ملخص
ولم يمنع ظهور حزب ثالث فاعل وقوي من وجود استثناءات في التاريخ السياسي الأميركي حقق فيها مرشحون من خارج الحزبين الديمقراطي والجمهوري أدواراً انتخابية بارزة، لا سيما على صعيد السباق نحو البيت الأبيض، كما حدث عام 1865 حين حصل ميلارد فيلمور (الحزب الأميركي) على 21.5 في المئة من الأصوات، وعام 1968 حين حصل جورج والاس (حزب المستقلين الأميركيين) على 13.5 في المئة من الأصوات، وأخيراً عام 1992 حين حصل روس بيرو (مرشح مستقل) على 19 في المئة من الأصوات، فهل يتمكن الملياردير الأميركي إيلون ماسك بقدرته المالية الضخمة من إحياء "المسار الثالث" المتعثر في السياسة الأميركية.
فتح إعلان الملياردير الأميركي ومالك شركتي "تيسلا" و"سبيس إكس" إيلون ماسك عن تأسيس حزب جديد تحت اسم "حزب أميركيا" باب الجدل مجدداً في الحياة السياسية بالولايات المتحدة حول قدرة ديمقراطيتها على رغم رسوخها على استيعاب حزب ثالث أو التحول نحو "تعددية حزبية" فاعلة، كما هي الحال في النماذج الغربية الأخرى، مستعيداً بخطوته تلك عشرات المحاولات والتجارب الحزبية السابقة التي لم تصل إلى وجهتها النهائية في خلق ما بات يعرف أميركا بـ"المسار الثالث"، حيث طموحات وآمال قديمة متجددة لتوسيع رقعة الأحزاب الفاعلة في البلاد واجتذاب شرائح الناخبين الكبيرة المتململة من سطوة الحزبين (الجمهوري والديمقراطي) على المشهد السياسي.
فحزب ماسك الذي جاء بهدف "استعادة حرية الأميركيين"، على حد وصف مؤسسه، لم يكن المرة الأولى وإن اختلفت السياقات والظروف التي تشهدها الولايات المتحدة لمحاولات تأسيس أحزاب جديدة، والتي تعود إرهاصاتها الأولى إلى الربع الأول من القرن الـ19، فيما كان آخر حلقاتها على يد أندرو يانغ، المرشح الديمقراطي السابق للانتخابات الرئاسة التمهيدية، حين أعلن في يوليو (تموز) 2022 بالتعاون مع الحاكمة الجمهورية السابقة لولاية نيوجيرسي كريستين تود ويتمان عن تدشين حزب جديد حمل اسم "فورورد" (إلى الأمام)، إلا أنه سرعان ما خفت أمام هيمنة ما يعرف اصطلاحاً بنموذج "الثنائية الحزبية".
كيف هيمن الحزبان الكبيران في الولايات المتحدة الأميركية على الحياة السياسية في البلاد؟ ولماذا فشلت غالبية المحاولات السابقة في تأسيس أو خلق "مسار ثالث" إرادة ورغبة المواطن الأميركي المتزايدة، وفق ما تظهره استطلاعات الرأي الكبرى، لا سيما في السنوات الأخيرة، في وجود حزب ثالث قادر على المنافسة والحضور في المؤسسات السياسية؟ وإلى أي مدى سيتمكن ماسك، قطب التكنولوجيا الأبرز في العالم، بقدرته المالية الضخمة في تجاوز ما فشل فيه الآخرون؟ أسئلة عدة هيمنت على المشهد مع إعلان ماسك "ولادة حزب جديد"، استجاب فيه لنتائج استطلاع نشره على منصته على "إكس"، وأظهر أن "بنسبة اثنين إلى واحد، يريدون حزباً سياسياً جديداً"، بعدما أجاب بـ"نعم" نحو 65 في المئة من نحو 1.2 مليون مشار على سؤال حول ما إذا كانوا يرغبون في تأسيس "حزب أميركا".
قصة هيمنة الحزبين الكبيرين
منذ تأسيس الولايات المتحدة الأميركية تهيمن على البلاد ظاهرة "الثنائية الحزبية" بصورة رئيسة، وتعود في ذلك، وفق ما يرجعه المؤرخون والكتاب، للتباين في الرؤى والخلاف حول شكل الدولة ودور وحدود فيدرالية ومركزية النظام السياسي في البلاد.
ففي كتابه "منقسمة بعمق: السياسة العنصرية والحركات الاجتماعية في أميركا ما بعد الحرب" (منشور عام 2014) يقول المتخصص في علم الاجتماع في جامعة ستانفورد دوق ماكادم والباحثة كارينا كلوس إن بدايات الحزبية في الولايات المتحدة تعود لـ"فترة الصراع في المستعمرات في مرحلة ما قبل الاستقلال عام 1776 بين المؤيدين للمصالح البريطانية الذين عرفوا بالمحافظين، وبين أنصار الحكم الذاتي وسُمُّوا الأحرار"، مشيراً إلى أنه "بعد الاستقلال (عام 1776) ظهر الصراع بين الاتحاديين ومعارضيهم المنادين بالحكم الذاتي"، موضحاً أنه "في فترة الرئاسة الأولى للرئيس المؤسس جورج واشنطن برز الصراع في صورة تحزب حين تزعم ألكسندر هاملتون (عسكري أميركي وأول وزير خزانة عرفته البلاد) ومعه جورج واشنطن (أحد الآباء المؤسسين) الاتجاه نحو الاتحادية (المركزية الفيدرالية) لحماية أصحاب الملاك، في حين تزعم توماس جيفرسون (مؤسس الحزب الجمهوري القديم الذي سمي بالديمقراطي عام 1828 وبقي حتى الآن) الاتجاه المعارض للاتحادية، والمؤكد على أنصار حقوق الفرد، وتحول حزب واشنطن وهاملتون الداعي إلى الاتحادية عام 1830 إلى حزب الأحرار قبل أن يتغير اسمه عام 1854 إلى الحزب الجمهوري". ووفق ماكادم وكلوس كان لـ"الحزب الديمقراطي قاعدة واسعة في ولايات الجنوب الأميركية بين البيض، التي أسهم في ترسيخها كراهية الجنوبيين البيض للحزب الجمهوري كونه الحزب الذي قاد جيش الشمال ضد الولايات الجنوبية المنفصلة خلال الحرب الأهلية".
من جانبه كتب ماثيو ليفندوسك في مؤلفه المنشور 2009، بعنوان "النوع الحزبي: كيف أصبح الليبراليون ديمقراطيين والمحافظون جمهوريين"، أن "الحزب الديمقراطي ورمزه الحمار في بداية نشأته دأب على معارضة تمركز السلطة بيد الحكومة الاتحادية وحماية المصالح الزراعية والدفاع عنها"، مضيفاً "شكَّل الحزب في ما بعد دعامة أساسية لمعظم التيارات والاتجاهات الليبرالية الإصلاحية، مثل حركات حقوق الإنسان والحركات النسائية المطالبة بالعدالة والمساواة وتوسيع شبكة الضمان الاجتماعي، فضلاً عن تقليص حجم التدخل الأميركي في الشؤون الدولية والتقليل من النفقات العسكرية"، مشيراً إلى أن الحزب الديمقراطي تمكن من السيطرة على مدى ثلث قرن على الحكم في الولايات المتحدة بمساعدة التحالف الذي التف حول الرئيس فرانكلين روزفلت عام 1932، الذي عرف باسم العهد الجديد، وبرنامجه لمعالجة الأزمة الاقتصادية التي نشبت عام 1929 بعد فترة الكساد العظيم، وجذب هذا البرنامج صغار المزارعين والنخب المثقفة من البيض والنقابات العمالية وكثيراً من السود والمحافظين البيض في الجنوب".
