ملخص
عاد التنافس بين القوى العظمى ليقود السياسة الأميركية منذ 2017، لكنه في ولاية ترمب الثانية انقلب إلى سعي للتواطؤ مع الخصوم عبر تسويات تعيد توزيع النفوذ العالمي، مستنداً إلى نموذج شبيه بوفاق القرن التاسع عشر.
بعدما كان ينظر إليها على أنها ظاهرة من قرون مضت عاد التنافس بين القوى العظمى إلى الواجهة. هذا ما أعلنته استراتيجية الأمن القومي التي أصدرها الرئيس دونالد ترمب عام 2017، ملخصة في جملة واحدة السردية التي ظل صناع السياسة الخارجية الأميركية يرددونها لأنفسهم وللعالم خلال العقد الماضي. ففي حقبة ما بعد الحرب الباردة، سعت الولايات المتحدة، بصورة عامة، إلى التعاون مع القوى الأخرى كلما أمكن، ودمجها في نظام عالمي تقوده أميركا، لكن في منتصف العقد الثاني من القرن الـ21، ترسخ إجماع جديد. انتهى عصر التعاون، فكان على استراتيجية الولايات المتحدة أن تركز على التنافس مع الخصمين الرئيسين، الصين وروسيا. وكانت أولوية السياسة الخارجية الأميركية واضحة، وهي الحفاظ على التفوق عليهما.
وجاء في وثيقة ترمب لعام 2017 أن خصوم واشنطن "يتحدون مزايانا الجيوسياسية، ويحاولون تغيير النظام الدولي لصالحهم". ونتيجة لذلك، زعمت استراتيجيته للدفاع الوطني في العام التالي أن التنافس الاستراتيجي بين الدول قد أصبح "الاهتمام الأساس للأمن القومي الأميركي". عندما تولى جو بايدن، خصم ترمب اللدود، منصب الرئاسة عام 2021، تغيرت بعض جوانب السياسة الخارجية الأميركية بصورة جذرية، لكن التنافس بين القوى العظمى ظل هو المحور الرئيس. ففي عام 2022، حذرت استراتيجية الأمن القومي التي أصدرها بايدن من أن "التحدي الاستراتيجي الأكثر إلحاحاً الذي يواجه رؤيتنا يأتي من قوى تدمج بين حكم استبدادي وسياسة خارجية رجعية". وكان الحل الوحيد، وفقاً للاستراتيجية، هو "التفوق" على الصين وكبح جماح روسيا العدوانية.
وقد رحب البعض بهذا الإجماع على مفهوم التنافس بين القوى العظمى، بينما انتقده آخرون، لكن مع تصعيد روسيا لعدوانها في أوكرانيا، ووضوح نيات الصين تجاه تايوان، وتعميق القوتين الاستبداديتين لعلاقاتهما وتعاونهما مع خصوم الولايات المتحدة الآخرين، لم يتوقع كثر أن تتخلى واشنطن عن المنافسة كمنهج أساسي لها. ومع عودة ترمب إلى البيت الأبيض عام 2025، توقع عديد من المحللين الاستمرار في النهج ذاته: "السياسة الخارجية الأميركية من ترمب إلى بايدن فترمب"، كما وصفها عنوان مقال في مجلة فورين أفيرز. ثم جاء الشهران الأولان من ولاية ترمب الثانية. وبسرعة مذهلة، دمر ترمب الإجماع الذي أسهم في بنائه. فبدلاً من منافسة الصين وروسيا، هو يسعى الآن إلى التعاون معهما باحثاً عن صفقات كانت، في ولايته الأولى، لتعتبر منافية تماماً للمصالح الأميركية. كما أوضح ترمب أنه يدعم إنهاء الحرب في أوكرانيا بسرعة، حتى وإن تطلب الأمر إذلال الأوكرانيين علناً، واحتضان روسيا، والسماح لها بالاحتفاظ بمساحات شاسعة من الأراضي الأوكرانية.
ولا تزال العلاقات مع الصين متوترة، خصوصاً مع دخول تعريفات ترمب الجمركية حيز التنفيذ والتهديد الصيني بالرد بالمثل. ومع ذلك فقد أشار ترمب إلى رغبته في التوصل إلى تسوية شاملة مع الرئيس الصيني شي جينبينغ. ونقل مستشارون لترمب لصحيفة "نيويورك تايمز" أن ترمب يود الجلوس مع شي "رجلاً لرجل" لوضع شروط تنظم التجارة والاستثمار والأسلحة النووية. وفي الأثناء، كثف ترمب الضغوط الاقتصادية على حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا وكندا (التي يأمل في إجبارها على أن تصبح "الولاية الـ51")، وهدد بالاستيلاء على غرينلاند وقناة بنما. وبسرعة مذهلة، تحولت الولايات المتحدة من منافسة خصومها العدوانيين إلى ممارسة الترهيب ضد الودودين.
لقد حاول بعض المراقبين فهم سلوك ترمب من خلال وضع سياساته ضمن إطار المنافسة بين القوى العظمى. ومن هذا المنظور، فإن التقارب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يعد ذروة السياسة بين القوى العظمى، بل وصفه البعض بأنه "صيغة عكسية لسياسة كيسنجر"، المصممة لتفكيك الشراكة الصينية الروسية [سياسة كيسنجر الأساسية قضت بالتقارب مع الصين لفصلها عن الاتحاد السوفياتي، أما الصيغة العكسية فهي التقارب مع روسيا لفصلها عن الصين]. بينما أشار آخرون إلى أن ترمب ببساطة يتبنى أسلوباً أكثر قومية في التنافس بين القوى العظمى، أسلوباً قد يكون منطقياً ومفهوماً أكثر بالنسبة إلى شي وبوتين، وكذلك ناريندرا مودي في الهند، وفيكتور أوربان في المجر.
