفء الطقس الروحي، سواء في الأطر الجماعية من خلال الأديان والنظم المؤسسية التي تؤسس لمجتمعات متماسكة حول معنى مشترك، أو في الأطر الفردية عبر التجارب الروحانية الشخصية المنفصلة عن المؤسسات.

يقول عالم الاجتماع ماكس فيبر إن الحداثة العقلانية نزعت السحر من العالم وجعلته مادة قابلة للحساب فقط. فقد عملت الروحانيات في مجتمعات ما قبل الصناعية على تكريس التضامن والضبط الأخلاقي في عالم أبطأ إيقاعاً وأكثر تشابكاً على المستوى الرمزي والاجتماعي.

كانت الإيمانات الروحانية البنية التحتية غير المرئية التي تمسك بالمجتمع وتربط أفراده بخيوط المعنى والطقس والانتماء، وكانت الحياة اليومية ممتلئة بالطقوس والمعاني الموروثة، لدرجة أن الأفكار والمعتقدات الروحانية كانت أشبه بالهواء الذي يتنفسه الجميع. فالدورات الزراعية كانت مرتبطة بتقويم مقدس، وكذلك ولادة طفل أو زواج أو موت، وكل ذلك يمر عبر شعائر تجمع الناس وتربطهم بأعياد ومواسم دينية أو روحانية مشتركة مكرسة بحسب التغييرات الجارية في الطبيعة والبيئة، لا وفق قوانين مكتوبة ورجال شرطة.

على سبيل المثال، في المجتمعات الإسلامية كان الوقف الديني يوفر التعليم والرعاية الصحية والمأوى للفقراء، مازجاً بين العبادة والعمل العام. وفي أوروبا المسيحية قبل العصر الحديث، كانت الأديرة تقوم بوظائف اجتماعية واقتصادية وتعليمية إلى جانب أدوارها الروحية. وفي المجتمعات الوثنية ارتبطت الأساطير بطقوس الطبيعة، إذ يمارس الناس الزراعة والصيد والصناعة الصغيرة تحت عين إله المطر أو روح الجبل أو سيدة البحر، وحيث تقرأ كل ظاهرة طبيعية أو اجتماعية كرسالة من قوة أكبر، مما جعل ذلك العالم القديم مفهوماً ومتصلاً عاطفياً، حتى وإن لم يكن مستنداً إلى قواعد علمية.

الثورة الصناعية والعقلنة

مع مطلع القرن الـ19 انقلبت الإيقاعات التي حكمت الحياة البشرية لقرون. صارت دقات ساعة المصنع هي التي تحدد متى يبدأ الناس يومهم وينتهي، لا أذان الفجر ولا جرس الكنيسة ولا ظل الشمس على الحائط. وبدخول الآلة، وصف ماكس فيبر ما يحدث بأنه نزع السحر من الفضاء الإنساني، أي فصل العالم عن شبكته الرمزية القديمة واستبدال نظام عقلاني وبيروقراطي وقابل للقياس بها.

لم تعد الطبيعة رسائل من الآلهة، بل مخزن لموارد يمكن استخراجها وتحويلها إلى طاقة وسلع. صار المطر معطى مناخياً بعدما كان علامة رضا، والبرق ظاهرة كهربائية بعدما كان إشارة غضب أو إيذاناً بخير، والمرض خللاً بيولوجياً بحتاً بعدما كان سبباً لمراجعة الذات وطلب المغفرة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لا يمكن إنكار أن الثورة العلمية كانت تحولاً وإنجازاً هائلاً من جهة السيطرة على البيئة وإطالة العمر وتحسين الإنتاج، لكنها في الوقت نفسه قلصت المساحات التي منحت الإنسان إحساساً بالمعنى والدهشة، والانتماء إلى نظام أكبر من ذاته.

وهكذا، بحسب إريك فروم، تحولت البيروقراطيات الحكومية والشركات الكبرى إلى "المؤسسات الكنسية" الجديدة التي تتحكم بحياة الناس عبر اللوائح والإحصاءات، وصنع الإعلام عبر الراديو ثم التلفزيون "الإنسان ذو البعد الواحد" الذي تجري قولبته ليصبح نسخة مكررة. وقد عبر فلاسفة مدرسة فرانكفورت عن هذه المخاوف قبل أن يظهر الإنترنت والعولمة ووسائل التواصل الاجتماعي التي تمنح شعوراً زائفاً بالانتماء، بينما يبقى المستخدم فرداً وحيداً وسط الحشد.

الروحانية المعاصرة والتجربة الشخصية

في بدايات القرن الـ20، بدأت الروحانية تتحول من منظومة عامة ومؤسسية إلى شأن شخصي، وفقدت المؤسسات الدينية التقليدية قبضتها التدريجية على المجال العام. وأسهمت الثورة العلمية، ثم الحربان العالميتان، في نسف كثير من اليقينيات، ودفع الناس إلى البحث عن معان شخصية، يختارون من الموروث الديني ما يناسبهم أو يستعيرون من تقاليد أخرى.

وانتقلت الطقوس البوذية والهندوسية إلى أوروبا، وانتشرت طقوس التأمل والتصوف والرياضة الروحية في كل مكان. وكأن الغرب الذي نقل علومه إلى الشرق استعار من الشرق تأملاته في مبادلة تاريخية ما زالت ظاهرة حتى اليوم. وفي كثير من الأحيان تحولت الروحانية إلى صناعة، وظهرت كتب "التطوير الذاتي" ودورات الوعي ورحلات التجارب الروحية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة