ملخص
روسيا تستغل ذوبان جليد القطب الشمالي لتعزيز نفوذها عبر أسطول كاسحات جليد نووية وممرات بحرية تختصر المسافة بين آسيا وأوروبا بنسبة 40 في المئة، مما يمنحها مكاسب اقتصادية وعسكرية استراتيجية. في المقابل، يواجه "الناتو" وبريطانيا تحديات في ردع التمدد الروسي، وسط سباق على السيطرة على موارد وثروات المنطقة.
لا يفصل بين ولاية ألاسكا وروسيا في أقرب نقطة، سوى نحو ميلين و400 يارد (ثلاثة كيلومترات و862 متراً)، في بحر بيرينغ النائي، حيث تقع جزيرة ديوميد الصغرى (التابعة للولايات المتحدة) إلى جوار جزيرة ديوميد الكبرى (التابعة لروسيا).
ويمر بين الجزيرتين "خط التاريخ الدولي" International Date Line، مما يجعل الجزيرة الأميركية التي لقبت بـ"الأمس" Yesterday، متأخرة في التوقيت 21 ساعة عن جارتها الروسية، المعروفة بـ"الغد" Tomorrow.
هذه المفارقة الجغرافية والتاريخية تخدم فلاديمير بوتين، إذ تمنحه تقدماً ليس زمنياً وحسب (بالمعنى الحرفي)، بل سياسياً أيضاً، إذ يتقدم في سباق السيطرة على منطقة شاسعة أخذت تنفتح بفعل تغيّر المناخ. ومع استمرار ذوبان جليد القطب الشمالي، تبدو روسيا الطرف الأكثر براعة في استغلال هذا التحول.
وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي كان حذر خلال زيارة قام بها أخيراً للشمال الأقصى قائلاً: "تشكل هذه المنطقة جوهر أمن ’حلف شمال الأطلسي‘ (ناتو)، فهي الجناح الشمالي للحلف". ولفت إلى أن "الوجود العسكري الروسي فيها على وجه الخصوص، يشهد نمواً مطّرداً منذ أعوام".
وأضاف لامي: "تتمتع هذه المنطقة بأهمية استراتيجية بالغة، خصوصاً مع ذوبان القمم الجليدية، إذ تفتح آفاقاً جديدة للملاحة، وتتيح شحن البضائع في مناطق لم يكُن الوصول إليها ممكناً في السابق".
وأوضح وزير الخارجية البريطاني أن زيارته للمنطقة، "تهدف إلى ردع التهديد الروسي، إضافة إلى مواجهة التحديات التي يفرضها تغير المناخ".
ويشار هنا إلى أن روسيا تبذل قصارى جهدها لفرض هيمنتها على منطقة القطب الشمالي، مدفوعة بالمكاسب الهائلة التي يمكن أن تجنيها من فتح ممرات بحرية جديدة في المنطقة. فذوبان الغطاء الجليدي في القطب يمثل فرصاً اقتصادية وعسكرية لم تغفل موسكو عنها.
وعززت روسيا أخيراً أساطيلها مع تركيز واضح على بسط نفوذها في القطب الشمالي. وتعد كاسحات الجليد النووية من فئة "أركتيكا" Arktika التي بنيت حديثاً بما فيها "أركتيكا" و"سيبير" Sibir - من بين أقوى كاسحات الجليد في العالم، إذ يمكنها شق طريقها عبر جليد بسماكة تصل إلى 2.8 متر والعمل على مدى السنة.
وبحلول نهاية هذا العام، تهدف روسيا إلى تشغيل أسطول يضم أكثر من 20 كاسحة جليد تعمل بالطاقة النووية والديزل والكهرباء، مما يضعها في موقع الريادة عالمياً في مجال الملاحة عبر القطب الشمالي. وفي المقابل، لا يملك خفر السواحل الأميركي سوى ثلاث كاسحات جليد ورابعة قيد الإنشاء، بينما لا تملك المملكة المتحدة أياً منها.
ويمنح الأسطول الروسي لموسكو قدرة على قيادة عمليات البحث عن الثروات المعدنية الهائلة - بما فيها الوقود الأحفوري - الموجودة تحت الجليد الذائب. كما تتيح كاسحات الجليد لروسيا التحكم في طرق الشحن وفرض هيمنتها العسكرية على هذه المنطقة الناشئة.
واستناداً إلى "المركز الوطني لبيانات الثلوج والجليد" National Snow and Ice Data Center، انحسرت مساحة جليد بحر القطب الشمالي نحو 40 في المئة منذ بدء رصد الأقمار الاصصناعية للمنطقة عام 1979، لتصل إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق خلال الأعوام الأخيرة. وهذا يعني أن طرق شحن جديدة يمكن فتحها - وربما إبقاؤها مفتوحة - بيد روسيا.