وعلى رغم أن هذا التحالف (العهد الجديد) جذب جماعات عدة متنافرة عرقياً وأيديولوجياً، فإنه شكَّل مصدر قوة للحزب الديمقراطي ضمن له هيمنة شبه كاملة على الكونغرس لعقود عدة. كما كان تحالف الخصوم هذا سبباً مهماً في فوز الرئيس الديمقراطي جون كينيدي في انتخابات الرئاسة عام 1960، إذ كان لأصوات الناخبين السود دور مهم في فوز كينيدي بولايات جمهورية، بينما دعم الناخبون البيض كينيدي في ولايات الجنوب.
في المقابل، ووفق المؤلف الأميركي هيثر ليهر واجنر، في كتابه "تاريخ الحزب الجمهوري"، فإن الأخير وهو حزب محافظ ومعروف بـ"الحزب القديم الكبير" ورمزه "الفيل" نشأ "في الولايات الشمالية عام 1854 من جانب الناشطين المناهضين للرق، وأصبح بسرعة المعارض الرئيس للحزب الديمقراطي المسيطر، ظل تاريخياً مدافعاً عن الليبرالية التقليدية والتقدمية"، مشيراً إلى أنه يشتمل بصورته الحديثة على مجموعات عدة ذات توجهات عقائدية مختلفة تشمل المحافظين والمحافظين الاجتماعيين والليبراليين الاقتصاديين والمحافظين ضريبياً والمحافظين الجدد والشعبويين والمعتدلين والتحرريين واليمين الديني"، ومن أبرز ما يدعو إليه منذ زمن خفض الضرائب وتقليص حجم الحكومة والحق في حيازة السلاح وتشديد القيود على الهجرة والإجهاض.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبينما يقول المؤرخون والباحثون إن الأحزاب السياسية في الولايات المتحدة لم تكن ظهرت في البلاد عند صياغة الدستور وإقراره في أواخر القرن الـ18، بل تشكلت بعد ممارسة الحكومة أعمالها وكنتيجة للسياسات التي اتبعها الرئيس الأول جورج واشنطن، يشير هارولد زينك، وهوار دينيمان وجيسي هاثورن، في كتابهم "نظام الحكم والسياسة في الولايات المتحدة"، إلى أبرز الوظائف التي باتت تتمتع بها الأحزاب بصورة رئيسة في أميركا، وتتمثل في "تأدية دور في انتخاب الموظفين العموميين وعلى رأسهم الرئيس وعرض المشكلات العامة والرقابة على الموظفين الحكوميين وتوجيه الناخبين إلى صناديق الاقتراع وإشعال جذوة الصراع السياسي".
وعليه، أصبح الحزبان الجمهوري والديمقراطي بقدراتهما المالية والتنظيمية الكبيرة المهيمنين الرئيسين على الحياة السياسية، والمجتمع الأميركي على رغم وجود أحزاب صغيرة أخرى، مثل الحزب التحرري وحزب الخضر، لم تصل إلى أي تأثير يذكر على مدار الحياة السياسية الأميركية سوى في محطات محدودة في تاريخ البلاد.
يشار إلى أن الدستور الأميركي في بداية كتابته وإقراره عام 1787 أو أي من تعديلاته الـ27 لم يتطرقوا إلى الأحزاب السياسية، كما لا توجد قواعد حاكمة أو مقيدة لتشكيل تلك الأحزاب أو للتعبير عن الرغبة في الترشح وخوض الانتخابات النيابية أو الرئاسية في البلاد، وفي بداية تأسيس الدولة الأميركية، لم يكن هناك أي أحزاب حينها أو تصور واضح لمفهوم الحزب السياسي الذي يعتمد بالأساس على الناخب في العالم كله، ولكن الحاجة إلى الحصول على الدعم والتأييد الشعبي أدت إلى ظهور الأحزاب السياسية في القرن الـ18.
ومنذ منتصف القرن الـ19، عند تأسيس الحزب الجمهوري، الذي سبقه تأسيس الحزب الديمقراطي عام 1828، ارتكزت المنافسة السياسية القائمة على قاعدة "الفائز يحصد جميع مقاعد" الدائرة الانتخابية، بين هذين الحزبين حتى بات النظام السياسي في البلاد يوصف بـ"حكم الحزبين"، وبات جميع الرؤساء الذين تعاقبوا على البيت الأبيض بعد تلك الفترة منتمين لأحد الحزبين الكبيرين المسيطرين: الديمقراطي والجمهوري، على رغم نظر الآباء المؤسسين إلى الأحزاب على أنها مثار لـ"الشقاق والخصام".
