ملخص
بعد 41 عاماً خلف القضبان، يعود جورج عبدالله إلى وطن لا يشبه الذي غادره. سجن في زمن البنادق العابرة للطوائف، وعاد في زمن الطوائف المتناحرة على تعريف "المقاومة".
حين اعتقل جورج عبدالله في فرنسا عام 1984، كان لبنان في ذروة حرب أهلية تشطر البلاد عمودياً. الجنوب رازح تحت الاحتلال الإسرائيلي، والعاصمة بيروت مقسمة بالمربعات الأمنية، بين ميليشيات متناحرة وأجهزة أمنية متآكلة. لم تكن الدولة اللبنانية في موقع الفاعل، بل في موقع المفعول به، في بلد تحول إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية. كانت القضية الفلسطينية هي البوصلة المركزية للشارع العربي، واليسار اللبناني في أوج حضوره النضالي، متجاوزاً الطوائف والهويات الضيقة نحو حلم أممي بالتحرر والعدالة. في هذا المناخ، سلك جورج عبدالله خيار الكفاح المسلح، مؤمناً بأن ساحة المعركة ليست فقط في الجنوب اللبناني بل في العواصم الغربية أيضاً، حيث تصاغ السياسات التي ترعى الاحتلالات.
اليوم، بعد أكثر من أربعة عقود خلف القضبان، عاد جورج عبدالله إلى لبنان، لكن أي لبنان ينتظره؟ بلد انهارت عملته، وتلاشت مؤسساته، وتبدلت تحالفاته، والتنظيمات التي تبنى عبدالله مشروعها إما حلت أو حوصرت.
في خضم هذا المشهد، يصبح السؤال مركباً: هل عاد جورج عبدالله إلى وطنه فعلاً؟ أم إلى نسخة مشوهة من الوطن الذي غادره؟ هل سيتعرف إلى بيروت كعاصمة تتسول الكهرباء؟ أم سيظل يتذكرها كميدان حرية واحتجاج؟ وهل سيجد للقضية التي ناضل لأجلها مكاناً في زمن تباد فيه غزة؟
في هذا السياق، يقول شقيق الأسير اللبناني روبير عبدالله إن "السؤال عن أي لبنان يعود إليه جورج، هو سؤال يتعذر على كثر من اللبنانيين المقيمين أنفسهم أن يجيبوا عنه، فلبنان اليوم ليس ذلك الذي عرفه شقيقي، لا جغرافياً ولا سياسياً ولا اجتماعياً. وإن كان على دراية بما جرى من تحولات، إلا أن الصورة الذهنية التي يحملها معه من زمن النضال، ستصطدم بلا شك بواقع مختلف كلياً".
المرحلة التي اعتقل فيها جورج عبدالله كان لبنان خلالها غارقاً في الحرب الأهلية، الجنوب تحت الاحتلال الإسرائيلي، والقضية الفلسطينية تشكل محور التفاعل السياسي والميداني. في تلك الحقبة، كانت الساحة اللبنانية تضج بأحزاب ذات خلفيات فكرية متباينة، يسارية ووطنية، تتخطى الحسابات الطائفية والمذهبية، وكان لجورج موقع طبيعي بين هذا النسيج العابر للطوائف. لكن الحرب انتهت على الورق، فـ"اتفاق الطائف" الذي أرسى وقف إطلاق النار، لم يعالج أسباب النزاع، بل كرس الطائفية كنظام حكم، وشرعنها في المؤسسات. النسيج العلماني الذي كانت تحلم به الحركات النضالية تراجع، ليحل مكانه نظام زبائني طائفي عزز الانقسام، ونسف ما تبقى من فكرة الدولة.
بالنسبة إلى روبير، فإن لبنان الذي سيعود إليه شقيقه "هو بلد يتخبط في أزمات اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة، وانهيارات يومية في كل القطاعات، وتفكك متصاعد في البنية الوطنية الجامعة"، وأضاف "حتى أنا المقيم في البلاد، أجد صعوبة في فهم الواقع الراهن، فكيف بمن عاش أكثر من 30 عاماً خارج الزمن اللبناني؟".
وحول مستقبل جورج عبدالله وما إذا كان سيعود إلى العمل النضالي، رأى روبير أن "الأسير حين يتحرر، يعيد قراءة الواقع، وقد يعيد بناء خياراته تبعاً لما يراه ويتلمسه. لا يمكن لأحد أن يتحدث باسمه في هذا الشأن، فالتجربة الشخصية حين تخرج من السجن، تختلف كلياً عما سبقها". أما عن رمزية التوقيت فيقول "لا تعليق واضحاً لدي، لكن الأكيد أن الأوضاع في المنطقة برمتها لم تعد تحتمل مزيداً من الانهيار. الاعتداءات والضغوط والانقسامات لم تعد تطاول جماعة من دون غيرها، بل باتت تهدد الجميع. هناك شعور جماعي بالقلق، يتقاسمه المسيسون وغير المسيسين على حد سواء"، وختم روبير عبدالله حديثه قائلاً "جورج عبدالله، الذي كان رمزاً لمرحلة نضالية عابرة للجغرافيا والطوائف، يعود اليوم إلى وطن يبحث عن رموزه، عن دولته، وعن نفسه في زمن التيه الجماعي".
