ملخص
يدور فيلم المخرج المصري الفرنسي نمير عبدالمسيح "الحياة بعد سهام" حول واقع الأسرة بعد موت الأم، وانعكاس هذا الأمر على الابن تحديداً.
في الأفلام التي شاهدناها هذا العام في مهرجان "كان"، تصدرت العائلة اهتمامات السينمائيين، بوصفها مساحة متخلخلة قابلة للتفتت، ولكن بنظرة فيها الكثير من الحنين والالتباس. رأينا كثيراً من الأمهات اللاتي يعدن بعد رحيلهن، جسدياً أو معنوياً، من دون أن يكن بالضرورة أيقونات منزهة، كأن السينما وجدت فجأة ما يكفي من الشجاعة لتحدق في عيونهن.
هذا الفضاء هو ما يشتغل عليه المخرج المصري الفرنسي نمير عبدالمسيح في فيلمه الوثائقي الأحدث، "الحياة بعد سهام"، الذي عرض ضمن تظاهرة "أسيد" في كان. فبعد موت أمه سهام، يحاول عبدالمسيح فهم ماذا حدث، وكيف للأم أن تترك أولادها وترحل بهذه البساطة. انطلاقاً من هذه الفاجعة، أراد أن يعرف، أن يعود إلى الجذور، أن يفتح الأبواب المغلقة بعد ما صمتت الأم، وبقي هو وحده أمام جملة من الأسئلة المتراكمة، تلك التي لا تطرح إلا بعد الفقد. كان قد بدأ هذا النبش حين كانت حية. ولكن ثمة فرقاً بين أن تطرح سؤالاً وأنت تعلم أن هناك من قد يجيب، وأن تطرحه وقد أصبحت الإجابة نفسها مستحيلة. من سؤال إلى آخر، نشهد على قصة أسرية تقفز بنا على مستوى المكان بين مصر وفرنسا، وزمنياً بين الستينيات واليوم.
ربط عبدالمسيح "مصيره" مخرجاً بمصير عائلته، فالفترة التي استغرقها تصوير الفيلم لا تقاس فقط بعدد الأيام، بل بعمق التجربة ككل. يحتاج المرء إلى أن يعيش قبل أن يمر خلف الكاميرا ويقدم هذا النوع من التوثيق. ولذلك، يصح القول إن الفجوة الزمنية التي بين جديده وفيلمه السابق، "العذراء والأقباط وأنا"، هي نتيجة حتمية لتكريس أكثر من عقد من الزمن لالتقاط التجربة الشخصية وتوظيفها في سبيل الفن.
انطلق الفيلم في وجدان عبدالمسيح عند موت والديه، فرحيلهما بنظره، لا بد أن يكون شيئاً مستحيلاً، إذ إن الأبوين في نظره لا يرحلان، وهذه قناعة الطفل الذي لا يزال هو. يقول "السينما هي وسيلة لقبول فكرة مفادها أننا سنرحل".
من فجوة بين ما يقال ولا يقال، ولد هذا الفيلم المرهف. سهام، الأم، رحلت أولاً. تركت لابنها مهمة تنفيذ وعد، أو ربما هو من اختلقه كي يمنح هذه الرحلة هدفاً. نكتشف معه أن سهام لم تكن أماً عادية، بل كانت جداراً داخلياً في روحه، ظل يتكئ عليه حتى حين تمرد. أما الأب، وجيه، فبقي أطول قليلاً. لكنه ظل أباً على طريقته: غامضاً، غارقاً في تحفظه وخشيته من الكلمات. اختار المنفى الداخلي، لا الجغرافي فقط.
على حد السكين
الفيلم يسير على حد السكين بين التوثيق الشخصي والبحث الوجودي، مدركاً فخاخ الوثائقي العائلي حدوده والمجالات التي يفتحها أمام السينمائي. بين مصر، التي تمثل جذور العائلة، وفرنسا التي تحتضن حاضرها ومستقبلها، تتقاطع الأزمنة وتتداخل الصور: لقطات أرشيف، "هوم فيديو"، حكايات غير مكتملة، وجوه تنكمش بفعل الذكرى. كل شيء يروى من جديد، كما لو أن الماضي لا يفهم إلا حين يعاد ترتيبه في ضوء الغياب. لكن ما يهم ليس التاريخ، بل كيف نحمله. كيف يصبح الوطن شيئاً داخلياً، لا مكاناً فحسب. وكيف تتحول الأم من شخص إلى سؤال، إلى وجع لا يعرف إن كان يخصنا وحدنا، أم هو حزن قديم توارثناه من دون أن ندري.
ينطلق الفيلم من السرد العائلي التقليدي، لكنه يتولى تدريجاً في كشف طبقات أعمق، ليتبدى كم أن الحقيقة متعددة الأوجه، تتفاوت بين رواية الأم ورواية الأب، مما يضفي على الفيلم تعقيداً. هناك لقطات من أزمنة وأماكن مختلفة، يجمع بينها أرشيف شخصي وعام، ليكون بذلك تركيبة بصرية ووجدانية متماسكة. وهو يشكل حواراً ضمنياً مع السينما المصرية، من خلال أفلام يوسف شاهين، يسهم في التفاعل بين الواقع والخيال.
يحاول عبدالمسيح أن يفهم نفسه من خلال والديه. مع ذلك الفيلم لا يعد بشفاء، إذ يقترح فقط طريقة للتأقلم مع الفقد، مع تضارب الروايات، مع حقيقة أنه لا أحد يروي القصة نفسها، بالطريقة ذاتها. فالأم قالت شيئاً، والأب قال غيره، والابن يقف بين الروايتين، كمن يحاول أن يبني بيتاً على رمال متحركة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تتجلى في الفيلم مواضيع الذاكرة والهجرة وغيرهما، والإصرار على العيش بكرامة. ترد، في شكل عابر، مناقشة حول مفهوم الوطن، ليس كمكان جغرافي، إنما كلحظة تردد أصدائه في وعي العرب والأفارقة الذين أصبحوا جزءاً من النسيج الاجتماعي الأوروبي، بينما يظل وطن أهلهم الأصلي محفوظاً في ذاكرة تروى للأجيال. يتناول الفيلم قضايا مهمة وحساسة، لكنه لا يغوص فيها عميقاً كما كان ينبغي، يترك انطباعاً حسياً لا أكثر.
رغم الجهود، تبقى هوية الفيلم ضائعة بين الريبورتاج الجيد والفيلم الذي يخلو من اللغة السينمائية. هناك قصور بنيوي، لكن، على رغم هذا كله، يبقى محل تقدير لما يحمل من إخلاص للفكرة، خصوصاً في نقله للزمن. ثمة أفكار لماحة تعطيه شرعية فنية، ولو نه لا يدركه، كرحيل الأم تاركة وراءها طفلاً يولد (طفل نمير). يعالج عبدالمسيح هذه القصص بحس رقيق ومدروس، فيظهر كشخص متحفظ مثل والده، لا يكشف بسهولة عما يختلج في داخله. الفيلم وسيلته للتعبير عن مشاعر وأفكار كان يصعب عليه البوح بها، مما يجعل السينما أداة لاكتشاف الذات والتصالح معها.