ولم يمنع ظهور حزب ثالث فاعل وقوي من وجود استثناءات في التاريخ السياسي الأميركي حقق فيها مرشحون من خارج الحزبين الديمقراطي والجمهوري أدواراً انتخابية بارزة، لا سيما على صعيد السباق نحو البيت الأبيض، كما حدث عام 1865 حين حصل ميلارد فيلمور (الحزب الأميركي) على 21.5 في المئة من الأصوات، وعام 1968 حين حصل جورج والاس (حزب المستقلين الأميركيين) على 13.5 في المئة من الأصوات، وأخيراً عام 1992 حين حصل روس بيرو (مرشح مستقل) على 19 في المئة من الأصوات.
طريق "المسار الثالث" مهمة لم تكتمل
على رغم هيمنة الحزبين الديمقراطي والجمهوري على الحياة السياسية في الولايات المتحدة فإنه وبتتبع التاريخ الأميركي الحديث تجد أنه مليء بمحاولات وتجارب عدة في هذا الاتجاه، حيث المضي في تأسيس أحزاب قادرة وفاعلة تتجاوز فكرة مجرد الوجود في المشهد، حيث شهدت البلاد تجارب حزبية سرعان ما اختفت عن المشهد كما بالنسبة إلى الحزب الفيدرالي الذي انحل عام 1824 وحزب اليمين الذي انتهى وجوده عام 1860 والحزب الجمهوري - الديمقراطي (كان مسيطراً حينها منذ انهيار الحزب الفيدرالي) الذي انحل بدوره عام 1825 بُعيد الانتخابات التي فاز فيها جون كوينسي آدمز، برئاسة البيت الأبيض ضد أندرو جاكسون، وذلك بتصويت مجلس النواب وليس بأكثرية الأصوات الشعبية أو أصوات المندوبين بالمجمع الانتخابي، في المقابل ظهرت تجارب استمرت لسنوات في محالة إزاحة سطوة الحزبين الكبيرين، مثال على ذلك الحزب الذي حمل اسم "الحزب الشعبوي" ورفع شعارات مدافعة عن فقراء الفلاحين في تسعينيات القرن الـ19 خلال فترة وجيزة، لدرجة هددت معها هيمنة الحزبين الكبيرين في البلاد، وذلك قبل أن يتفكك بحلول عام 1900.
كذلك سجل ظهور "حزب التربة الحرة" عام 1848، وهو الحزب الذي طالب بإلغاء العبودية في المناطق الجنوبية الغربية من الولايات المتحدة، وعلى رغم فشله في تمرير أي قانون حول مسألة العبودية اتجه الحزب عام 1848 لترشيح الرئيس السابق مارتن فان بورين في انتخابات العام ذاته، وبحلول عام 1854 حل هذا الحزب بسبب فشله السياسي وتزايد الخلافات داخله، وذلك في وقت كانت الولايات المتحدة تشهد حالات انقسام كبيرة خلال فترة الانتخابات التي تمت في ذلك العام (1854)، والتي ظهر معها الحزب الجمهوري الذي اهتم بالحفاظ على الوحدة الوطنية ومعارضة نظام العبودية، وأصبح منافساً للحزب الديمقراطي الذي اهتم بحماية العبودية.
