ملخص
عملت إيران على تعزيز تجارتها عبر الحدود مع شمال العراق، مستغلة التعقيدات الأمنية وتحالفها مع بعض القوى الكردية. وتكشف تقارير بريطانية أن جلال طالباني، زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني، توصل إلى اتفاق مع طهران، يسمح بزيادة حركة الشاحنات مقابل منح إيران وجوداً أمنياً في مناطق الأكراد
بعد سبع سنوات من انتهاء الحرب العراقية- الإيرانية (1980 - 1988) وقبول إيران بوقف إطلاق النار، كان يُفترض أن تلتزم طهران بالسلام وعدم التدخل في شؤون جيرانها. إلا أن التقارير الدبلوماسية تكشف عكس ذلك، إذ لجأت إيران إلى وسيلة جديدة لبسط نفوذها في المنطقة من خلال دعم ميليشيات "فيلق بدر"، الذراع العسكرية للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، التي تتألف من عراقيين هربوا إلى إيران خلال الحرب.
جاء في تقرير للسفارة البريطانية بأنقرة مؤرخ في 28 ديسمبر (كانون الأول) 1995، "شمال العراق: فيلق بدر، أرفق لكم مقتطفاً من صحيفة تركية تُفيد برسالة من الرئيس الإيراني رفسنجاني إلى الرئيس ديميريل يُؤكد فيها أن الإيرانيين لن يُحركوا قوات بدر إلى شمال العراق. سأناقش هذا الأمر مع كورو تورك (أستراليا، الشرق الأوسط، وزارة الخارجية) عندما أزوره الأسبوع المقبل".
وعلى رغم النفي الإيراني الرسمي، فإن الشهادات والوقائع كانت تؤكد غير ذلك، ما يكشف عن سياسة إيرانية مستمرة في استغلال الميليشيات لتحقيق أهداف جيوسياسية.
الحضور الأمني والعسكري الإيراني تحت غطاء دبلوماسي
تكشف الرسائل الدبلوماسية العائدة لعام 1995 عن أن إيران لم تكتف بالدعم السياسي أو المالي، بل دفعت بميليشياتها إلى داخل الأراضي العراقية. وقد نقلت وسائل إعلام تركية بما فيها صحيفة Turkish Daily News عن لقاءات دبلوماسية بين إيران وتركيا، وأن القوات الإيرانية عبرت الحدود إلى شمال العراق في أكتوبر (تشرين الأول) ونوفمبر (تشرين الثاني) عام 1995، لكن بعد محادثات السلام التي رعتها الولايات المتحدة منتصف نوفمبر، بدأت "قوات بدر" في المغادرة تدريجياً.
وعبّرت تركيا حينها عن قلقها الشديد من توسع نفوذ إيران في شمال العراق، بخاصة من خلال نشاط ميليشيات بدر التي ترتبط بإيران، لأنها تخشى أن يؤدي ذلك إلى تهديد أمني مباشر على حدودها الجنوبية. أنقرة تعتبر وجود هذه القوات في المناطق الكردية والعربية شمال العراق محاولة لإعادة تشكيل النفوذ السياسي والعسكري في المنطقة لمصلحة طهران، مما قد يزعزع الاستقرار ويؤثر سلباً في مصالح تركيا.
الرئيس التركي سليمان ديميريل خلال لقائه مع هاشمي رفسنجاني شدد على ضرورة الحفاظ على وحدة العراق وسلامة أراضيه، مع موقف تركي واضح بعدم قبول أي تدخلات عسكرية أو نفوذ إيراني يتجاوز حدوداً معينة. تركيا تريد ضمان عدم استخدام الأراضي العراقية كمنصة لتهديد مصالحها أو دعم جماعات كردية أو إيرانية تعتبرها معادية.
