ملخص
يأتي كتاب الروائي والناقد السينمائي الفلسطيني المقيم في باريس سليم البيك، "سيرة لسينما الفلسطينيين: محدودية المساحات والشخصيات"، الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية (2025) بمثابة تذكير بفلسطين وأحوال أهلها منذ "انتفاضة الحجارة" حتى حرب الإبادة الجماعية التي يتعرض لها قطاع غزة والتي ذهب ضحيتها أكثر من 60 ألف شخص، وسط حملة تجويع وتدمير وتهجير لا مثيل لها في العالم.
يقدم سليم البيك، في تسليطه الضوء على سيرة السينما الروائية التي صنعها الفلسطينيون، مفرّقاً عبر كتابه بين السينما الفلسطينية والسينما الروائية التي أخرجها فلسطينيون، لنا صورة عن الحال السياسية في فلسطين كما تتبدى ضمن الأفلام، راصداً سمة هذه السينما الرئيسة، وهي بحسبه محدودية المساحات والشخصيات بسبب سياسة الاستيطان الإسرائيلية واحتلال الأراضي التي انعكست بوضوح في معظم الأفلام التي وقّعها السينمائيون الفلسطينيون.
ويربط سليم البيك بين مساحة الأراضي المحدودة التي "حشر" الاستعمار الإسرائيلي الفسطينيين فيها وبروز شخصيات سينمائية ذات إمكانات محدودة، مبيّناً العلاقة التفاعلية القوية بين المكان والشخصيات. فالمكان برأيه ليس مجرد خلفية للأحداث، بل هو عنصر فاعل يسهم في تشكيل الشخصيات وتطور الأحداث، ولعله يقوم بدور في إظهار سماتها النفسية والاجتماعية، مؤثراً في سلوكها وقراراتها. وهذه الثيمة، تبعاً لما توصل إليه الباحث، هي العلامة الرئيسة للسينما الروائية الفلسطينية. لكنه لا يغفل "استثناءات" في بعض الأفلام التي تخلت عن هذه القوالب، فظهرت فيها شخصيات تنمو درامياً وتتحرر ضمن العمل السينمائي نفسه، مما نقرأه في كلمة الغلاف التي تشير إلى "بروز أفلام كانت استثناءات تثبت القاعدة، فكان تمرد الشخصيات على محدودية المساحات، مؤدياً إلى تحرر في ذاتها بصفتها شخصيات درامية تتطور مع تقدم القصة. وكانت هذه الشخصيات خارجة عن تنميط عمّ هذه السينما، فتمايزت بفردانية متخطية للظرف الجمعي الذي فرضته طبيعة الاحتلال الإسرائيلي على كامل فلسطين".
وتتوزع محاور الكتاب على ثلاثة أقسام ومقدمة وخاتمة، فيتناول القسم الأول أفلام الثمانينيات والتسعينيات، منذ "انتفاضة الحجارة" حتى "اتفاق أوسلو"، متوقفاً عند أفلام ميشال خليفي المنبثقة من عمق الواقع والذاكرة والعيش والتي تحلل أعماق الهوية الفلسطينية، وأفلام رشيد مشهراوي التي تنقل معاناة الشعب الفلسطيني كـ"المخيم مكاناً وأوسلو زماناً" و"حتى إشعار آخر" و"حيفا"، وأفلام إيليا سليمان التي تجمع بين الكوميديا السوداء والدراما، مع التركيز على الهوية الفلسطينية والاغتراب، وأفلام علي نصار التي تلامس حقبات زمنية مختلفة من الحياة الفلسطينية والتي تتداخل مع تجربته الشخصية من خلال الحكايات والأساطير الشعبية التي تعبر عن هواجس الشعب وهمومه.
التأسيس الثاني
أما القسم الثاني، فيتناول الأفلام التي أُخرجت ما بعد عام 2000 والتي يطلق عليها سليم البيك صفة مرحلة "التأسيس الثاني لسينما الفلسطينيين" بدءاً من فيلم إيليا سليمان "يد إلهية" المليء بالإشارات والرموز مروراً بأفلام هاني أبو أسعد وعلي نصار وحنا لطيف إلياس وآن ماري جاسر ونجوى النجار وميشال خليفي، وصولاً إلى الفيلم الدرامي "الزمن الباقي" الذي حمل أيضاً توقيع المخرج إيليا سليمان. ويتناول القسم الثالث الأفلام التي أُخرجت ما بعد عام 2010، منتهياً بالفيلم الروائي الأول "الأستاذ" (2024) للمخرجة فرح نابلسي الذي عرض في "مهرجان تورنتو السينمائي".
