ملخص
منذ نهاية التسعينيات، اقترح الثنائي جوانا حاجي توما وخليل جريج تجربة مغايرة في المشهد السينمائي اللبناني. انطلقت أعمالهما من تقاطع بين التجربة الشخصية والسياقات العامة.
جمعت سينما الزوجين المولودين في نهاية الستينيات، الوثائقي بالروائي، الواقع بالخيال، ضمن ما يمكن اعتباره بحثاً دائماً عن أثر الذاكرة الفردية والجماعية في الواقع اللبناني. اشتهرا باهتمامهما العميق بالأرشيف وبالقدرة على تحويل عناصر من الماضي إلى أسئلة ملحة، لتصبح الذاكرة معها مساحة للمساءلة أكثر منها سرداً. في أفلامهما التي بلغ عددها 12 بين قصير وطويل، روائي ووثائقي، ربطت بين وسائط عدة، مما منح أعمالهما سمة تركيبية متعددة الأبعاد. ومع أنها متجذرة في السياق اللبناني، فإن هذه السينما تخطت الحدود المحلية من خلال طرح أسئلة كونية عن الانتماء والهوية.
حازت أفلامهما على جوائز، وعُرضت في أكبر المهرجانات من "كان" إلى برلين، فمؤسسات عالمية مرموقة مثل متحف الفن الحديث في نيويورك أو مركز بومبيدو في باريس. وها هي أربعة من أهم أعمالهما تحط حالياً في مجمع ”متروبوليس“ البيروتي، بعد بضعة أشهر من تكريهما في مهرجان الجونة الأخير .
في "يومٌ آخر" (2005) يأتي المخرجان بصورة واقعية لبيروت ما بعد الحرب، مدينة تعيش في تناقض مؤلم بين الرغبة في النسيان والحاجة إلى صون الذاكرة. نكون في مواجهة مع تفاصيل الحياة اليومية التي يطغى عليها الانتظار في ظل الانفصال بين الفرد والمجتمع. يركز الفيلم على شخصيتين: مالك (زياد سعد)، الشاب الحائر الذي يحاول المصالحة مع ماضيه العاطفي، ووالدته كلوديا (جوليا قصار)، التي تتخذ قراراً بإنهاء الانتظار الطويل عبر إعلان وفاة زوجها المفقود. هذا القرار يشكل بداية رحلة نفسية تعكس عمق الحزن المرتبط بالفقد والغياب.
بيروت في الفيلم أكثر من خلفية، إنها كيان حي مأزوم. نراها تندفع بسرعة نحو العولمة، بينما سكانها لا يزالون عالقين في تبعات الحرب. إيقاع المدينة لا يتماشى مع إيقاع البشر، الأمر الذي يخلق فجوة وجودية عميقة. يجسد مالك هذا التوتر عبر نوبات انقطاع التنفس التي يعانيها. اللغة السينمائية تعتمد على الصورة والتفاصيل أكثر من الحوار، إذ يُختزل الكلام إلى حده الأدنى، تعبيراً عن فشل التواصل الإنساني. هذا فيلم عن الغياب، الانتظار… عن استحالة التصالح السريع مع الماضي، وهشاشة الإنسان أمام مجتمع يفرض النسيان قسراً .
في مهرجان "كان"
مع "بدي شوف" الذي حمل حاجي توما وجريج إلى مهرجان "كان"، تطرقا إلى تجربة وُلدت من سياق سياسي وإنساني بالغ التعقيد: حرب (يوليو) تموز 2006 وما تبعها من صدمة جماعية في لبنان. انطلق المشروع كفيلم قصير، لكنه تطور إلى شريط طويل، مدفوعاً بالرغبة في تسجيل الأثر النفسي والاجتماعي للحرب التي شنتها إسرائيل على "حزب الله". غير أن هذا التحول لم يخلُ من بعض التعثرات. يتمحور الفيلم على زيارة الممثلة الفرنسية كاترين دونوف إلى بيروت بعد وقف العدوان، وترافق الممثل ربيع مروة في رحلة إلى الجنوب، تحديداً إلى بلدة بنت جبيل، لزيارة منزل جدته الذي تضرر بسبب الحرب.