وعلى رغم أن هذه التفسيرات ربما بدت مقنعة في يناير (كانون الثاني)، ولكن يجب أن يكون واضحاً الآن أن رؤية ترمب للعالم لا تقوم على التنافس بين القوى العظمى بل على التواطؤ فيما بينها: نظام "وفاق" [أو ما يعرف بـ"الكونسرت"] يشبه ذاك الذي ساد في أوروبا خلال القرن الـ19. ما يريده ترمب هو عالم يديره رجال أقوياء يعملون معاً، ليس بتناغم دائم، ولكن دوماً بهدف مشترك، لفرض رؤية موحدة للنظام على بقية العالم. هذا لا يعني أن الولايات المتحدة ستتوقف عن التنافس مع الصين وروسيا تماماً: فالمنافسة بين القوى العظمى ستبقى سمة دائمة لا مفر منها في السياسة الدولية. ومع ذلك فقد ثبت أن اعتماد منافسة القوى العظمى كمرتكز للسياسة الخارجية الأميركية كان سطحياً وقصير الأجل على نحو لافت. إذاً، فإذا أخذنا العبرة من التاريخ فإن نهج ترمب الجديد يشير إلى احتمال أن تنتهي الأمور بطريقة سيئة.
ما السردية الأميركية؟
على رغم أن التنافس مع الخصوم الرئيسين كان محورياً في ولاية ترمب الأولى وكذلك في ولاية بايدن، فمن المهم الإشارة إلى أن عبارة "المنافسة بين القوى العظمى" لم تكن قط استراتيجية متماسكة. فوجود استراتيجية يوحي بأن القادة قد حددوا غايات ملموسة أو معايير واضحة للنجاح. خلال الحرب الباردة، على سبيل المثال، سعت واشنطن إلى تعزيز قوتها من أجل احتواء توسع الاتحاد السوفياتي ونفوذه. على النقيض من ذلك، في العصر الحديث، غالباً ما بدا الصراع على النفوذ وكأنه في غاية حد ذاته [وليس وسيلة لتحقيق أهداف محددة]. على رغم أن واشنطن حددت منافسيها، فإنها نادراً ما أوضحت متى وكيف ولماذا تحدث المنافسة. ونتيجة لذلك، أصبح مفهوم "المنافسة بين القوى العظمى" مرناً للغاية، ويمكن أن يبرر تهديدات ترمب بالتخلي عن حلف الـ"ناتو" ما لم ترفع الدول الأوروبية من إنفاقها الدفاعي، باعتبار أن ذلك يحمي المصالح الأمنية الأميركية من الاستغلال المجاني. ولكن يمكن استخدام نفس المصطلح أيضاً لتفسير إعادة استثمار بايدن في حلف الناتو، الذي سعى إلى تنشيط تحالف الديمقراطيات في مواجهة النفوذ الروسي والصيني.
بدلاً من تحديد استراتيجية معينة، كانت المنافسة بين القوى العظمى تمثل سردية قوية في السياسة العالمية، توفر فهماً جوهرياً ونظرة ثاقبة حول طريقة رؤية صانعي السياسات الأميركيين لأنفسهم وللعالم من حولهم، وكيف أرادوا أن ينظر إليهم الآخرون. في هذه القصة، كانت الشخصية الرئيسة هي الولايات المتحدة. في بعض الأحيان، صورت البلاد على أنها بطل قوي ومهيب، يتمتع بحيوية اقتصادية وقوة عسكرية لا مثيل لها. وفي أحيان أخرى، قدمت واشنطن كضحية، كما في وثيقة استراتيجية ترمب لعام 2017، التي صورت الولايات المتحدة كقوة تعمل في "عالم خطر" تسعى فيه القوى المتنافسة إلى "تقويض المصالح الأميركية بصورة عدوانية في جميع أنحاء العالم". في بعض الأحيان، كانت هناك أطراف داعمة: على سبيل المثال، مجتمع من الدول الديمقراطية، اعتبره بايدن شريكاً ضرورياً في ضمان الازدهار الاقتصادي العالمي وحماية حقوق الإنسان.
في المقابل لعبت الصين وروسيا دور الخصمين الرئيسين. وعلى رغم الظهور العابر والموقت لخصوم آخرين على غرار إيران وكوريا الشمالية ومجموعة من الجهات الفاعلة غير الحكومية، فإن بكين وموسكو برزتا كمنفذتين لمؤامرة تهدف إلى إضعاف الولايات المتحدة. وهنا أيضاً، اختلفت بعض التفاصيل بحسب من كان يروي القصة. بالنسبة إلى ترمب، كانت القصة تدور حول المصالح الوطنية: سعت هذه القوى التعديلية إلى "تقويض أمن أميركا وازدهارها". أما في عهد بايدن، فقد تحول التركيز من المصالح إلى المثل، ومن الأمن إلى النظام. واضطرت واشنطن إلى منافسة القوى الاستبدادية الكبرى لضمان سلامة الديمقراطية ومتانة النظام الدولي القائم على القواعد.