ومع أحداث التوتر التي تبعت فوز أبراهام لينكولن من الحزب الجمهوري بانتخابات عام 1860، حيث اعتبار الولايات الجنوبية هذا الفوز تهديداً لنظامها الاقتصادي والاجتماعي القائم على العبودية، وهو ما أدى إلى انسحاب 6 ولايات جنوبية من الاتحاد (كانت كارولاينا الجنوبية ومسيسيبي وفلوريدا وألاباما وجورجيا ولويزيانا)، وشكلت فيما بينها دولة جنوبية، ومن ثم بداية اشتعال فتيل الحرب الأهلية الأميركية، جاءت انتخابات 1864 لتضيف مزيد من التحديات السياسية على لينكولن، مما دفعه لتشكيل وحزبه الجمهوري تحالفا مع بعض الديمقراطيين لتقوية فرصه في الفوز، وأنشأوا حزباً موقتاً أطلقوا عليه اسم حزب الاتحاد الوطني وترشح عنه في الانتخابات، بينما ترشح خصمه جورج ماكليلان عن الحزب الديمقراطي، إلا أن انتصارات عسكرية قبل الانتخابات عززت موقف لينكولن، ففاز بغالبية ساحقة، مما مكنه من إنهاء الحرب عام 1865، وإعادة ولايات الجنوب تحت مظلة الاتحاد الأميركي.
لم تقف محاولات "المسار الثالث" عند هذا الحد، ففي عام 1879 بعد سنوات قليلة من الحرب الأهلية الأميركية، شهدت ولاية فرجينيا الأميركية ظهور "حزب التعديل" الذي تشكل بهدف حلحلة الأزمة الاقتصادية والديون المتراكمة التي تهدد الولاية، وعلى رغم أنه وبعد فترة وجيزة تمكن الحزب من تقليل نحو ثلث ديون الحرب وإجراء إصلاحات ضريبية أملاً في تجميع ما تبقى من المبالغ اللازمة لسداد الديون، أدت خسارة الحزب لغالب مقاعدة بالولاية عام 1883 إلى حله بصورة نهائية.
وفي ولاية نيفادا الأميركية ظهر عام 1892 حزب الفضة (كانت الولاية حينها رائدة في مجال إنتاج الفضة بفضل مناجمها الغنية) على قاعدة معارضة النظام النقدي الوطني القائم على الذهب والعملة الورقية غير المدعومة، وبالسنوات التالية انتخبت نيفادا عدداً من ممثلي هذا الحزب بالكونغرس، وذلك قبل أن يتراجع التعدين بالولاية، مما قاد إلى تعثر الحزب وانهاره التام عام 1911.
وبعد ذلك بعام شهد الحزب الجمهوري انقسام الجناح الأكثر تقدماً به، بقيادة الرئيس السابق ثيودور روزفلت، وتشكل الحزب التقدمي وذهب روزفلت لاقتناص حصة أكبر من أصوات منافسه الجمهوري ويليام تافت، لكن كليهما خسر الانتخابات أمام الرئيس الديمقراطي وودرو ويلسون.
في هذه الواقعة ووفق ما كتبه الباحث ميريل ماثيوز من معهد "ابتكار السياسات" في دالاس، في صحيفة "ذا هيل" الأميركية، "كان الرئيس الأميركي السابق ثيودور روزفلت نائب الرئيس الجمهوري ويليام ماكينلي، الذي اغتيل في 1901 خلال فترة رئاسته الثانية أصبح رئيساً خلفاً لماكينلي، ثم فاز بسهولة بإعادة انتخابه عام 1904. لكنه وعد بعدم الترشح لولاية ثالثة عام 1908، ونتيجة لذلك أصبح ويليام هوارد تافت مرشحاً للحزب الجمهوري وفاز في انتخابات 1908". ويتابع، "وضع الحزب الجمهوري تافت لإعادة انتخابه عام 1912، لكن ثيودور روزفلت لم يكن راضياً لأن الجمهوريين لم يدعموا سياساته التقدمية، لذلك ترشح روزفلت على بطاقة طرف ثالث، وهو الحزب التقدمي، الذي أسسه آنذاك. وكان أداؤه جيداً، ولكن ليس جيداً بما يكفي. وحصل تافت على 23.2 في المئة من الأصوات الشعبية، بينما حصل روزفلت على 27.4 في المئة، مما أدى إلى تقسيم أصوات الجمهوريين. وهكذا فاز المرشح الديمقراطي وودرو ويلسون بنسبة 41.8 في المئة، وغالبية ساحقة بلغت 435 صوتاً في الهيئة الانتخابية (المجمع الانتخابي)".