تحت عنوان "السيرة السينمائية: التكريس للمحدوديات الاستعمارية"، يتطرق هذا القسم إلى 36 فيلماً، مبيّناً موقع كل واحد منها بالنسبة إلى فكرة المحدودية وتمثلاتها السينماتوغرافية في ما سماه البيك "الجيمات الخمسة" (الجندي والجيب والحاجز والسجن والجدار). أما الخاتمة، فيخصصها الباحث للمراجع من كتب ومجلات باللغة العربية والأجنبية، فضلاً عن لائحة بأفلام سيرة الفلسطينيين الروائية التي تقدم مسرى حياة هذا الشعب ضمن السياق التاريخي للقضية الفلسطينية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويشكل كتاب "سيرة لسينما الفلسطينيين: محدودية المساحات والشخصيات" مرجعاً لسينما الفلسطينيين وأفلامهم الروائية الطويلة منذ الانتفاضة الأولى عام 1987، مروراً بمرحلة تأسيس السلطة الفلسطينية وتوقيع اتفاقات أوسلو في التسعينيات والانتفاضة الثانية أوائل الألفية الجديدة، حتى عام 2024. لكنه لا يكتفي بتوثيق المراحل التاريخية لهذه السينما، بل يقدم لنا نقداً لكل الأفلام التي يضعها في سياقها السياسي والاجتماعي، مؤكداً استحالة فصل الحدث السياسي عن الفرد والمجتمع الفلسطيني وانعكاسه على الإنتاج الثقافي والفني.
ويمرّ الكتاب في مجمله على تاريخ 57 فيلماً روائياً، متوقفاً عند الانعطافات التي مرت بها الصناعة السينمائية الفلسطينية بسبب التغيرات السياسية والميدانية وانعكاساتها على الأفلام، كأن يصف مرحلة أوسلو بـ"انتكاسة لسينما الفلسطينيين"، أو بـ"السينما البائسة" من ناحية تصدير شخصيات القصة، على رغم بعض الجماليات التي اتصفت بها هذه الأعمال. لكنه سرعان ما يؤكد أنه بعد الانتفاضة الثانية، استعادت شخصية المقاوم الفلسطيني مكانتها في سردية أفلام هذه الفترة. وعلى رغم ذلك تبقى محدودية المساحات بحسبه هي السمة الأبرز لهذه الأفلام، فهي التي "تتحكم بالشخصيات ومساحات حركتها، بالتالي تحدّها من الوصول إلى غايتها المقصودة وذلك بسبب سياق الاستعمار".
يفتح كتاب سليم البيك باب النقاش أمام المهتمين بالسينما بصورة عامة وبالسينما الفلسطينية خصوصاً ولو أثار كمّاً من الأسئلة وطرح سؤال جدوى التأريخ الثقافي في زمن النكبات والإبادة الجماعية. ولا بد ههنا من القول إن تاريخ السينما الفلسطينية المجهول قبل نكبة عام 1948 وبعدها يجد في هذا الكتاب ضالته التي ترصد صور الإنسان الفلسطيني منذ بداية النكبة والنكسة والانتفاضات المختلفة حتى يومنا هذا، من زاوية علاقتها بالمكان، مقدماً فكرة أن البيئات الضيقة (المساحات الجغرافية والسياسية، إلخ.) تخنق الشخصيات وتكبّل تطورها الدرامي، فهي مثلها مثل الزمان، عنصر أساس في البناء الفيلمي، يعتمد عليها في رسم الشخصيات التي تتحرك فيها وتتفاعل معها وتستجيب لها وتتأثر بها، ذلك أن المكان هو دوماً في حركة أخذ وردّ مع الشخصيات الروائية وأحداثها، تتوجه بوجهته وترتبط بحركته. فهو الطاقة المحركة لها والمشكلّة للمجتمع الذي تعيش داخله والبيئة التي تتصارع للبقاء فيها.