ملخص
الحدود المفتوحة بفعل الانهيار الأمني، وتدفقات السلاح غير المنضبط من مخازن ليبيا وسوريا، إضافة إلى انتقال المقاتلين الأجانب الذين خاضوا تجارب حربية وتنظيمية في الشرق الأوسط، كل ذلك جعل من منطقة الساحل مسرحاً إستراتيجياً للاستثمار الإرهابي.
لم تعد التنظيمات الإرهابية محصورة في جغرافيا واحدة، ولا بات حضورها مقتصراً على ساحات الصراع المحلي أو الإقليمي، بل أصبحت جزءاً من منظومة عابرة للحدود تتغذى على الفوضى السياسية والأمنية، والتناقضات الأيديولوجية الممتدة من الشرق الأوسط إلى الساحل الأفريقي.
وفي خضم التحولات الدراماتيكية التي يشهدها الشرق الأوسط منذ تحول ما يُعرف بـ "الربيع العربي" إلى حال مزمنة من عدم اليقين السياسي، وتفاقم اختلال الاستقرار الأمني، وانفجار الصراعات الأهلية المتداخلة ومتعددة المستويات، ثم تطورها إلى الحروب الأهلية في سوريا واليمن إلى الانقسامات الطائفية في العراق ولبنان والانهيار المؤسساتي في ليبيا، برزت بيئة مثالية لتصدير عناصر التفكك إلى منطقة الساحل التي تمثل اليوم إحدى أخطر بؤر التهديد الأمني العالمي.
الحدود المفتوحة بفعل الانهيار الأمني، وتدفقات السلاح غير المنضبط من مخازن ليبيا وسوريا، إضافة إلى انتقال المقاتلين الأجانب الذين خاضوا تجارب حربية وتنظيمية في الشرق الأوسط، كل ذلك جعل من منطقة الساحل مسرحاً إستراتيجياً للاستثمار الإرهابي، تنظيمات مثل "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" و"داعش في الصحراء الكبرى" لم تعد مجرد خلايا محلية، بل باتت تتغذى على شبكات الدعم والتنسيق والتدريب والتمويل القادمة من الشرق الأوسط، مستفيدة من التحالفات الإقليمية المتشابكة، والانقسامات الجيوسياسية، والفراغ الإستراتيجي الذي خلفته القوى الكبرى المنسحبة من مناطق النزاع.
وما يشهده الساحل الأفريقي ليس مجرد تصاعد للعنف أو تطور في تكتيكات التنظيمات، بل هو انتقال عضوي للبنية الإرهابية من الشرق الأوسط إلى أفريقيا، بفعل التشبيك المتعدد المستويات أيديولوجياً ولوجستياً وتمويلياً وأمنياً، ويشكل هذا التداخل بين الساحتين دليلاً على أن الإرهاب لا يتغذى فقط من الداخل بل يعاد إنتاجه عبر مسارات الفوضى الدولية، فيتموضع في مناطق جديدة ويكيف خطابه وإستراتيجياته بحسب خصوصيات كل بيئة.
زعزعة التوازنات
ومثّلت الصراعات التي اندلعت في الشرق الأوسط خلال العقد الأخير تحولاً جوهرياً في منظومة الأمني الإقليمي، إذ لم تكن مجرد نزاعات داخلية مغلقة بل بمثابة بوابات واسعة لانهيارات منظومات الدولة وتفكك الهياكل السيادية، وصعود الفاعلين المسلحين من غير الدول، فهذه التحولات لم تبق محصورة في نطاقها الجغرافي المباشر بل تمددت تداعياتها إلى مناطق محيطة تتقاطع معها في الجغرافيا والمصالح والضعف البنيوي، وفي مقدمها منطقة الساحل الأفريقي التي تحولت تدرجياً إلى ساحة تكرار وتطوير لنماذج التمرد والفوضى المستوردة من الشرق الأوسط.
وكان سقوط النظام الليبي بمثابة الزلزال الأمني الأبرز الذي زعزع توازنات الساحل، إذ أدى إلى تدفق كميات هائلة من السلاح نحو جنوب الصحراء، وانتقال مقاتلين مدربين إلى مالي والنيجر وبوركينا فاسو، واستفادت الجماعات الإرهابية من هذا الانهيار لتوسيع نطاقها العملياتي، معززة وجودها في مساحات شاسعة تفتقر إلى الرقابة الحكومية الفاعلة.
