ملخص
تبدو مذكرات سيدة المسرح الراحلة سميحة أيوب، جديرة بالقرارة مجدداً بالتوازي مع رحيلها في الـ93 من عمرها، فهي من القلائل في جيلها اللاتي حرصن على توثيق مسيرتهن بين دفتي كتاب، فقد أفصحت عن خبايا حياتها الشخصية وتقاطعها مع تألقها الفني من دون كثير من المواربة، سواء في ما يتعلق بزيجاتها ودرامية قصتها تحديداً مع الفنان محمود مرسي، وكفاحها ضد تعنت من حولها بعد إصرارها على احتراف الفن، وقبل كل ذلك كيف وثقت لتطور المسرح العربي باعتبارها سيدته الأكثر استمرارية وقوة.
كانت تطمح سميحة أيوب (1932 – 2025) إلى أن تصبح راقصة باليه، ثم تعاملت مع الغناء بجدية وقضت وقتاً في التدريب، إلا أنها أصبحت ممثلة بعدما دخلت معهد الفنون المسرحية طمعاً في راتب شهري ضخم في الأربعينيات (6 جنيهات). المخرج والمؤلف والرائد المسرحي زكي طليمات لم يكن مقتنعاً بموهبتها في البداية ثم أصبحت تلميذته المدللة. زاملت يوماً بيوم فاتن حمامة في المعهد وفي التكريمات كذلك، لكن كانت سميحة أيوب أكثر إخلاصاً للمسرح، على رغم دأبها السينمائي والعلامات المهمة التي قدمتها على الشاشة الكبيرة.
مسيرة سميحة أيوب من الأطول في عالم الفن، إذ اقترب مشوارها الفني من الـ80 عاماً، كان آخر أعمالها العام الماضي وهو فيلم "ليلة العيد"، حيث عرض بينما كانت تخطو نحو عامها الـ92، ومن خلال كتابها "ذكرياتي" لن يستغرب القارئ أبداً كيف لامرأة في عمرها أن تستمر بالعطاء بنفس المحبة، حتى لو خانتها الحركة بعض الشيء، فالكتاب الذي يقع في نحو 600 صفحة، يكشف كيف نسجت سميحة أيوب علاقتها بالفن، وكيف عاشت مراهقتها وربما طفولتها على خشبة المسرح، وفي ما بعد عشقها ميكروفون الإذاعة وكاميرا السينما وشاشة التلفزيون.
سميحة أيوب، تحكي بغزارة وكأنها لن تتوقف أبداً في مذكراتها التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب قبل نحو 22 عاماً ولم تأخذ حقها من الاهتمام الذي تستحق.
السجينة
تعرف سميحة أيوب كيف تصيب بالكلمات، تماماً كما تعرف كيف تطلق مشاعرها على الشاشة بنفس الثبات والقوة، من دون أن تخشى أحداً. تلمح إلى غيرة زميلاتها منها في سطر، وفي السطر الثاني تشيد ببراعة أدائهن بمنتهى البساطة ولسان حالها يقول، هذه نقرة وهذه نقرة، مثلما فعلت مع سهير البابلي التي اتهمتها في وجهها بأنها مع زملاء آخرين كانوا يرغبون أن تنفصل عن الفنان محمود مرسي، وقد كان لهم ما أرادوا، لكنها على بعد صفحات قليلة تتغزل في أداء سهير البابلي في عرض مسرحي وتذوب فيه عشقاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سيدة المسرح العربي، ابنة حي شبرا، التي تخرجت في المدارس الفرنسية، وطافت بلاداً كثيرة وهي في مقتبل حياتها تستعرض موهبتها، كاد الحب يعوق مسيرتها، لكن عاد الحب نفسه لينقذها مجدداً، فلم تمل سميحة أيوب من الوقوف أمام عائلتها التي رفضت بشدة احترافها التمثيل، بل قاطعت أباها لهذا السبب، لتعود بعد أعوام من اقتناع نصف الأسرة بمهنة لم تكن شائعة للنساء في هذا الوقت، وتهددهم بأنها ستترك البيت وتهرب إذا لم يزوجوها الفنان محسن سرحان، وبالفعل يرضخون، لتتفاجأ بأنها ذهبت بقدميها إلى السجن، فالفنان الشهير كان يحبسها في المنزل بسبب غيرته المرضية عليها، وفقاً للمذكرات، وجعلها تترك دراستها ومنعها من التمثيل، ولم تتحرر من هذه العلاقة إلا بعدما تنازلت عن جميع مستحقاتها المالية.
الحب والحرب والثورة
هذا الاسم الذي جاء إليها مجدداً في هيئة حب أسطوري وقصة مليئة باللمحات الرومانسية التي تشبه سحر السينما ومأسويتها كذلك. فالنجم محمود مرسي كان قصة الحب الاستثنائية في حياة سميحة أيوب، لكنها انتهت بصورة مدوية، لتترك النجمة الكبيرة في دوامة من الأسى لم تفق منها بسهولة، حيث ضاق مرسي ذرعاً أيضاً باهتمامها بعملها وقضائها وقتاً طويلاً في التصوير والبروفات وطلقها غيابياً، بينما ظل ابنهما علاء حلقة وصل ودلالة المودة الدائمة بينهما.
