ملخص
تواجه هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" اتهامات متناقضة بالتحيز من أطراف مؤيدة ومعارضة لإسرائيل، مما يعكس صعوبة التوفيق بين السرديات المختلفة ويثير تساؤلات حول التوازن الإعلامي في تغطية حرب غزة.
خلال أبريل (نيسان) 2006، زارني في مكتبي آنذاك رجل الأعمال جيرالد رونسون والذي كان معروفاً في ذلك الوقت، لأنه قضى عقوبة سجن بتهم تتعلق بالتآمر، وارتكاب عمليات محاسبة ضريبية زائفة، وسرقة.
ولم ينتظر رونسون لحظة كي يتسنى له خلع معطفه قبل أن يبدأ سلسلة احتجاجات ناقدة، قائلاً "كثيراً ما قلت إن الآراء كالأجسام، لا يخلو أحد منها"، قبل أن يضيف "أنا أؤيد حرية التعبير، ولكن هناك خط لا يجوز تجاوزه، وبالنسبة إليَّ لقد قمت أنت بتجاوزه وعليك أن تتوقف عن ذلك".
لم يكن رونسون يعترض على تحليلاتنا الصحافية لمسيرته المهنية المتقلبة، بل على تغطينا لإسرائيل. وكان برفقته في ذلك اليوم رئيس "مجلس نواب اليهود البريطانيين" Board of Deputies، وهو مجلس يشار إليه أحياناً بأنه يمثل آراء اليهود البريطانيين. وليس من الواضح لماذا اعتقد أحد أن رونسون سيكون مدافعاً موثوقاً عن قضيتهم.
على مر الأعوام، أصبحت محاولات التأثير في وسائل الإعلام البريطانية معقدة بصورة أكبر. فقد أُسس عدد من مجموعات "مراقبة وسائل الإعلام" يطلق عليها أسماء براقة، هدفها التدقيق الدقيق في كل كلمة تكتب، وكل صورة تنشر وكل مقطع فيديو يرفع قبل الإعلان عن أنها مواد وعن وجه حق، مواد متحيزة ضد إسرائيل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بموازاة ذلك، كانت تُدعى مجموعة مختارة من الصحافيين للقيام برحلات مدفوعة الكلف بالكامل لزيارة إسرائيل لتلقي "إحاطات إعلامية". ومنذ مدة ليست بعيدة كثيراً، سألني أحد كتاب أعمدة الرأي المعروفين إذا ما كنت أرغب في الذهاب ضمن رحلة من هذا النوع، وأدركت تدريجاً أن عدداً من الصحافيين البارزين انتهزوا فرصاً مماثلة للقيام بتلك الزيارات من دون الإفصاح عن مصدر التمويل أو حتى الاعتراف بالاستفادة من هكذا رحلة.
كانت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) هدفاً رئيساً خصوصاً. وإلى درجة أن بعضاً -وربما كثر حتى– يعتقدون بشدة بأن "بي بي سي" مؤسسة غير حيادية. متحيزة ضد اليمين، ومتحيزة ضد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ومتحيزة ضد الطبقة العاملة، ومتحيزة ضد إسرائيل.
لكن الاتهامات لا تطاول الـ"بي بي سي" وحدها، فشبكة "سكاي" التلفزيونية وصفت من قبل ديفيد كوليير "قناة دعائية مؤيدة للإرهابيين". لكن السيد كوليير لديه صورة قاتمة لمستقبل اليهود في بريطانيا، إذ غرد حديثاً قائلاً، "ارتاحوا، سنرحل جميعاً في آن قريب، نحن اليهود البريطانيين وشركات الأعمال الإسرائيلية. سنطرد من قبل المملكة المتحدة التي تزداد عدوانية ضد اليهود. وعندما ستجلسون جميعاً هنا في دولة من دول العالم الثالث، ويرفرف فوق مقر رئاسة الوزراء في داونينغ ستريت علم إسلامي، سيمكنكم في حينه إخبارنا إن كانت الفكرة صائبة أم لا".
السيد كوليير هو حالياً باحث مثابر، قام حديثاً بتسليط الضوء على عيوب جسيمة في فيلم وثائقي عرضته "بي بي سي" حول غزة. وقد عمل لأعوام طويلة في قطاع الضيافة والسياحة، قبل أن يتحول إلى صحافي استقصائي. وكان قال لصحيفة "تايمز أوف إسرائيل" منذ مدة "إن ما تملكه هيئة الإذاعة البريطانية هو غرفة عمل مليئة بالصحافيين من الناشطين، يتنافسون بصورة يائسة في محاولتهم إيجاد طرق جديدة لشيطنة إسرائيل".
وهناك ناقد آخر بارز للـ"بي بي سي" هو المحامي الإنجليزي الإسرائيلي تريفور آسرسون، الذي تصدر عناوين الأخبار أخيراً بعد أن موَّل تقريراً أعده محامون إسرائيليون، يزعم فيه رصد 1553 انتهاكاً لمعايير التحرير المعتمدة في "بي بي سي" خلال تغطيتها للأحداث في إسرائيل.
استغل الرئيس التنفيذي السابق في "بي بي سي"، داني كوهين هذا التقرير، ليؤكد أنه دليل على "أزمة مؤسساتية" داخل الهيئة.