لكن ما ضاعف خطورة هذا التمدد هو إدراك القوى الغربية، خصوصاً أوروبا، أن التطورات في منطقة الساحل باتت تؤثر مباشرة في أمنها القومي، إذ لم يعد الإرهاب والقرصنة والاتجار بالبشر تهديداً محلياً وحسب، بل أصبح مرتبطاً بموجات الهجرة غير النظامية والتجنيد المتطرف وتجارة السلاح العابر للحدود، وقد برز هذا القلق جلياً من خلال التدخلات العسكرية الفرنسية في مالي وأفريقيا الوسطى التي شكلت اعترافاً ضمنياً بأن أمن أوروبا بدأ يتحول جنوباً نحو أفريقيا بعد أن كان مركز ثقله في الشرق الأوسط.
بدورها أظهرت الولايات المتحدة تغيراً في نمط تدخلها، فاعتمدت إستراتيجية "التدخل الانتقائي" القائمة على دعم الحلفاء المحليين من دون دخول مباشر، مما يعكس تحولاً في موازين القوى الدولية وتبدل أولوياتها الجيوسياسية، وهكذا أسهم "الربيع العربي" في ترسيخ مكانة الساحل الأفريقي كجبهة جديدة ومفتوحة في الحرب على الإرهاب، محكومة بتداخلات إقليمية ودولية متشابكة.
تقنيات عسكرية
وأسهم المقاتلون العائدون من جبهات القتال في الشرق الأوسط في نقل تقنيات عسكرية دقيقة إلى جماعات الساحل، أبرزها تصنيع العبوات الناسفة المتطورة، وهي تقنيات جرى توثيق استخدامها في العراق وسوريا، وظهرت لاحقاً في مالي والنيجر بحسب تقارير منظمة "أبحاث التسلح في النزاعات"، ولعل الأخطر من ذلك هو اعتماد هذه الجماعات على تكتيك السيطرة النفسية، وهو أسلوب انتشر بداية في سوريا يقوم على استخدام عمليات اغتيال رمزية ونشر الرعب داخل القرى والمجتمعات القبلية لإجبار السكان المحليين على الصمت أو التعاون، وهي إستراتيجية وثقها "مركز هارفارد للدراسات الأفريقية" في دراسات ميدانية عن تكتيكات الإرهاب في الساحل.
وأوردت صحيفة "لوموند" الفرنسية أن الجماعات الإرهابية في مالي وبوركينا فاسو تستخدم طائرات مسيرة صغيرة، في تطور نوعي يكشف عن نقل مباشر للتقنيات المستخدمة سابقاً في الموصل والرقة إلى صحراء تمبكتو وحدود النيجر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما صحيفة "واشنطن بوست" فقد حذرت في تقرير نشر في يونيو (حزيران) 2025 من أن جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" تحولت إلى تنظيم مركزي يحتضن مقاتلين من جنسيات عدة، بمن فيهم عائدون من الشرق الأوسط، مما يجعلها قوة إقليمية عابرة للحدود، كما أشار تقرير صحيفة "الباييس" الإسبانية إلى أن الموجة الجديدة من الهجمات الإرهابية في الساحل ترتبط بصورة وثيقة بشبكات أعادت تموضعها بعد الخسائر في الشام، ووجدت في هشاشة الساحل بيئة بديلة لتجديد نشاطها.
وهذا التداخل بين الجبهات يعكس تحول الإرهاب في الساحل إلى امتداد عضوي لصراعات الشرق الأوسط، لا مجرد نتيجة عرضية لها.
إعادة التموضع
فتحت الحرب في السودان منذ عام 2023 مجالاً حدودياً موازياً مع تشاد ثم النيجر، مما شكل نقطة عبور لا تقتصر على الأشخاص وحسب، بل تشمل أسلحة وذخائر تسمح للتنظيمات بإعادة تموضعها بطريقة تجعلها مؤثرة بصورة مباشرة في تفاقم الوضع الأمني في الساحل.
ولا تقتصر استفادة الجماعات الإرهابية من الحدود المفتوحة على حرية الحركة والتنقل وحسب، بل تشمل كذلك شبكات التهريب المعقدة التي تنسج عبرها الجماعات منظومة تمويل متكاملة، فقد باتت الطرق التي كانت تاريخياً مسارات تجارية تقليدية تستخدم اليوم لنقل الذهب والوقود والمخدرات وحتى البشر، مما يدر على هذه الجماعات أرباحاً ضخمة تعيد استثمارها في شراء السلاح وتجنيد العناصر وتأمين الدعم اللوجستي.
ووفقاً لتقرير صادر عن "مجموعة الأزمات الدولية" فإن الجماعات المتنقلة في الساحل تعتمد على نظام اقتصادي بديل خارج سيطرة الدولة، يتيح لها التمويل الذاتي دون الحاجة إلى دعم خارجي مباشر.