ومع ذلك وعلى مدار ما يقارب العقد، ظل الخط السردي العريض ثابتاً: خصوم عدوانيون يسعون إلى إلحاق الضرر بالمصالح الأميركية، وواشنطن مضطرة للرد. وبمجرد أن ترسخ هذا التصور للعالم، أصبح يمنح الأحداث معاني محددة. فالغزو الروسي لأوكرانيا لم ينظر إليه كهجوم على أوكرانيا فحسب، بل كاعتداء على النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة. أما تعزيز الصين لقوتها العسكرية في بحر الصين الجنوبي، فلم يفسر على أنه دفاع عن مصالحها الحيوية، بل كمحاولة لتوسيع نفوذها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ على حساب واشنطن. في ظل "تنافس القوى الكبرى"، لم يعد ينظر إلى التكنولوجيا كأداة محايدة، بل بات لزاماً على الولايات المتحدة إقصاء الصين عن شبكات الجيل الخامس في أوروبا، والحد من وصول بكين إلى أشباه الموصلات. حتى المساعدات الخارجية ومشاريع البنية التحتية في أفريقيا لم تعد مجرد أدوات للتنمية، بل أصبحت أسلحة في معركة الهيمنة. وأصبحت منظمات مثل منظمة الصحة العالمية، ومنظمة التجارة العالمية، والمحكمة الجنائية الدولية، بل وحتى منظمة السياحة العالمية التابعة للأمم المتحدة، ساحات صراع من أجل التفوق. بدا أن كل شيء، ببساطة، أصبح جزءاً من تنافس القوى الكبرى.
مقاعد على طاولة الوفاق العالمي الجديد
في فترته الرئاسية الأولى، برز ترمب كأحد أبرز رواة قصة تنافس القوى الكبرى. ففي خطاب ألقاه عام 2017 قال "خصومنا أقوياء وعنيدون ومصممون على المدى الطويل - وكذلك نحن. وللنجاح، علينا أن ندمج جميع أبعاد قوتنا الوطنية، وأن نتنافس بكل أداة من أدوات قوتنا الوطنية" (وكان أكثر صراحة حين أعلن ترشحه للرئاسة قبل ذلك بعامين قائلاً: "أنا أهزم الصين طوال الوقت. طوال الوقت").
لكن مع عودته إلى منصبه لولاية ثانية، غير ترمب توجهه. لا يزال نهجه حاداً وصدامياً. وهو لا يتردد في التهديد بعقوبات، غالباً ما تكون اقتصادية، لإجبار الآخرين على فعل ما يريده. لكن بدلاً من محاولة هزيمة الصين وروسيا، يسعى ترمب الآن إلى إقناعهما بالعمل معه لإدارة النظام الدولي. فما يرويه اليوم هو سردية تواطؤ لا تنافس، قصة وفاق وعمل متناغم. بعد مكالمة هاتفية مع شي جينبينغ في منتصف يناير، كتب ترمب على منصة "تروث سوشيال": "سوف نحل عديداً من المشكلات معاً، بدءاً من الآن. ناقشنا تحقيق التوازن التجاري ومشكلة الفنتانيل وتطبيق ’تيك توك’ ومواضيع عديدة أخرى. الرئيس شي وأنا سنبذل كل ما في وسعنا لجعل العالم أكثر سلاماً وأماناً!". وخلال خطاب ألقاه أمام قادة الأعمال المجتمعين في دافوس، في سويسرا، في الشهر نفسه، قال ترمب "بإمكان الصين مساعدتنا في إنهاء الحرب، لا سيما الروسية - الأوكرانية. ولدى الصينيين تأثير كبير في هذا الوضع، وسنعمل معهم".
وفي منشور آخر على "تروث سوشيال" حول مكالمة هاتفية مع بوتين في فبراير (شباط)، قال ترمب: "لقد تحدثنا معاً عن التاريخ العظيم لأمتينا، وحقيقة أننا قاتلنا بنجاح جنباً إلى جنب في الحرب العالمية الثانية... وقد تحدث كل منا عن نقاط القوة في بلده، والمنفعة الكبيرة التي سنجنيها يوماً ما من العمل معاً". في مارس (آذار)، بينما كان أعضاء إدارة ترمب يجرون مفاوضات مع نظرائهم الروس حول مصير أوكرانيا، أوضحت موسكو رؤيتها للمستقبل المحتمل. قال فيودور فويتولوفسكي، الأكاديمي والعضو في المجالس الاستشارية بوزارة الخارجية الروسية ومجلس الأمن القومي، لصحيفة "نيويورك تايمز": "يمكننا التوصل إلى نموذج يسمح لروسيا والولايات المتحدة، وروسيا وحلف شمال الأطلسي، بالتعايش من دون التدخل في مجالات نفوذ بعضها بعضاً". وأضاف فويتولوفسكي أن الجانب الروسي يدرك أن ترمب يفهم هذه الرؤية "كرجل أعمال". في الوقت نفسه تقريباً، تطرق المبعوث الخاص لترمب، ستيف ويتكوف، وهو قطب عقارات لعب دوراً كبيراً في المفاوضات مع روسيا، إلى إمكانات التعاون الأميركي الروسي في مقابلة مع المعلق تاكر كارلسون. قال ويتكوف: "نتشارك الممرات البحرية، وربما تصدير الغاز [الطبيعي المسال] إلى أوروبا معاً، أو حتى نتعاون في مجال الذكاء الاصطناعي. من منا لا يريد أن يرى عالماً كهذا؟".