وكانت إيران، عبر تصريحات رفسنجاني ونائب وزير الخارجية، تحاول طمأنة تركيا بأن وجود ميليشيات بدر ليس توسعياً أو تهديداً، بل هو محدود ورمزي، وأن طهران تسعى إلى استقرار العراق لا زعزعة أمنه أو أمن جيرانه.
يُجسّد الاتفاق التركي- الإيراني بشأن ضرورة انسحاب القوات الأجنبية غير الإقليمية، في إشارة ضمنية إلى قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، تقاطع مصالح البلدين في السعي إلى الحد من تأثير القوى الخارجية، التي من شأن وجودها أن يفاقم تعقيدات المشهد الأمني والسياسي في شمال العراق.
إيران و"فيلق بدر" في خفايا الصراع الكردي
أكد تقرير سري مرسل من السفارة البريطانية في طهران إلى مرجعيتها في لندن بتاريخ 12 نوفمبر 1995 التدخل الإيراني في شمال العراق، جاء في التقرير: "الموضوع: التدخل الإيراني في شمال العراق (إشارة إلى برقية أنقرة رقم 486)".
أعلن "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق عبر وكالة الأنباء المحلية أنهم نشروا أخيراً عدداً من المراقبين في شمال العراق، وذلك متابعة للمحادثات التي جرت الشهر الماضي في طهران بين الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني. وأفادوا بأن هؤلاء المراقبين سيسهمون في مراقبة وقف إطلاق النار بين الفصائل الكردية وتعزيزه".
لكن السفارة البريطانية في طهران لم تكن مقتنعة برواية المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، معتبرة أن الرواية صِيغت من قبل الإيرانيين، وذلك لإبعاد تهمة التدخل الايراني المباشر في الأراضي العراقية عن طهران. جاء في تعليق السفارة حول رواية المجلس الأعلى ما نصه: "يبدو أن هذه الخطوة محاولة لاحقة من قبل المجلس الأعلى، على الأرجح بتوجيه إيراني، للرد على التقارير التي تحدثت عن انتشار جديد لعناصر من فيلق بدر في شمال العراق."
وعلى رغم هذه التبريرات، كان واضحاً أن هؤلاء "المراقبين" ليسوا سوى عناصر ميليشياوية تهدف إلى تثبيت النفوذ الإيراني العسكري في شمال العراق.
شحنات غامضة وقلق بريطاني أميركي من الدور الإيراني
عملت إيران على تعزيز تجارتها عبر الحدود مع شمال العراق، مستغلة التعقيدات الأمنية وتحالفها مع بعض القوى الكردية. وتكشف تقارير بريطانية أن جلال طالباني، زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني، توصل إلى اتفاق مع طهران، يسمح بزيادة حركة الشاحنات مقابل منح إيران وجوداً أمنياً في مناطق الأكراد.
في نهاية عام 1995، انتشرت تقارير أميركية تتحدث عن حركة كثيفة للشاحنات بين إيران وشمال العراق، وهو ما أثار قلق بريطانيا، ودفع وزارة الخارجية البريطانية إلى إرسال رسالة في الأول من ديسمبر 1995 إلى سفارتها في أنقرة، تتضمن عدة استفسارات تتعلق بطبيعة البضائع المنقولة عبر الشاحنات والجهات المستفيدة منها، إضافة إلى متوسط حمولة الشاحنات ومدى نقلها للبضائع في الاتجاهين، كذلك تتناول حجم البضائع التي تدخل مناطق الحكومة العراقية ومدى تنظيم التجارة عبر المعابر، والعدد الفعلي اليومي لحركة المرور استناداً إلى صور المراقبة وليس إلى إحصاءات دقيقة، كذلك تطرح تساؤلات عن وجود أدلة على استخدام المعابر لنقل البضائع بين إقليم كردستان والحكومة العراقية وحجم الإيرادات التي تحققها السلطات الكردية من هذه التجارة مع الاستفسار عن القيود التي تفرضها سلطات الإقليم على نوعية البضائع المسموح بها وردود فعل إيران تجاه هذا الوضع مع التساؤل عن احتمالات فتح المعابر الجنوبية في المستقبل القريب.
