Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الغزيون يروون مأساتهم بنفسهم في فيلم "من المسافة صفر"

يجوب شاشات العالم مخاطباً ضمائر المشاهدين وبلغ القائمة ما قبل النهائية لـ"أوسكار 2025"

"من المسافة صفر" فيلم يوثق حياة الغزاويين تحت الحصار (ملف الفيلم)

ملخص

ما عاد في الإمكان إحصاء عدد العروض التي شهدها "من المسافة صفر"، الفيلم الذي يلف العالم منذ أكثر من عام، مخاطباً ضمائر المشاهدين. هذا العمل السينمائي الذي وصل إلى القائمة ما قبل النهائية لترشيحات "أوسكار 2025"، خلق مقاومة فنية في زمن تستباح فيه غزة بالقتل والحصار والمجاعة.

مشروع أطلقه المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، جامعاً بين دفتيه 22 فيلماً قصيراً أنجزها شباب من غزة، في محاولة لتوثيق واقع يروى للمرة الأولى بأصوات أهله من دون أي وسيط. لا أحد يحكي عن الغزيين، هم من يتكلمون عن أنفسهم، يروون وجعهم ويكتبون على الشاشة فصول معاناتهم اليومية الممتدة: من القصف والدمار، إلى ومضات الأمل النادرة التي يراهنون عليها للبقاء. تتكون من هذه المشاهد بانوراما تجسد ما يعانيه أهل غزة في ظل انتهاك إنسانيتهم وكرامتهم، وعلى رغم ما قد يؤخذ على بعض الأجزاء من ضعف تنفيذي، فإن العاطفة تغلب العقل هنا، إذ لا يصح تقييم هذا المشروع بتفكيكه إلى عناصره، والأجدر استقباله ككل واحد.

تتراوح مدة هذه الأفلام بين ثلاث وست دقائق، وولدت في ظروف شديدة التباين: بعضها جاء ارتجالياً، وبعضها الآخر ثمرة تخطيط، لكن جميعها يحمل بصمة شخصية لا تخطئها العين. تنوعت الأشكال والأساليب، بين رسوم متحركة وسرد كلاسيكي وتجريب حر يتلمس حدود التعبير المفتوح، وكأننا أمام جدارية، نقش فيها كل فنان أثراً من ألمه، أو شظايا من أمله، بألوان وحروف تنتمي لتجربته.

منذ كارثة السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تبدل كل شيء. تحولت هذه البقعة الصغيرة إلى مرآة كاشفة لفوضى الرعب الذي اجتاح العالم، فيما تجاوز عدد الضحايا عتبة 50 ألفاً. وسط هذا الخراب الشامل، استدعى مشهراوي مجموعة من المخرجين الشباب ليصوغوا معاً ملحمة ناطقة بالتجربة اليومية، خالية من التجميل أو الفلاتر، تسرد من الداخل ما يحاول العالم تجاهله.

هذه المجموعة من الأفلام، التي يصح اعتبارها مشروعاً مفتوحاً أكثر منها عملاً سينمائياً تقليدياً، تتحرك بحرية بين الوثائقي المحترف وعمل الهواة، وتبني رؤية بانورامية عن غزة كما يراها أبناؤها لا كما تنقل في وسائل الإعلام ذات الأجندات والمواقف المسبقة. إنها أقرب إلى ما يمكن تسميته بـ"سينما المواطن"، استلهاماً لفكرة "صحافة المواطن" التي راجت في وقت سابق، إذ لا حاجة إلى وسيط حين يتولى أهل المكان سرد الحكاية بأنفسهم.

الصور التي اعتدنا رؤيتها في نشرات الأخبار كثيراً ما تفقد معناها بفعل التكرار، فتتحول إلى مشاهد باهتة خالية من الأثر. لكن في "من المسافة صفر"، تتحول الكاميرا إلى أداة استعادة للكرامة، تمنح الضحايا وجوهاً وأسماء وحكايات، بل ومساحة للتعبير. إنه فيلم عن الصمود اليومي، عن التمسك بالحياة وسط الركام، عن صرخات الأطفال تحت الأنقاض والماء الملوث والجوع والأمهات اللاتي يدفن أبناءهن ويكملن الحياة رغماً عن كل شيء.

رشيد مشهراوي لم يفرض رؤيته، اكتفى بدور الموجه والمشرف الفني، مانحاً المخرجين فرصة تشكيل تجاربهم كما يشاؤون. هو صاحب الكلمة الأخيرة في المونتاج، لكنه حرص على ألا تتحول هذه التجارب إلى سردية واحدة تفرغ الألم من خصوصيته. هكذا، يتحول المشروع إلى مساحة ديموقراطية نادرة، حيث لكل مخرج حدوده الخاصة من الألم، يختار بنفسه كيف يرسم ملامح نكبته مقرراً كيفية مقاومتها.

بعض الأفلام خرجت نظيفة من حيث الصورة والصوت، وبعضها الآخر يعاني ضعفاً بنيوياً، لكنها جميعاً شاهدة على ظروف تصوير قاسية، وسط أزيز القصف وظلال الخوف. وتبقى إحدى اللحظات المفصلية في هذا العمل قرار إحدى المخرجات التوقف عن التصوير، بعدما وصل إليها خبر قتل عدد من أفراد عائلتها. لحظة مؤلمة، تختبر حدود الفن حين يعجز عن مجاراة فظاعة الواقع، فنراها أمام الكاميرا تعتذر، تعلن عجزها.

لعل ما يميز "من المسافة صفر" هو مرونته العضوية، وقدرته على التشكل مع كل لحظة. لا يسعى الفيلم إلى الكمال، إنما يتصالح مع العطب، يتغذى من الفوضى. لا يخجل من الأسئلة المعلقة ولا من التردد في الخطى، إنما يحتضن كل ذلك كجزء من التجربة العامة. إنه ورشة مفتوحة على الحياة، على القهر وعلى الفن في آن معاً، تصر على قراءة الواقع بوعي حاد. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وسط الأفلام الـ22 التي لا مجال هنا لتناولها، يبرز فيلم أحمد حسونة "عذراً سينما" كوثيقة آسرة لعلاقة مشروخة بين الفنان وفنه، تنطلق من سؤال وجودي قاس: ما جدوى السينما وسط هذا الموت المحيط؟ هل يمكن للصورة أن تبقي شيئاً من الحلم حياً؟ في هذا التأرجح بين الإيمان واليأس، يكتسب الفيلم طاقته العميقة، فيغدو تأملاً في هشاشة الفن حين يصطدم بجدار الواقع.

وعلى رغم أن الكاميرا لا تتوجه مباشرة نحو الاحتلال الإسرائيلي، فحضورها لافت في كل ركام، في كل ندبة، في كل صرخة مكتومة. لا يقدم الضحية هنا ككائن مستدر للشفقة يبحث عن استعطاف، إنما كصوت يريد أن يسمع ويفهم. بعض الأفلام تتضمن نقداً ضمنياً، خجولاً ربما، لكنه موجه نحو منظومة معقدة من الأطراف التي أسهمت في تحويل غزة إلى مسرح دموي. في الختام، ليس هذا الفيلم سوى محاولة لفهم الألم وتدوين الفقد، من خلال منح الغائبين حضوراً، وجعل السينما وسيلة نجاة، حتى وإن موقتة. فيلم عن الذين عاشوا ليخبروا، وعن الذين اختفوا قبل أن تروى حكاياتهم. 

اقرأ المزيد

المزيد من سينما