وفي سعيه إلى التوصل إلى تسويات مع خصومه، قد يكون ترمب يخرج عن الأعراف السائدة حديثاً، لكنه في الواقع يستند إلى تقليد عميق الجذور. ففكرة أن القوى العظمى المتنافسة ينبغي أن تتكاتف لإدارة نظام دولي فوضوي هي فكرة تبناها قادة كثر عبر التاريخ، لا سيما عقب الحروب الكارثية التي دفعتهم إلى السعي لإنشاء نظام أكثر استقراراً وموثوقية. ففي عامي 1814-1815، وبعد الثورة الفرنسية والحروب النابليونية التي اجتاحت أوروبا لما يقارب ربع قرن، اجتمعت القوى الأوروبية الكبرى في فيينا بهدف إنشاء نظام أكثر استقراراً وسلاماً من النظام القائم على توازن القوى في القرن الـ18، الذي كانت الحروب الكبرى تقع فيه تقريباً كل عقد. وأسفر ذلك عن تأسيس ما عرف بـ"كونسيرت أوروبا"، وهي مجموعة شملت في البداية النمسا وبروسيا وروسيا والمملكة المتحدة ثم انضمت فرنسا إليه عام 1818.
قد يكون ترمب يخرج عن الأعراف السائدة حديثاً، لكنه في الواقع يستحضر تقليداً عريقاً متجذراً بعمق
بصفتها قوى عظمى معترف بها، منحت دول "الكونسيرت" حقوقاً ومسؤوليات خاصة للحد من النزاعات المزعزعة لاستقرار النظام الأوروبي. فعندما كانت تنشب نزاعات إقليمية، بدلاً من استغلالها لتوسيع نفوذها، كانت القوى الأوروبية تجتمع لمحاولة التوصل إلى حل تفاوضي. فعلى سبيل المثال، كانت روسيا تطمح منذ فترة طويلة للتوسع داخل أراضي الدولة العثمانية، وعندما اندلعت الثورة اليونانية ضد الحكم العثماني عام 1821، بدا أن الفرصة سانحة أمام روسيا لتحقيق ذلك الطموح، لكن النمسا والمملكة المتحدة دعتا إلى ضبط النفس، محذرتين من أن التدخل الروسي قد يؤدي إلى فوضى في النظام الأوروبي. وقد تراجعت روسيا آنذاك، وتعهد القيصر ألكسندر الأول قائلاً: "يقع على عاتقي أن أثبت اقتناعي بالمبادئ التي أسست عليها هذا التحالف". وفي أحيان أخرى، عندما كانت الحركات القومية الثورية تهدد النظام القائم، كانت القوى العظمى تتدخل لضمان تسوية دبلوماسية، حتى لو كان ذلك يعني التخلي عن مكاسب محتملة.
وعلى مدار أربعة عقود تقريباً، استطاع "كونسيرت أوروبا" أن يحول تنافس القوى العظمى إلى تعاون، لكن بنهاية القرن الـ19، انهار النظام. فلم يتمكن من منع نشوب الصراعات بين أعضائه، وخلال ثلاث حروب متتالية، تمكنت بروسيا من هزيمة كل من النمسا وفرنسا، مما أدى إلى توحيد ألمانيا وتقويض توازن القوى المستقر. في الوقت نفسه ازدادت حدة التنافس الإمبريالي في أفريقيا وآسيا إلى حد عجز "الكونسيرت" عن احتوائه.
ومع ذلك ظلت فكرة أن القوى الكبرى يمكنها ويجب عليها أن تتحمل مسؤولية إدارة السياسة الدولية تطفو وتعود إلى الساحة من حين لآخر. فقد استرشد الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت بهذه الفكرة في رؤيته لـ"أربعة شرطيين" - الولايات المتحدة، والاتحاد السوفياتي، والمملكة المتحدة، والصين - لحفظ الأمن العالمي بعد الحرب العالمية الثانية. كما تخيل الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف عالماً بعد الحرب الباردة يستمر فيه الاتحاد السوفياتي كقوة عظمى تتعاون مع خصومها السابقين للمساهمة في تنظيم الأمن الأوروبي. ومع تراجع القوة النسبية للولايات المتحدة في مطلع القرن الـ21، دعا بعض المراقبين إلى أن تتعاون واشنطن مع البرازيل والصين والهند وروسيا لإضفاء قدر من الاستقرار على عالم جديد يتشكل بعد زوال الهيمنة الأحادية.
تقسيم العالم
لا ينبع اهتمام ترمب بـ"وفاق" القوى العظمى من فهمه العميق لهذا التاريخ، بل إن شغفه به قائم على الاندفاع والغريزة. يبدو أن ترمب ينظر إلى العلاقات الخارجية بالطريقة نفسها التي ينظر بها إلى عالمي العقارات والترفيه، ولكن على نطاق أوسع. وكما هو الحال في هذين المجالين، تتنافس مجموعة مختارة من أصحاب النفوذ باستمرار، ليس كأعداء لدودين، بل كأنداد يحترم بعضهم بعضاً. كل منهم مسؤول عن إمبراطورية يديرها بالطريقة التي يراها مناسبة. قد تتنافس الصين وروسيا والولايات المتحدة على المكاسب بطرق مختلفة، لكنها تدرك أنها موجودة ضمن نظام مشترك، وهي مسؤولة عن إدارته. لهذا السبب، لا بد من أن تتواطأ القوى العظمى، حتى في خضم تنافسها. يرى ترمب أن شي وبوتين قائدين "ذكيين وقويين" و"يحبان بلديهما". وقد أكد أنه ينسجم معهما جيداً ويتعامل معهما كأنداد، على رغم أن الولايات المتحدة لا تزال أكثر قوة من الصين، وأقوى بكثير من روسيا. كما كان الحال مع "الوفاق الأوروبي"، فإن الشعور بالمساواة هو ما يهم: ففي عام 1815، لم تكن النمسا وبروسيا تضاهيان روسيا والمملكة المتحدة من حيث القوة المادية، لكنهما عوملتا كندين على أي حال.