"الموضوع: حركة عبور الشاحنات من إيران إلى المناطق الكردية شمال العراق: تفيد التقارير الأميركية بحدوث ارتفاع حاد في حركة الشاحنات العابرة من إيران إلى المناطق الخاضعة لسيطرة الأكراد شمال العراق منذ الصيف.
وتُظهر البيانات أن متوسط عدد الشاحنات العابرة منذ منتصف أكتوبر بلغ نحو 190 شاحنة يومياً، مع رقم مشابه عند معبر بانجوين، إضافة إلى نشاط ملحوظ في معابر أخرى. معظم هذه الشاحنات ذات هيكل مفرد، بحمولة تتراوح بين 5 إلى 10 أطنان، فيما يُشكّل نحو 5 في المئة منها شاحنات مفصلية (ناقلة ثقيلة) قادرة على حمل ما يصل إلى 40 طناً، بخاصة عند معبر بانه.
وبحسابات نظرية، قد تصل القدرة السنوية لكل معبر إلى نحو 650 ألف طن. مع ذلك، هذا الرقم مبالغ فيه للغاية، إذ يفترض امتلاء الشاحنات دائماً، ويتجاهل الإجراءات الحدودية، والتحميل اليدوي أحياناً، وسوء حالة الطرق المحلية. وعلى رغم المبالغة، تظل هذه المعابر ذات أهمية اقتصادية للعراق، بخاصة إذا طُبقت قيود على طريق الأردن.
الإيرانيون يعملون على تحسين المرافق عند هذه المعابر، لاستيعاب الزيادة في حركة المرور. فقد أُنجزت إصلاحات على الجسور وطُرق الوصول إلى بانجوين في أغسطس (آب)، مع استمرار أعمال أخرى حتى أوائل نوفمبر، تزامناً مع مشاريع مشابهة في بانه بين أغسطس وأكتوبر.
كذلك جرى تطوير معابر ثانوية، مثل معبر رانية، حيث لوحظ في 29 أغسطس وجود أكثر من 45 آلية بناء (جرافات، ورافعات أمامية، وغيرها)، كما سُجلت أعمال صيانة في معبر حلبجة بتاريخ 22 سبتمبر (أيلول)، بعد إغلاقه منذ 1993، وأُعيد فتحه لحركة المرور بحلول 17 أكتوبر.
يُرجّح أن معظم البضائع العابرة مواد غذائية ومساعدات إنسانية، موجهة إلى الأكراد والمنظمات غير الحكومية العاملة في الشمال، لكن جزءاً منها يصل أيضاً إلى مناطق الحكومة العراقية. كذلك، هناك ازدياد في حجم البضائع المستوردة من إيران من مصادر خارجية، التي يُعاد بيعها داخل العراق، بما في ذلك الآلات والإطارات.
أما الصادرات، فهي محدودة نسبياً، وتقتصر غالباً على الأسمنت والأسمدة الآتية من مناطق الحكومة العراقية. سُجل وجود قليل جداً لناقلات النفط عند هذه المعابر، ما يشير إلى أن صادرات النفط عبر هذا الطريق شبه معدومة. وتشير المقارنات مع معبر الخابور الحدودي مع تركيا إلى أن الأكراد يجنون دخلاً مهماً من رسوم عبور الشاحنات، فيما تستخدم إيران أحياناً إغلاق المعابر كوسيلة للضغط السياسي على الجماعات المسيطرة.
اتفاقات طالباني وطهران تحت المجهر الغربي
جاء في تقرير دبلوماسي مؤرخ في 5 ديسمبر 1995 مرسل من قبل السفارة البريطانية في أنقرة إلى مرجعيتها في لندن: "الموضوع: حركة عبور الشاحنات عبر الحدود الشمالية العراقية– الإيرانية: شهدت الأشهر الأخيرة زيادة ملحوظة في حركة الشاحنات عبر الحدود الشمالية بين العراق وإيران، نتيجة مباشرة للاتفاقات بين جلال طالباني والحكومة الإيرانية.