وتظهر خريطة التهريب الحديثة أن الجماعات المرتبطة بـ "القاعدة" و "داعش" تستخدم شاحنات تجارية ومواكب قبلية لنقل السلع المهربة من جنوب ليبيا وغرب السودان عبر تشاد والنيجر، وصولاً إلى مراكزها في مالي وبوركينا فاسو، مستفيدة من ضعف الدولة وغياب التنسيق الاستخباري الإقليمي، بل وأحياناً تواطؤ بعض شبكات الفساد المحلي.
ويكشف تقرير لصحيفة "لوموند" أن بعض القرى الحدودية في النيجر ومالي تحولت إلى "مراكز خدمات لوجستية" للإرهاب، إذ تخزن السلع ويعاد توزيعها أو تسييلها في السوق السوداء، وعلاوة على ذلك فإن هذه الشبكات لا تعمل بمعزل عن بعضها، بل باتت ترتبط بـ "تحالفات غير مرئية" بين المهربين التقليديين والجماعات المسلحة، وهو ما أشار إليه باحثو "مسح الأسلحة الصغيرة"، إذ وثقوا كيف تتحول شحنات السلاح المقبلة من السودان وليبيا إلى سلاح ثقيل في يد الجماعات في الساحل، وهذا التكامل بين شبكات التهريب والإرهاب يخلق بيئة هجينة معقدة يصعب تفكيكها، مما يتطلب تنسيقاً عابراً للحدود ليس فقط على المستوى الأمني، بل على المستوى الاقتصادي والتنموي.
تحديات جديدة
وفي ظل التصعيد المستمر في غزة وتوسع دائرة التوتر في الشرق الأوسط، يلوح في الأفق احتمال بروز تحديات أمنية جديدة تتجاوز الإطار الجغرافي المباشر للصراع، وتتقاطع مع ساحات الساحل الأفريقي، فبينما تنشغل القوى الدولية والإقليمية بالتحولات الطارئة في غزة، تجد الجماعات المسلحة في غرب أفريقيا في هذه الفوضى فرصة إستراتيجية للتوسع، فكما شكل انهيار نظم الأمن في سوريا والعراق بيئة مثالية لصعود "داعش" قبل عقد، فإن الانشغال الدولي بالصراع الإسرائيلي - الفلسطيني قد يتيح للمجموعات المتطرفة في الساحل توسيع هامش حركتها بعيداً من الأنظار.
ومن جهة أخرى فإن التوتر المتصاعد بين إيران وإسرائيل، وعلى رغم كونه يرتكز على تباينات جيوسياسية ومذهبية، قد يفتح ثغرات إضافية في البنية الأمنية الإقليمية من شأنها أن تستغل على نحو غير مباشر من قبل الفاعلين العنيفين في أفريقيا، ذلك أن هذه الجماعات، وإن كانت لا ترتبط أيديولوجياً بإيران، فإنها تجيد استثمار كل حال صراع لتبرير خطابها وتجنيد الأتباع، خصوصاً حين يتخذ الصراع طابعاً إعلامياً وشعبوياً يعيد إنتاج سرديات المظلومية والتحشيد العابر للحدود.
وعلى خلفية الانشغال العالمي المحتمل بأزمات جديدة، يُخشى أن يتحول الساحل الأفريقي من "بؤرة منسية" إلى نقطة تفجر صاعدة، إذ يخرج مارد الإرهاب من قمقمه المحلي ليأخذ أبعاداً جديدة تتجاوز الفضاء الجغرافي الضيق، فمع تقاطع خبرة المقاتلين العائدين من المشرق وديناميات الفوضى الداخلية وانهيار مؤسسات الدولة، تبرز ملامح تصعيد أمني ممنهج تقوده جماعات أكثر تمرساً وأكثر قدرة على التكيف مع التحولات.
وما يحدث ليس سوى تحول في مركز الثقل الإرهابي من الشرق إلى الجنوب، حيث لا تختفي التهديدات بل تعاد صياغتها وتعاد تعبئتها في قالب يتسق مع الطبيعة المتغيرة للصراعات الحديثة، من مرونة تنظيمية وارتباطات إثنية محلية وخطاب عابر للحدود وتكتيكات تتغذى على الصراعات الإقليمية، وعليه فإن تجاهل إقليم الساحل، في ظل الأزمات الكبرى، قد يشكل ثغرة كارثية في النظام الأمني الدولي، تماماً كما حدث عشية بروز "داعش" في الموصل.