يترأس كوهين مجلساً يحمل اسماً مبهماً هو "مجلس أبحاث الإعلام البريطاني" UK Media Research Council، وهو مؤسسه أيضاً، ويعمل فيه عدد من الصحافيين السابقين عملوا في صحيفتي "ميل أون صنداي" Mail on Sunday و"تليغراف". وبحسب مجلة "برايفت آي" Private Eye التي لم تتمكن من معرفة الجهة الممولة لهذا الكيان، يعترف المجلس بتركيزه خصوصاً على معاداة السامية وما يعده سردية مناهضة لإسرائيل في وسائل الإعلام. هذا وتعاون كوهين أيضاً مع مؤسسة أخرى تحمل اسماً مبهماً آخر أيضاً هو "كاميرا يو كي" Camera UK، من أجل إعداد تقرير آخر يسلط الضوء على تحيز مؤسسة "بي بي سي" المزعوم ضد إسرائيل.
وغالباً ما تحتفي بهذه التقارير وسائل الإعلام التي تنحاز غريزياً إلى صف إسرائيل، أو –وهي فئة تتداخل معها– تبغض الـ"بي بي سي". لذا، كان من المحرج لبعض الصحافيين هذا الأسبوع صدور تقرير من 188 صفحة يزعم أن "بي بي سي" ليست منحازة ضد إسرائيل، بل منحازة لها.
التقرير الذي نُشر الأسبوع الماضي لاقى تأييد عدد من الشخصيات البارزة، منهم البارونة المحترمة سعيدة وارسي الرئيسة السابقة لحزب المحافظين، وأول امرأة مسلمة تشغل منصباً وزارياً في بريطانيا. وعلقت على الموضوع قائلة "هذا ليس نقداً انتقائياً [متحيزاً]. ولكنه لائحة اتهام شاملة قائمة على الأدلة لا يمكن تجاهلها"، ولكن في الواقع تم تجاهل التقرير.
وتضمنت نتائج التقرير مزاعم بأن هيئة "بي بي سي"، تضفي طابعاً إنسانياً على الضحايا من الإسرائيليين، فيما هي تجرد خلال الوقت نفسه الفلسطينيين من إنسانيتهم، وأن أنباء قتلى الفلسطينيين تصبح جزءاً من عناوين الأخبار بصورة أقل [من قتلى الإسرائيليين]، وأن هناك اختلالاً كبيراً في توزيع التقارير عن القتلى، وأن هيئة "بي بي سي" لا تنصف [ولا تمنح مساحة] للمتعاطفين مع الفلسطينيين، وأن السياق التاريخي للصراع يُهمش. ويجادل التقرير بأن "بي بي سي"، تحجب أو تقلل من شأن المزاعم بوقوع الإبادة الجماعية والاعتداءات على حرية الصحافة، وغيرها من الموضوعات ذات الصلة.
قد تتفق أو تختلف مع ما ورد في التقرير، لكن المرجح أنك لم تسمع به أصلاً. فلا يبدو أن أية وسيلة إعلام رئيسة أولت الأمر اهتماماً، وكأن التقرير تبخر دون أثر.
وحده كاتب مقالات الرأي السياسية السابق في صحيفتي "ميل" و"تليغراف" بيتر أوبورن والمدون الحائز على جوائز، وصف التقرير بأنه "فحص دقيق وشامل لتغطية هيئة ’بي بي سي‘". وهذا لم يلق استحساناً من كوليير الذي غرد قائلاً "في أحسن الأحوال، هذا تقرير سخيف ومليء بالأخطاء". وضمن منشور آخر، أشار إلى أن الجهة التي أصدرت التقرير، "مركز رصد الإعلام" Centre for Media Monitoring، تموَّل من قبل "مجلس المسلمين في بريطانيا" Muslim Council for Britain، وسخر قائلاً "يا له من هراء مطلق".
بعض حتى انتقدوا استخدام معدي التقرير تقنية "نماذج لغوية ضخمة" لدعم أبحاثهم. لكن لم يزعجهم في المقابل أن تقرير آسرسون استخدم "تشات جي بي تي" لإعداد تقريره.
ومن غير المستغرب أن يرعى مجلس المسلمين في بريطانيا تقريراً ينتقد "بي بي سي" على خلفية تحيزها لإسرائيل. تماماً كما أنه من غير المرجح أن يعترف كوليير أو آسرسون أو كوهين يوماً بأن "بي بي سي" منحازة لإسرائيل.
لكن ما يثير القلق هنا هو غياب التوازن. فالجهات المؤيدة لإسرائيل، ذات الأسماء الباهتة، أكثر عدداً وتمويلاً من نظيراتها المؤيدة للفلسطينيين، فالفريق الأول لديه عدد أكبر من الصحافيين المستعدين لتضخيم وإلقاء الضوء على تقاريرهم في وسائل الإعلام الرئيسة البريطانية.
على مر الأعوام، شهدنا كيف تبنى الروايات وتتجذر. وعندما يظهر أحدهم ويطرح سردية مضادة، فإنه عادة ما يتم تجاهله. وقد يكون من غير اللائق وصف ذلك بالتفكير الجماعي، ولكن في أقل تقدير فإن هناك خللاً في التوازن. وهذا طبعاً الاتهام الذي يوجه إلى "بي بي سي".
كل هذا يدفع المرء إلى الشعور بشيء من الحنين إلى رونسون وحكمه الصريحة عن "الحمقى". كان كل شيء واضحاً، لا لبس فيه.
© The Independent