ففي مقابل تخفيف القيود على حركة الحدود، سمح طالباني للإيرانيين بتعزيز حضورهم في المناطق الخاضعة لسيطرة الاتحاد الوطني الكردستاني بشمال العراق. وقد جاءت هذه الترتيبات مفيدة لكلا الطرفين: طالباني حصل على موارد مالية هو في أمسّ الحاجة إليها، عبر الضرائب المفروضة على عبور الشاحنات، فيما عزز الإيرانيون نفوذهم في المنطقة. ويُعد عبور قوات بدر للحدود في شهري أكتوبر ونوفمبر أبرز مؤشر على هذا التنسيق.
إلا أنه بعد محادثات السلام التي رعتها الولايات المتحدة منتصف نوفمبر، ظهرت مؤشرات على محاولة طالباني النأي بنفسه عن الإيرانيين، إذ غادرت غالبية "قوات بدر"، كما بدأ الاتحاد الوطني الكردستاني في تقييد أنشطة الأجهزة الاستخباراتية الإيرانية بالمنطقة.
ردود على استفساراتكم بالتفصيل:
أ) الشاحنات تنقل أساساً مساعدات إنسانية وسلعاً استهلاكية إلى شمال العراق، بينما تنقل في رحلة العودة مواد بناء، خصوصاً الإسمنت من معامل السليمانية الحديثة.
ب) غالبية الشاحنات محمّلة بالكامل في كلا الاتجاهين، مع بعض الاستثناءات، بخاصة في الرحلات العائدة إلى إيران.
ج) معظم هذه الشحنات تُباع في السليمانية، وهي المدينة الأكثر نشاطاً اقتصادياً في المناطق الكردية، ولا تصل إلا كميات ضئيلة إلى مناطق الحكومة العراقية.
د) التجارة تجري بتنظيم عالٍ، كجزء من اتفاق طالباني- طهران.
هـ) بخلاف معبر الخابور، حيث تتوافر بيانات دقيقة من هيئة تنسيق الحدود، لا يمكن تحديد الأعداد بدقة هنا، لكن تقديرات المنظمات غير الحكومية تشير إلى نحو 250 شاحنة يومياً في كلا الاتجاهين.
و) على رغم وصول كميات ضئيلة إلى مناطق الحكومة العراقية (راجع النقطة ج)، لا يُعرف عن دخول أي شحنات أخرى من هذا النوع، ولا يوجد دليل على تهريب الأسلحة حتى الآن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ز) وفقاً لمصادر المنظمات غير الحكومية، تُفرض رسوم عبور قدرها نحو 10 دولارات أميركية على كل شاحنة في كل اتجاه.
ح) لا تُفرض قيود على حركة البضائع، باستثناء ما قد يتعلق بتهريب الأسلحة، الذي يُتوقع أن يكون خاضعاً لمراقبة مشددة.
ط) راجع التفاصيل في خلفية التقرير أعلاه.
ي) هناك مستوى عالٍ من التنسيق الحدودي بين بغداد وطهران جنوب خط ترسيم الحدود. ومع ذلك، إذا استمر اتفاق السلام الذي ترعاه الولايات المتحدة، يُتوقع تراجع حركة العبور الإيرانية في المناطق الكردية".
لم تقتصر التجارة على البضائع المدنية في تلك الحقبة فحسب، بل شملت أيضاً التنسيق العسكري والأمني، إذ أُجيز لفيلق بدر وجود رمزي دائم، وقدّمت تسهيلات لوجستية للميليشيات. تعكس هذه الخطوة مدى التواطؤ العميق بين طهران والسليمانية من جهة، وميليشيات فيلق بدر والاتحاد الوطني الكردستاني من جهة أخرى.