وجاءت أحدث محاولة لإنشاء حزب سياسي في يوليو (تموز) عام 2022، حين أعلن المرشح الديمقراطي السابق للرئاسة أندرو يانج، بالتعاون مع الحاكمة الجمهورية السابقة لولاية نيوجيرسي كريستين تود ويتمان، وعدد من الساسة الأميركيين تدشين حزب سياسي يحمل اسم "فورورد" (إلى الأمام) ليكون "حزباً رئيساً ثالثاً" في البلاد، اعتماداً على جذب ملايين الناخبين الذين يقولون إنهم مستاؤون مما يرون أنه نظام الحزبين "المختل" في الولايات المتحدة، إلا أن هذا الحزب لم يتمكن إلى الآن من "زعزعة" هيمنة الحزبين الكبيرين على الحياة السياسية الأميركية أو كسر سيطرتهما على البيت الأبيض ومجلسي الكونغرس (النواب والشيوخ)، لتنضم لعشرات الأحزاب الصغيرة الموجودة وأبرزها حزب الخضر وحزب الأحرار.
إلى أين ستذهب مغامرة ماسك؟
على رغم إعلان الملياردير الأميركي وقطب التكنولوجيا إيلون ماسك تدشين حزبه السياسي الجديد باسم "حزب أميركا" جاء على خلفية خلافه مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب حول قانونه "الكبير والجميل" للضرائب، والذي رأي فيه ماسك أنه سيتسبب في إفلاس الولايات المتحدة، فإنه يعكس ما يظهره كثير من استطلاعات الرأي لدى مراكز الفكر والأبحاث في البلاد على مدار العقدين الأخيرين من تململ شرائح واسعة من الأميركيين من نموذج "الثنائية الحزبية" وهيمنة الحزبين الديمقراطي والجمهوري على مفاتيح السياسة في البلاد.
وماسك، الذي كان حليفاً مقرباً من الرئيس ترمب قبل أن يدخل الرجلان في خلاف علني منذ مايو (أيار) الماضي، تمتاز محاولته الراهنة تدشين حزب جديد بهدف "إعادة حرية الأميركيين"، على حد وصفه، بأنها تأتي في وقت تشهد فيه الولايات المتحدة صعوداً بارزاً لرجال المال والتكنولوجيا في المشهد السياسي، ما يثير الأسئلة حول قدرته على التأثير الذي قد يحدثه، لا سيما فيما يتعلق بانتخابات التجديد النصفي للكونغرس لعام 2026 أو على صعيد الانتخابات الرئاسية بعد نحو عامين من الآن، وبخاصة أنه كان أبرز ممولي حملة الرئيس ترمب الانتخابية عام 2024.
وكسابقاتها تواجه تجربة ماسك الحزبية في الولايات المتحدة بتحديات وعقبات، قالت عنها صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية في تحليل لها، أبرزها التجارب السابقة في هذا الاتجاه والعوائق المؤسسية وقواعد الاقتراع، فضلاً عن قدرته على استقطاب حلفاء سياسيين.
فعلى صعيد "العوائق المؤسسية" توضح "واشنطن بوست" أن النظام الانتخابي في أميركا الذي يعتمد على مبدأ "الفائز يحصد كل شيء" لا يرحب بأحزاب أخرى، وأن لدى الولايات الأميركية ولجنة الانتخابات الاتحادية قواعد ومتطلبات لتسجيل الحزب السياسي الجديد، وقواعد أخرى خاصة بها غالباً ما تشترط الإقامة فيها وتقديم قوائم تزكية أو تأييد من عدد معين من الناخبين المسجلين، وهو ما يعوق غالباً صعود مرشحي "الأحزاب الثالثة"، مشيرة إلى أنه خلال الانتخابات الرئاسية لعام 2024، لم يظهر أي من مرشحي الأحزاب الآخرين البارزين على بطاقات الاقتراع في جميع الولايات الـ50.