في الواقع، يشكل "طريق البحر الشمالي" Northern Sea Route (NSR)، الممتد على طول ساحل سيبيريا الروسي من مورمانسك إلى مضيق بيرينغ، محور الاستراتيجية التي ينتهجها الكرملين في القطب الشمالي.
وكان هذا الطريق غير صالح للملاحة معظم أشهر العام، لكن بيانات الأقمار الاصطناعية والمناخ تكشف اليوم عن أن موسم الإبحار عبره امتد من 60 يوماً فقط في السنة إلى ضعف هذه المدة، فيما يقترب الإبحار على مدى العام من أن يصبح واقعاً.
وبذلك تختصر المسافة بين مراكز التصنيع الآسيوية مثل الصين وأوروبا بنسبة تصل إلى 40 في المئة، مما يوفر ملايين الدولارات من كلف الوقود ووقت العبور. فمثلاً، تستغرق الرحلة من شنغهاي إلى هامبورغ عبر الممر الشمالي نحو 15 يوماً، مقارنة بنحو 30 يوماً عبر قناة السويس.
إنها مكاسب اقتصادية تسعى روسيا إلى الاستحواذ عليها، لكنها مرشحة لأن تدخل في صدام مع بقية العالم إذا أصرت موسكو على تحصيل رسوم من الدول الأخرى مقابل استخدام طريق شحن دولي، مما تأمل في تحقيقه.
وسبق لروسيا أن استخدمت موانئها في الشمال الأقصى لنقل النفط الخام الخاضع للعقوبات عبر ما يعرف بـ "أسطول الظل"، مما سمح لها بتمويل الحرب التي يشنها فلاديمير بوتين في أوكرانيا.
في الوقت نفسه، تشغّل النرويج أكبر شبكة رصد عبر الأقمار الاصطناعية في العالم، انطلاقاً من أرخبيل سفالبارد، مما يمكنها من تتبع صادرات النفط الروسية غير المشروعة أثناء مغادرتها موانئها الشمالية.
وبالعودة لوزير الخارجية البريطاني فقد قال: "إن هذه المحطة الأرضية للأقمار الاصطناعية تتيح لنا رصد تحركات أسطول الظل الروسي، كما تمكننا في نهاية المطاف من تقويض قدرة بوتين على تمويل حربه".
وأضاف: "كثيراً ما كان الشمال الأقصى عنصراً حيوياً في أمن التحالف الغربي بأسره. فهو إحدى المناطق التي يمكن لروسيا أن تتحرك عبرها في اتجاه الغرب".
ويذكر أن "قوات مشاة البحرية الملكية البريطانية" Royal Marines تضطلع بدور أساس في عمليات "حلف شمال الأطلسي" في البيئات الباردة. وشدد الوزير لامي على أهمية دور المملكة المتحدة في حماية الجناح الشمالي للحلف، عبر ما يعرف بـ"مجموعة الاستجابة الساحلية" Littoral Response Group (وهي قوة بريطانية متخصصة في الانتشار السريع وعمليات الإنزال البحري في المناطق الساحلية لدعم المهمات العسكرية والإنسانية).
إلا أن "البحرية الملكية البريطانية" لا تمتلك سفناً برمائية مخصصة لنقل وحدات "الكوماندوس"، مما يجعل إسهامها الفعلي متواضعاً للغاية مقارنة بدول الشمال الأوروبي والولايات المتحدة.
وهذا النقص يفاقم الضغوط على الجاهزية العملياتية لـ"الناتو"، في وقت يجري توجيه معظم الجهود نحو دعم أوكرانيا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المقابل، نشر "الأسطول الشمالي" الروسي غواصات نووية متطورة، بعضها من فئة "بوراي" Borei وأخرى من فئة "ياسِن" Yassen القادرة على تنفيذ ضربات صاروخية استراتيجية من تحت الجليد. وتمنح هذه الإمكانات موسكو قوة ردع نووي ثانية، مما يرسخ مكانتها بين القوى العظمى.
ولتعزيز هذا النفوذ، أقامت روسيا قواعد عسكرية جديدة لها، وطورت قواعدها الموجودة في أرخبيلي فرانز جوزيف لاند ونوفايا زيمليا في بحر القطب الشمالي.
من هنا يمكن القول إن هذه هي المكاسب الحقيقية التي تحققها موسكو في منطقة القطب الشمالي، مستفيدة من الوتيرة المتسارعة لتغيّر المناخ، وهي مؤشرات تستدعي من بقية دول العالم اليقظة والانتباه.
يبقى أن دونالد ترمب - من خلال عقد أول لقاء مباشر بينه والزعيم الروسي منذ توليه مهمات الرئاسة الأميركية للمرة الثانية، في هذه المنطقة النائية - ربما قد كشف للعالم من دون قصد، عن أذى آخر واضح وملموس، تسبب به فلاديمير بوتين.
© The Independent