انقسام عمودي منذ السبعينيات
في العودة إلى التاريخ اللبناني، قال المؤرخ اللبناني عماد مراد إن "الشرخ بين اللبنانيين بدأ يترسخ بصورة واضحة منذ عام 1975، حين انقسم المجتمع إلى فريقين: الأول مؤيد للسلاح الفلسطيني، والثاني معارض له ولكل تدخل فلسطيني في الشأن اللبناني"، مشيراً إلى أن "السلاح الفلسطيني تم تشريعه فعلياً في لبنان عبر اتفاق القاهرة عام 1969، مما ولد انقساماً سياسياً وشعبياً حاداً، وخصوصاً داخل الشارع المسيحي، الذي رفض بغالبيته هذا الوجود المسلح على الأرض اللبنانية"، وتابع مراد "على رغم هذا الانقسام، برزت شخصيات وتيارات مسيحية، وإن كانت محدودة العدد، ساندت القضية الفلسطينية وشاركت فعلياً في صفوف المقاومة"، مشيراً إلى أن "جورج عبدالله كان من أبرز هؤلاء، وهو ماروني من بلدة القبيات الشمالية، اختار أن يناضل من خارج الاصطفاف الطائفي، مؤمناً بقضية شعب سلبت أرضه ويضطهد يومياً". وأضاف "كان عبدالله جزءاً من نسيج يساري متعدد الطوائف، استخدم ما اكتسبه من معرفة في الجامعات ليخوض معركته ضد الاحتلال الإسرائيلي، سواء في الداخل أو في الخارج، خصوصاً في أوروبا حيث قرر مواجهة إسرائيل وحلفائها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فترة نشاط جورج عبدالله
عن فترة نشاط عبدالله، أشار مراد إلى أنها "تزامنت مع توقيع اتفاق الـ17 من مايو (أيار) بين لبنان وإسرائيل، بعد اغتيال بشير الجميل (رئيس جمهورية سابق)، وهو الاتفاق الذي فجر غضب الشارع اللبناني المسلم واليساري، وأسهم في إسقاطها لاحقاً"، وأوضح أن "عبدالله كان يرى أن الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل هو السبب الرئيس في استمرار احتلال فلسطين، فقرر نقل المواجهة إلى الساحة الأوروبية، حيث أسس تنظيماً يسارياً ونفذ عمليات نوعية ضد أهداف إسرائيلية وأميركية"، وأشار مراد إلى أن "الشارع المسيحي، بصورة خاصة الأحزاب الكبرى، كالقوات اللبنانية والكتائب والأحرار، نظر إلى عبدالله ومن هم على شاكلته كخونة للكيان اللبناني، لا سيما بعد اغتيال بشير الجميل عام 1982 على يد أحد عناصر الحزب السوري القومي الاجتماعي"، وقال أيضاً "بدا التخوين متبادلاً بين الطرفين، فاليسار المؤيد للسلاح الفلسطيني كان يرى في القوى المسيحية عملاء لإسرائيل، فيما كانت هذه القوى تعتبر أن كل يساري، خصوصاً المسيحي منهم، هو خائن للهوية والتاريخ".
دعم السلاح الفلسطيني بين المسلمين والدروز
أضاف مراد "في المقابل، كان الشارع المسلم، ومعه شريحة كبيرة من الدروز، يدعم القضية الفلسطينية من منطلقين: الأول إنساني، والثاني سياسي. فبعضهم رأى في دعم الفلسطينيين فعلاً أخلاقياً، واعتبر آخرون أن السلاح الفلسطيني يشكل فرصة للانتقام من المارونية السياسية التي حكمت لبنان عقوداً"، موضحاً أن "بعض المسيحيين الذين انضموا إلى الحراك الفلسطيني فعلوا ذلك عن قناعة عقائدية يسارية، وليس فقط كرد فعل طبقي أو سياسي"، وقال مراد "عبدالله، الذي تعرض لإصابة خلال الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، أسس تنظيماً يسارياً في فرنسا، نفذ عمليات أمنية استهدفت دبلوماسيين إسرائيليين وأميركيين"، مشيراً إلى أن "عدد هذه العمليات غير معروف بدقة، ولا تزال طبيعة نشاط التنظيم غامضة، خصوصاً بعد اعتقاله عام 1984"، ولفت إلى أنه "في عام 1987، صدر الحكم عليه بالسجن المؤبد. وعلى رغم صدور قرارات قضائية بالإفراج عنه لاحقاً، فإن الضغوط الأميركية حالت دون تنفيذها، مما حول قضيته إلى ملف سياسي بامتياز".
لبنان تغير... وأوراق المعركة تبدلت
وعن الوطن الذي يعود إليه جورج عبدالله اليوم، قال مراد "لا يشبه لبنان الثمانينيات. الاحتلال الإسرائيلي انسحب من الجنوب عام 2000، والجيش السوري انسحب عام 2005، والأحزاب سلمت سلاحها"، وتابع "عبدالله سيكتشف أن المقاومة كما عرفها لم تعد موجودة، بل أصبحت محاصرة سياسياً وشعبياً.
وتابع مراد "المشهد الذي سيصدم عبدالله هو غياب الفعل المقاوم الحقيقي. في لبنان، لم تعد المقاومة تحظى بالإجماع، بل باتت موضع انقسام، حتى داخل الطائفة الشيعية، فيما يطالب معظم اللبنانيين اليوم بتسليم سلاح ’حزب الله‘"، موضحاً أن "المجتمع اللبناني اليوم مختلف تماماً، فبينما كان منقسماً في السابق بين مؤيد للسلاح الفلسطيني ومعارض له، بات هناك تيار واسع من السنة والدروز والمسيحيين يرفضون أي سلاح خارج سلطة الدولة".
وختم مراد حديثه بالقول "عودة جورج عبدالله ستبقى رمزية في جوهرها. هو مناضل صمد 41 عاماً خلف القضبان من أجل قضية آمن بها، لكنه يعود إلى مشهد لا يشبه زمن النضال. اليوم تباد غزة، وتقصف الضاحية، وتخترق سوريا، ولا أحد يرد. لذلك فإن عودة جورج عبدالله لا تحمل دلالات استراتيجية".