وتنقل الصحيفة عن هانز نويل أستاذ التاريخ السياسي في جامعة جورج تاون قوله إن الولايات المتحدة ليس لديها، "مؤسسات تتقبل أحزاباً ثالثة متعددة يمكن أن تكون ناجحة للغاية"، مضيفاً، "الأمر هنا ليس كما هو في الديمقراطيات الأخرى، حيث يبدأ الحزب صغيراً ويحصل على 20 أو 30 في المئة من الأصوات، ثم على حصة من المقاعد بالمجلس التشريعي، حيث يمكنه البناء على ذلك".
نقطه أخرى تثيرها الصحيفة من بين التحديات، وهي تلك المتمثلة في التجارب السابقة والحديثة، موضحة أنه التاريخ السياسي الأميركي مليء بالأحزاب خارج نظام الحزبين المهمين على المشهد، إلا أنه وعلى رغم ذلك بقيت جاذبيتها وفاعليتها محدودة. وتابعت بالقول، "كانت آخر مرة فاز فيها مرشح من خارج الحزبين الجمهوري والديمقراطي بأصوات الناخبين عام 1968، عندما انحازت 5 من ولايات الجنوب الأميركي لمرشح الحزب المستقل جورج والاس، وكذلك حصل الملياردير روس بيرو على نحو 19 في المئة من الأصوات في الانتخابات الرئاسية عام 1992، ولم ينل أصوات المجمع الانتخابي. وعام 2000، ترشح رالف نادر للرئاسة عن حزب الخضر، وعلى رغم أدائه القوي في ولاية فلوريدا، حيث جاءت النتيجة بينه وبين المرشح الجمهوري جورج بوش الابن متقاربة، لم يحصل على أي من أصوات المجمع الانتخابي".
تحدٍّ آخر يواجه حزب ماسك يتمثل بحسب "واشنطن بوست" في الانقسامات بين جمهوره المحتمل وقدرته على استقطاب حلفاء سياسيين جدد، موضحة أن نحو 80 في المئة ممن يتبنون مواقف وسطية بالمشهد السياسي الأميركي ليسوا متماسكين بما يكفي لتشكيل حزب سياسي، ونقلت عن هانز نويل من جامعة جورج تاون قوله إن "الناس متعلقون بالأحزاب القائمة، لكنهم محبطون منها، ومتخوفون. ومع ذلك فهم لا يشكلون قاعدة انتخابية، إذ إن 80 في المئة منهم لم يحددوا موقفهم بصورة جيدة على الإطلاق"، وتابع هانز نويل، "الحزب الجديد سيحتاج إلى ناخبين متفانين بصورة غير عادية ولديهم الطاقة اللازمة لخوض الحملات الانتخابية، حتى بعد الخسائر المبكرة المحتملة، وهو أمر لا يمكن شراؤه بالمال"، إضافة إلى ذلك وفق الصحيفة، يواجه نفوذ ماسك تحدياً بعدما تضاءل في الحزب الجمهوري إثر خلافه مع ترمب وخروجه من الحكومة الفيدرالية بعدما قاد لجنة الكفاءة الحكومية، وهو ما يعوق قدرته على استقطاب حلفاء سياسيين.
في المقابل تعزز فرص وجود الحزب وحضوره حال الاستقطاب السياسي في الولايات المتحدة وتململ نسب كبيرة من المواطنين من نموذج "الحزبية الثنائية"، إذ يقول المراقبون إن الرغبة في وجود أحزاب ثالثة ترتفع دائماً مع تزايد الاضطرابات الداخلية والاستقطاب الحاد، فالأحزاب التي تكون خارج السلطة لديها ردان طبيعيان، الأول هو الإحباط الداخلي من قيادة الحزب نفسها، والثاني هو البحث عن بدائل. وفي هذا السياق، قال المتخصص في مجال السياسة لدى جامعة جورجتاون مايكل كازين لمجلة "نيوزويك" الأميركية إنه "من المرجح أن يكون الديمقراطيون الآن أكثر تأييداً لحزب ثالث لأنهم غير راضين عن القادة الحاليين للحزب. الأحزاب الثالثة لا تدوم طويلاً في السياسة الوطنية، لكنها كانت مهمة لحسم الانتخابات في أوقات مختلفة في الماضي".