الرحلة تتحول إلى مساحة تأملية، لكن الانتقال بين المشاهد يغلب عليه الطابع السياحي والاستعراضي، مما يجعل الخطاب السياسي للفيلم يبدو مبتوراً في بعض الأحيان. الحوار في الفيلم يتسم بالبساطة، بل يكاد يلامس السطحية، كما في تكرار نكتة حزام الأمان التي تُستعمل كمجاز للفروق الثقافية بين الضيف الأجنبي والمواطن، لكنها تفقد شيئاً من تأثيرها بفعل التكرار الزائد. أداء دونوف يوصف بالبرود، إذ لا تظهر علامات الاندهاش أو الانفعال أمام الخراب، فيُقابله البعض كخيار مقصود يعكس لا مبالاة العالم الخارجي تجاه مآسي المنطقة، بينما يراه آخرون افتقاراً إلى الحيوية والتفاعل.
في "النادي اللبناني للصواريخ" (2013)، يعود الثنائي إلى لحظة منسية من تاريخ لبنان: مشروع علمي فضائي في الستينيات، قاده طلاب من جامعة هايكازيان تحت إشراف الأستاذ مانوغ مانوغيان، بهدف إطلاق صواريخ لأغراض بحثية. هذا الحدث، الذي اختفى بفعل "ألزهايمر جماعي" سياسي وشعبي، شكل للمخرجَين مادة سينمائية خصبة للمساءلة حول الذاكرة، موضوعهما المفضل. في حقبة كانت البلاد تعيش فيها تغييرات سياسية كبرى، استطاع هؤلاء الشباب، بإمكانات محدودة، بناء صواريخ بلغ مدى أحدها 600 كيلومتر.
لكن المشروع اصطدم سريعاً بقيود سياسية ودولية، بخاصة بعد حادثة سقوط أحد الصواريخ في قبرص، مما أدى إلى إيقافه، ورحيل مانوغيان إلى الولايات المتحدة. تلك النهاية، التي تزامنت مع نكسة 1967، تُقرأ كرمز لانهيار الحلم العربي. انطلاقاً من سرد هذه التجربة، يحولها الفيلم إلى مرآة للحاضر. يتنقل الفيلم بين الوثائقي والروائي بسلاسة، مستخدماً أدوات التجريب، ومنها إعادة تصنيع نموذج لصاروخ ونقله إلى الجامعة، كفعل رمزي لمقاومة النسيان. يمتاز العمل بابتعاده عن الخطاب الوطني السطحي، ليقدم قراءة نقدية لأيديولوجيات الستينيات، ولصراع الفرد مع محيطه. إنه امتداد طبيعي لمسار حاجي توما وجريج، في استخدام السينما أداة لصون الذاكرة .
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كان من المتوقع أن يفتتح "دفاتر مايا" مهرجان برلين 2021 لولا تفشي جائحة "كوفيد-19" التي حالت دون تنظيم دورة حضورية، فقرر على أثرها المنظمون أن ينتقلوا بالطبعة إلى الفضاء الافتراضي. فرصة ضائعة ككثير من الفرص التي أضاعتها السينما اللبنانية، وعلى رغم ذلك يبقى "دفاتر مايا"، أحد أجمل أفلام الثنائي. نحن حيال عمل يحمل مضامين شخصية، ينطلق من طرد مليء بالوثائق والرسائل التي كتبتها مايا في مراهقتها خلال الحرب الأهلية، فيصبح وسيلة لإعادة فتح جراح قديمة ظنت أنها طُويت. يركز العمل على العلاقة بين ثلاثة أجيال نسائية (الجدة - كليمانس صباغ، الأم - ريم تركي/ منال عيسى، الحفيدة - بالوما فوتييه) في تعاطيهن مع الماضي: الجدة ترفض الماضي، الأم تتردد، والحفيدة تتبناه بحماسة. هذه المقاربة تُبرز صراعاً بين الماضي المثقل بالعنف والحاضر المشوش. مرة جديدة، يلعب الفيلم بذكاء على التداخل بين الروائي والوثائقي، في سياق يؤكد فيه أن الحرب لا تنتهي عند وقف إطلاق النار، بل تواصل تمزيق الأرواح، سواء من خلال الصمت أو الذكريات أو حتى الغياب. في الخلفية، يظهر سؤال كبير: كيف تنتقل آثار الحرب من جيل إلى آخر؟ وفي قلب هذه الأسئلة، يضع "دفاتر مايا" صورة عن لبنان المتقلب، حيث الإعمار يسبق أحياناً الانفجار التالي.