في نسخة "الوفاق" الخاصة بترمب، لا تعتبر الولايات المتحدة بطلاً ولا ضحية للنظام الدولي، ولا دولة ملزمة بالدفاع عن مبادئها الليبرالية أمام العالم. في خطاب تنصيبه الثاني، وعد ترمب بأن تقود الولايات المتحدة العالم مجدداً ليس من خلال مثلها العليا، بل من خلال طموحاتها. ووعد بأن السعي نحو العظمة سيجلب القوة المادية والقدرة على "إضفاء روح جديدة من الوحدة إلى عالم غاضب وعنيف وغير متوقع على الإطلاق". وما اتضح في الأسابيع التي تلت هذا الخطاب هو أن الوحدة التي يسعى ترمب إليها تنصب بالدرجة الأولى على الصين وروسيا.
في سردية "تنافس القوى الكبرى"، كانت تلك الدول تصور كأعداء لدودين لا يمكن التفاهم معهم، ومعارضين أيديولوجياً للنظام الذي تقوده الولايات المتحدة. أما في سردية "الوفاق"، لم تعد ترى الصين وروسيا كخصمين محضين، بل كشريكين محتملين، يعملان مع واشنطن للحفاظ على مصالحهم المشتركة. وهذا لا يعني أن الشركاء في "الوفاق" سيصبحون أصدقاء مقربين، بل على العكس تماماً. سيظل نظام "الوفاق" يشهد منافسة بين هؤلاء الزعماء الأقوياء الذين يسعون جاهدين للتفوق، لكن كلاً منهم يدرك أن الصراعات بينهم يجب أن تبقى هادئة حتى يتمكنوا من مواجهة العدو الحقيقي المتمثل في قوى الفوضى والاضطراب.
كانت هذه السردية بالذات، حول أخطار القوى المناهضة للتغيير الثوري، هي التي أرست الأسس لـ"الوفاق الأوروبي". فقد وضعت القوى العظمى خلافاتها الأيديولوجية جانباً، مدركة أن القوى الثورية القومية التي أطلقتها الثورة الفرنسية تشكل تهديداً أكبر لأوروبا مما قد تشكله خصوماتها الأضيق. وفي رؤية ترمب لوفاق جديد، يجب التعامل مع روسيا والصين كقوتين متقاربتين في الأفكار تسعيان إلى قمع الفوضى المتفشية والتغيير الاجتماعي المقلق. ستواصل الولايات المتحدة التنافس مع نظرائها، بخاصة مع الصين في قضايا التجارة، لكن شريطة ألا يؤدي ذلك إلى مساعدة القوى التي أطلق عليها ترمب ونائبه جي دي فانس اسم "أعداء الداخل": المهاجرون غير الشرعيين، والإرهابيون الإسلاميون، والتقدميون من "تيار اليقظة"، والاشتراكيون على النمط الأوروبي، والأقليات الجنسية.
لكي ينجح "وفاق" القوى هذا، يجب أن يتمكن الأعضاء من السعي وراء طموحاتهم الخاصة من دون المساس بحقوق أقرانهم (في المقابل، يعد المساس بحقوق الدول الأخرى خارج دائرة "الوفاق" أمراً مقبولاً وضرورياً للحفاظ على النظام). وهذا يعني تنظيم العالم في مناطق نفوذ متميزة، وهي حدود تحدد الأماكن التي يحق للقوة العظمى أن تمارس فيها التوسع والهيمنة من دون قيود. في "الوفاق الأوروبي"، سمحت القوى العظمى لأقرانها بالتدخل ضمن مناطق النفوذ المعترف بها، مثلما حدث عندما قمعت النمسا ثورة في نابولي عام 1821، وعندما قمعت روسيا القومية البولندية بقسوة، كما فعلت مراراً طوال القرن الـ19.
في منطق "الوفاق المعاصر"، سيكون من المعقول أن تسمح الولايات المتحدة لروسيا بالاستيلاء الدائم على أراضٍ أوكرانية لمنع ما تعتبره موسكو تهديداً للأمن الإقليمي. وسيكون من المنطقي أيضاً أن تسحب الولايات المتحدة "قواتها العسكرية أو أنظمة الأسلحة من الفيليبين مقابل تقليص دوريات خفر السواحل الصيني"، وهو ما اقترحه الباحث أندرو بايرز عام 2024، قبل أن يعينه ترمب نائباً مساعداً لوزير الدفاع لشؤون الجنوب وجنوب شرقي آسيا، بل إن عقلية "الوفاق" ستترك الباب مفتوحاً أيضاً لاحتمال أن تقف الولايات المتحدة جانباً إذا قررت الصين السيطرة على تايوان. في المقابل، يتوقع ترمب من بكين وموسكو البقاء على الحياد بينما يهدد كندا وغرينلاند وبنما.