وعلى رغم تلك التجارب المريرة في خلق مسار ثالث في السياسة الحزبية الأميركية، فإن استطلاعات الرأي وعلى مدار العقدين الماضيين، كثيراً ما أظهرت ارتفاع نسبب الراغبين في ظهور أحزاب أخرى قوية، ففي استطلاع شهير لمعهد "غالوب" لاستطلاعات الرأي عام 2010، كشف عن أن نحو 29 في المئة من الأميركيين يعدون أنفسهم بأنهم جمهوريون، في مقابل 31 في المئة لمصلحة الحزب الديمقراطي، و38 في المئة من المستقلين، وهو ما يظهر انخفاضاً في عدد الجمهوريين، إذ عرف 31 في المئة عن أنفسهم بأنهم جمهوريون عام 1988. وفي مسح آخر للمعهد ذاته عام 2014 انخفض هذا العدد إلى 25 في المئة، وهو الأدنى في السنوات الـ25 الماضية في الأقل.
كذلك نشر "غالوب" نتائج استطلاع رأي عام 2021 أجرته "مؤسسة الأبحاث الأميركية" أن 62 في المئة من الناخبين يعتقدون أن الحزبين الرئيسين يقدمان أداءً ضعيفاً لدرجة أن هناك حاجة إلى حزب بديل. في الاتجاه ذاته أظهر استطلاع للرأي نشره مركز "بيو" للأبحاث عام 2022 أن نسبة الناخبين الذين لديهم وجهة نظر غير موالية لكلا الحزبين السياسيين ارتفعت من ستة في المئة عام 1994 إلى 27 في المئة الآن. وعندما طلب من المستطلعين الرد على العبارة التي تقول "عادة ما أشعر أن هناك مرشحاً واحداً في الأقل يشاركني معظم آرائي"، لم يوافق 43 في المئة مقارنة بـ36 في المئة ردوا على السؤال نفسه في استطلاع مماثل عام 2018، كما أعرب 38 في المئة عن تأييدهم الشديد تعليقاً على عبارة "أتمنى أن يكون هناك مزيد من الأحزاب السياسية للاختيار من بينها في هذا البلد"، ووفقاً لـ"المركز الأميركي" فإن هذه النسبة تشمل 48 في المئة من المستقلين، و38 في المئة من الديمقراطيين، وفقط 21 في المئة من الجمهوريين الذين شملهم الاستطلاع.
وتنقل هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" عن الباحث في العلوم السياسية بجامعة ييل إيان شابيرو أن الأحزاب السياسية فقدت نفوذها وتأثيرها في السنوات الأخيرة، وهذا يؤثر في النظام الديمقراطي برمته. وكتب شابيرو عام 2018، "الأحزاب السياسية هي قوام المساءلة الديمقراطية لأن الأحزاب وليس الأفراد الذين يؤيدونها ويشكلونها، تقترح رؤى مدروسة لتحقيق الصالح العام"، وذلك لأن الناخبين ليس لديهم الوقت ولا الخبرة لإجراء أبحاث عن كلف السياسات ومزاياها ولا يمكنهم تغليب مصلحة الغالبية على مصالحهم الخاصة على المدى الطويل.
لكن في مقابل تلك الرؤية لا يوافق بعضهم على أن الأحزاب السياسية باتت أضعف مما كانت عليه في الماضي، مرجعين الأمر إلى ظاهرة الاستقطاب السياسي الحاد المنتشرة أدت إلى زيادة تمسك الجمهور بالأحزاب التي ينتمون إليها، واكتسب زعماء الأحزاب نفوذاً أكبر من أي وقت مضى، بسبب جهود الأحزاب في حشد أصوات الناخبين أو منع فئات بعينها من التصويت في الانتخابات للتأثير في النتائج.