ومثلما تمنح سردية "الوفاق" القوى العظمى الحق في إدارة النظام كما تشاء، فإنها تحد من قدرة الآخرين على إيصال أصواتهم. لم تكن القوى الأوروبية العظمى في القرن الـ19 تبالي كثيراً بمصالح القوى الصغيرة، حتى في القضايا المصيرية. ففي عام 1818، وبعد عقد من الثورات في أميركا الجنوبية، واجهت إسبانيا الانهيار النهائي لإمبراطوريتها في نصف الكرة الغربي. فاجتمعت القوى العظمى في أكس لا شابيل لتقرير مصير الإمبراطورية ومناقشة ما إذا كان ينبغي التدخل لاستعادة الحكم الملكي. ويذكر أن إسبانيا لم تدع إلى طاولة المفاوضات. وعلى نحو مماثل، يبدو أن ترمب يبدي اهتماماً ضئيلاً بإعطاء أوكرانيا دوراً في المفاوضات حول مصيرها، واهتماماً أقل بإشراك الحلفاء الأوروبيين في العملية: هو وبوتين ووكلاؤهما المختلفون سيتولون الأمر من خلال "تقسيم بعض الأصول"، على حد قول ترمب. وعلى كييف أن تتقبل النتائج.
مجموع مجالات النفوذ
في بعض الحالات، ينبغي على واشنطن أن تنظر إلى بكين، بل وحتى إلى موسكو، كشريكتين. على سبيل المثال، فإن إحياء اتفاقات الحد من التسلح سيكون تطوراً مرحباً به، وهو أمر يتطلب تعاوناً أكبر مما تسمح به سردية التنافس بين القوى العظمى. وفي هذا الصدد، قد تكون سردية "التوافق" جذابة. فمن خلال تسليم النظام العالمي إلى رجال أقوياء يديرون دولاً قوية، ربما يمكن للعالم أن ينعم بسلام واستقرار نسبيين بدلاً من الصراع والفوضى، لكن هذه السردية تشوه واقع السياسات القائمة على القوة وتخفي التحديات المرتبطة بالعمل في إطار متناغم.
فمن ناحية، على رغم أن ترمب قد يعتقد أنه من السهل رسم مجالات النفوذ وإدارتها، فإن الواقع ليس كذلك. حتى في ذروة فترة "الوفاق الأوروبي"، واجهت القوى صعوبة في تحديد حدود نفوذها. فقد تصادمت النمسا وبروسيا باستمرار للسيطرة على الاتحاد الألماني، فيما تنافست فرنسا وبريطانيا على الهيمنة في البلدان المنخفضة (بلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ وغرب ألمانيا وجزء من شمال فرنسا). أما المحاولات الأحدث لإنشاء مجالات نفوذ فلم تكن أقل تعقيداً. في مؤتمر يالطا عام 1945، تصور روزفلت، والزعيم السوفياتي جوزيف ستالين، ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، إدارة مشتركة وسلمية لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، لكن سرعان ما وجدوا أنفسهم يتصارعون على حدود مجالات نفوذهم، أولاً في مركز النظام الجديد في ألمانيا، ولاحقاً في أطرافه في كوريا وفيتنام وأفغانستان. أما اليوم، وبفضل الاعتماد الاقتصادي المتبادل الناجم عن العولمة، فإن تقسيم العالم بدقة سيكون أكثر صعوبة على القوى من ذي قبل. فسلاسل التوريد المعقدة وتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر تتحدى فكرة الحدود الواضحة. كما أن المشكلات مثل الأوبئة، وتغير المناخ، وانتشار الأسلحة النووية لا يمكن احتواؤها وإبقاؤها محصورة داخل "مجال نفوذ" مغلق تهيمن عليه قوة عظمى واحدة.
واستطراداً، يبدو أن ترمب يعتقد أن اتباع نهج يقوم أكثر على عقد الصفقات يمكن أن يتجاوز الخلافات الأيديولوجية التي قد تشكل عوائق أمام التعاون مع الصين وروسيا، لكن على رغم التماسك الظاهري بين القوى العظمى، فإن سياسات التناغم والوفاق غالباً ما تخفي الخلافات الأيديولوجية بدلاً من الحد منها. لم يستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى ظهرت مثل هذه الانقسامات داخل "الوفاق الأوروبي". في سنواته الأولى، شكلت القوى المحافظة، النمسا وبروسيا وروسيا، تحالفها الخاص المعروف بـ"التحالف المقدس"، في سبيل حماية أنظمتها الملكية الوراثية. ورأت هذه الدول في الثورات ضد الحكم الإسباني في الأميركتين تهديداً وجودياً، قد تتردد نتائجه عبر أوروبا، بالتالي يتطلب رداً فورياً لاستعادة النظام. لكن القادة في المملكة المتحدة، الأكثر ليبرالية، رأوا تلك الثورات ليبرالية في جوهرها، وعلى رغم قلقهم من فراغ السلطة الذي قد ينشأ في أعقابها، لم يكن البريطانيون ميالين للتدخل، وفي النهاية، عملوا مع دولة ليبرالية صاعدة، هي الولايات المتحدة، لعزل نصف الكرة الغربي عن التدخل الأوروبي، من خلال دعمهم الضمني لمبدأ مونرو، باستخدام القوة البحرية البريطانية.
سياسات التناغم والوفاق غالباً ما تخفي الخلافات الأيديولوجية بدلاً من الحد منها
ليس من الصعب تخيل معارك أيديولوجية مماثلة في أي "وفاق" جديد. قد لا يبالي ترمب كثيراً بكيفية إدارة شي لمجال نفوذه، لكن صور استخدام الصين للقوة لسحق ديمقراطية تايوان من المرجح أن تثير معارضة في الولايات المتحدة وأماكن أخرى، تماماً مثلما أثار عدوان روسيا على أوكرانيا غضب الرأي العام الديمقراطي. حتى الآن، تمكن ترمب من تغيير السياسة الأميركية تجاه أوكرانيا وروسيا بصورة جوهرية من دون دفع أي ثمن سياسي، لكن استطلاع رأي أجرته مجلة "الإيكونوميست" بالتعاون مع مؤسسة "يوغوف" في منتصف مارس أظهر أن 47 في المئة من الأميركيين لا يوافقون على طريقة تعامل ترمب مع الحرب، وأن 49 في المئة لا يوافقون على سياسته الخارجية بصورة عامة.
عندما تحاول القوى العظمى قمع التحديات التي تواجه النظام السائد، فإنها غالباً ما تثير رد فعل عكسي، مما يولد جهوداً ترمي إلى تقويض قبضتها على السلطة. يمكن للحركات الوطنية والعابرة للحدود الوطنية أن تضعف أي وفاق. في أوروبا القرن الـ19، أصبحت القوى الثورية القومية التي حاولت القوى العظمى احتواءها أكثر قوة على مدار القرن، بل ونسجت روابط في ما بينها. وبحلول عام 1848، كانت هذه القوى قوية بما يكفي لشن ثورات منسقة في جميع أنحاء أوروبا. وعلى رغم إخماد هذه الثورات، فإنها أطلقت العنان لقوى وجهت في نهاية المطاف ضربة قاضية لنظام "الوفاق" من خلال حروب توحيد ألمانيا في ستينيات القرن الـ19.
تشير سردية "الوفاق" إلى أن القوى العظمى قادرة على العمل معاً لإبقاء قوى عدم الاستقرار تحت السيطرة إلى أجل غير مسمى، لكن المنطق السليم والتاريخ يقولان غير ذلك. اليوم، قد تنجح روسيا والولايات المتحدة في فرض النظام في أوكرانيا، من خلال التفاوض على حدود إقليمية جديدة وتجميد هذا الصراع. قد يؤدي ذلك إلى هدوء موقت، لكنه على الأرجح لن يفضي إلى سلام دائم، إذ من غير المرجح أن تنسى أوكرانيا أراضيها المفقودة، ومن غير المرجح أن يرضى بوتين بما لديه حالياً لفترة طويلة. وتعد منطقة الشرق الأوسط مثالاً آخر على منطقة من المستبعد أن يؤدي فيها تواطؤ القوى العظمى إلى تعزيز الاستقرار والسلام. حتى لو عملت واشنطن وبكين وموسكو معاً بتناغم وانسجام، فمن الصعب تصور كيف ستتمكن من التوسط لإنهاء الحرب في غزة، وتجنب مواجهة نووية مع إيران، وتحقيق الاستقرار في سوريا ما بعد الأسد.
ستأتي التحديات أيضاً من دول أخرى، وبخاصة من القوى "المتوسطة" الصاعدة. في القرن الـ19، طالبت قوى صاعدة مثل اليابان بالانضمام إلى نادي القوى العظمى والحصول على مكانة متكافئة في قضايا مثل التجارة. وفي نهاية المطاف، أدى الحكم الاستعماري، وهو الشكل الأكثر قمعاً من صور الهيمنة الأوروبية، إلى مقاومة شرسة في جميع أنحاء العالم. واليوم، سيكون الحفاظ على تسلسل هرمي دولي أكثر صعوبة. في الواقع، لا يوجد اعتراف يذكر بين الدول الأصغر بأن للقوى العظمى أي حقوق خاصة في فرض نظام عالمي. وقد أنشأت القوى المتوسطة بالفعل مؤسساتها الخاصة، مثل اتفاقات التجارة الحرة المتعددة الأطراف ومنظمات الأمن الإقليمية، التي يمكنها تسهيل المقاومة الجماعية. وقد واجهت أوروبا صعوبات في بناء دفاعاتها المستقلة، ولكن من المرجح أن تضاعف جهودها لتوفير أمنها ومساعدة أوكرانيا. وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، بنت اليابان شبكات نفوذها الخاصة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، مرسخة مكانتها كقوة أكثر قدرة على العمل الدبلوماسي المستقل في تلك المنطقة. ومن غير المرجح أن تقبل الهند بأي استبعاد من نظام القوى العظمى، خصوصاً إذا كان ذلك يعني تنامي نفوذ الصين على طول حدودها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن أجل التعامل مع جميع المشكلات التي يسببها تواطؤ القوى العظمى، من المفيد امتلاك مهارات أوتو فون بسمارك، القائد البروسي الذي وجد طرقاً للتلاعب بنظام "الوفاق الأوروبي" لصالحه. لقد استطاعت دبلوماسية بسمارك أن تفرق بين الحلفاء المتفقين أيديولوجياً. فبينما كانت بروسيا تستعد لخوض حرب ضد الدنمارك لانتزاع السيطرة على شليسفيغ هولشتاين عام 1864، استخدم بسمارك قواعد "الوفاق" والمعاهدات القائمة لتهميش المملكة المتحدة، التي تعهد قادتها بضمان سلامة المملكة الدنماركية. واستغل المنافسة الاستعمارية في أفريقيا، مصوراً نفسه "وسيطاً نزيهاً" بين فرنسا والمملكة المتحدة. كان بسمارك معارضاً للقوى الليبرالية القومية التي اجتاحت أوروبا في منتصف القرن الـ19، بالتالي كان محافظاً رجعياً، لكنه لم يكن محافظاً انفعالياً أو متهوراً في ردود فعله. كان يفكر ملياً متى يسحق الحركات الثورية ومتى يستغلها، مثلما فعل في سعيه إلى توحيد ألمانيا. كان طموحاً للغاية، لكنه لم يكن مدفوعاً بنزعات توسعية، وكثيراً ما فضل التروي وضبط النفس. على سبيل المثال، لم يرَ ضرورة للسعي إلى إقامة إمبراطورية في القارة الأفريقية، لأن ذلك سيجر ألمانيا إلى صراع مع فرنسا والمملكة المتحدة.
لكن للأسف، فإن معظم القادة، بغض النظر عن نظرتهم لأنفسهم، ليسوا مثل بسمارك، بل إن كثيرين منهم يشبهون نابليون الثالث بدرجة أكبر. فقد وصل الحاكم الفرنسي إلى السلطة مع انحسار ثورات عام 1848، وكان يعتقد أن لديه قدرة استثنائية على استخدام نظام "الوفاق" لتحقيق مآرب شخصية. حاول إثارة الخلاف بين النمسا وبروسيا لتوسيع نفوذه في الاتحاد الألماني، وسعى إلى تنظيم مؤتمر كبير لإعادة رسم الحدود الأوروبية بما يمثل الحركات القومية. لكنه فشل فشلاً ذريعاً. كان مغروراً وعاطفياً، وسهل التأثر بالإطراء والعار، فوجد نفسه إما متروكاً من نظرائه من القوى العظمى أو مستغلاً لتنفيذ أوامر الآخرين. نتيجة لذلك، وجد بسمارك في نابليون الثالث الشخص الساذج المناسب لدفع مشروع توحيد ألمانيا إلى الأمام.
في حال نشوء "وفاق" معاصر، كيف سيكون أداء ترمب كقائد؟ من الممكن أن يبرز كشخصية على طراز بسمارك، يلجأ إلى التسلط والخداع [يرهب ويناور] للحصول على تنازلات مفيدة من قوى عظمى أخرى، ولكن من المحتمل أن يتعرض للاستغلال أيضاً، فينتهي به المطاف مثل نابليون الثالث، مغلوباً على أمره أمام خصوم أكثر دهاءً.
التعاون أو التواطؤ
بعد تأسيس "الوفاق الأوروبي"، عاشت القوى الأوروبية في سلام قرابة 40 عاماً. كان هذا إنجازاً مذهلاً في قارة عصفت بها صراعات القوى العظمى طوال قرون. من هذا المنطلق، قد يوفر نظام "الوفاق" إطاراً عملياً قابلاً للتطبيق في عالم يتجه بصورة متزايدة نحو التعددية القطبية، لكن تحقيق ذلك يتطلب قصة تنطوي على تواطؤ أقل وتعاون أكبر، سردية تعمل فيها القوى العظمى معاً ليس من أجل تحقيق مصالحها الخاصة فحسب، لا بل أيضاً مصالح أوسع.
ما جعل "الوفاق" الأصلي ممكناً هو وجود قادة متشابهي التفكير يتشاركون مصلحة جماعية في إدارة شؤون القارة ويجمعهم هدف تجنب اندلاع حرب كارثية أخرى. كذلك، وضع "الوفاق" قواعد لإدارة المنافسة بين القوى العظمى. لم تكن هذه القواعد تنتمي إلى النظام الدولي الليبرالي، الذي سعى إلى إحلال الإجراءات القانونية محل سياسات القوة. بل كانت، بالأحرى، "قواعد عملية" وضعت بصورة مشتركة لتوجيه القوى العظمى في مفاوضاتها المتعلقة بالنزاعات. وقد أرست هذه القواعد معايير في شأن متى يجب التدخل في النزاعات، وكيفية توزيع الأراضي، ومن سيكون مسؤولاً عن تقديم المنافع العامة التي ستحافظ على السلام. وأخيراً، اعتمدت رؤية "الوفاق" الأصلي المداولات الرسمية والإقناع بالحجج والسبل الأخلاقية كآلية رئيسة للسياسة الخارجية التعاونية. واعتمد "الوفاق" على منتديات جمعت القوى العظمى في مناقشات حول مصالحها الجماعية.
من الصعب تخيل ترمب يصمم مثل هذا الترتيب، لكن يبدو أن ترمب مؤمن بأنه قادر على بناء توافق، ليس من خلال التعاون الحقيقي، بل من خلال إبرام صفقات تعاملية [قائمة على تبادل المصالح]، معتمداً على التهديدات والرشى لدفع شركائه نحو التواطؤ. وبصفته شخصاً معتاداً على تجاوز القواعد والأعراف، يبدو من غير المرجح أن يلتزم ترمب بأي معايير قد تخفف من حدة الصراعات بين القوى العظمى التي ستنشأ لا محالة. كما أنه ليس من السهل تخيل بوتين وشي كشريكين مستنيرين [يتصفان بالوعي والبصيرة]، مستعدين للتخلي عن المصالح الشخصية وتسوية الخلافات باسم الصالح العام.
يجدر بنا أن نتذكر كيف انتهى "الوفاق الأوروبي"، أولاً بسلسلة من الحروب المحدودة في القارة، ثم باندلاع صراعات إمبريالية في الخارج، وأخيراً باندلاع الحرب العالمية الأولى. لم يكن النظام مؤهلاً لمنع المواجهة مع اشتداد المنافسة. وعندما تحول التعاون الحذر إلى تواطؤ محض، أصبحت سردية الوفاق مجرد قصة خرافية. وانهار النظام تحت وطأة نوبة من سياسات القوة الغاشمة، وانقلبت الدنيا رأساً على عقب.
مترجم عن "فورين أفيرز" 22 أبريل 2025
ستايسي ي غودارد أستاذة علوم سياسية تشغل كرسي بيتي فريهوف جونسون في كلية ويلسلي، وهي أيضاً نائب العميد للشؤون الأكاديمية في الكلية.