في المذكرات الشجاعة تحكي سميحة أيوب عن تعقيدات الحب ومنعطفات السياسة والاقتصاد والأدب والفنون، متعثرة في أسماء ترصد التحول المجتمعي والثقافي في كل عصر، فالأديب البارز بهاء طاهر كان شاهدها على محطات قصتها مع محمود مرسي، وبعد اكتئابها الشديد عوضت بصديق مخلص هو الصحافي السياسي إبراهيم عامر، حيث تذكر كيف وقع خبر وفاته كالصاعقة عليها، إذ فارق الحياة إثر إصابته في اعتداء القذائف الذي ضربت به صحيفة "بيروت" وكان أحد مؤسسيها، وذلك في بدايات الحرب الأهلية في لبنان، مما أفقدها التوازن النفسي أيضاً بعض الوقت.
خاضت سميحة أيوب معارك الحياة طولاً وعرضاً، وانتظمت في تمردات شتى، فعلى رغم وقوفها إلى جانب ثورة يوليو (تموز)، فإنها لم تخف رفضها للتعنت الذي حدث لأستاذها زكي طليمات بعد إقصائه عن المشهد الثقافي في تلك الفترة، إضافة إلى تسميتها يوسف وهبي "الديكتاتور" بعدما وضعته "لجنة التطهير" على رأس الفرقة المسرحية التي تعمل بها، كما أبدت اعتراضاتها على التغييرات الصحافية التي جرت عام 1964 في الصحف الكبرى، وسمتها مذبحة ومهزلة، إذ تم نقل خيرة الكتاب بجرة قلم إلى جرائد أخرى.
سيدة قرارها
وعلى رغم أن ما تسرده سميحة أيوب في الكتاب الذي يحظى بتقديم رفيع للكاتبين سناء البيسي ورجاء النقاش، تفضل أن تسميه "ذكريات" وليس "مذكرات موثقة"، إلا أنها تؤرخ فيه بصورة سلسة لتطورات الحياة في مصر منذ أربعينيات القرن الماضي، بخاصة في ما يتعلق باستقلال النساء، وسعيهن للإمساك بزمام حيواتهن، فقد أقدمت على إجراء جراحة ولادة قيصرية في ستينيات القرن الماضي، وهو أمر كان شديد الندرة، على رغم رفض غالبية من حولها لهذا القرار، حيث كان هذا الأمر حدثاً كبيراً للغاية.
كذلك لم تأبه سميحة أيوب بحرمانها من ميراث أبيها اعتراضاً على عملها بالفن، وأصرت على أن تنفق على نفسها في وقت باكر من مسيرتها، بل وأقامت في بيت حصلت عليه بمالها الخاص وهي في مقتبل الشباب، كذلك واجهت "كلام الناس" بكل حزم وحسم، ففي بداية معرفتها بالكاتب المسرحي الأبرز سعد الدين وهبة، فوجئت بأنه حتى زملاء الوسط يلوكون سيرتها ووصل الأمر إلى والدتها، فما كان من سميحة أيوب، سيدة قراراها، إلا أن ذهبت فوراً إلى المأذون وعقدت قرانها على وهبة لتستمر زيجتهما 30 عاماً، قدما خلالها معاً كثيراً من المسرحيات الناجحة والراسخة، وكل منهما حقق نجاحات منفصلة لا تزال ذات صدى وبصمة حتى اليوم.
المخرجة سميحة أيوب
وعلى رغم أن السبعينيات شهدت ما يمكن تسميته الهبوط السينمائي في مسيرة سميحة أيوب بفعل متغيرات كثيرة، فإنها أيضاً شهدت بدء انطلاقتها التلفزيونية، واستمرت أيضاً في متابعة عملها المسرحي، حيث يمتلئ الكتاب بتفاصيل النهضة التي صنعها جلال الشرقاوي وسعد أردش وكرم مطاوع، ولويس عوض، وأمينة رزق وسناء جميل، إلى جانب سعد الدين وهبة بطبيعة الحال، الذي شهدت فترة رئاسته أيضاً مهرجان القاهرة السينمائي الدولي على مدى 12 عاماً بريقاً خاصاً.
ارتبط اسم سميحة أيوب بمسرحيات مهمة مثل "دائرة الطباشير القوقازية" و"المومس الفاضلة" و"رابعة العدوية" و"السلطان الحائر" و"فيدرا"، إذ قدمت شخصيات من عوالم بريخت وجان بول سارتر وشكسبير وتوفيق الحكيم وغيرهم، فيما التجربة الفنية والإنسانية والمهنية لسميحة أيوب من خلال مذكراتها شهدت كفاحاً على أكثر من مستوى. ففي حين كانت احترفت الفن بعد دراسة وتدريب وخبرة، إلا أنها كانت تواجه رفضاً من بعض زملائها، لا سيما حينما احترفت الإخراج المسرحي، إذ صدمت من عدم تقبلهم لها كامرأة لتكون قائدة العمل، وهي التي تربت في أروقة المسرح.
بطلة جان بول سارتر المفضلة
كذلك أدارت سميحة أيوب المسرح الحديث ثم المسرح القومي كذلك، وخاضت صراعات قانونية مع الأجهزة الرسمية بعد إبعادها عن منصبها ثم ربحت القضية، وتمتعت بعلاقات وطيدة مع غالبية المسؤولين السياسيين الكبار، وكان لها لدى جمال عبدالناصر مكانة خاصة، إذ تكشف المذكرات كيف شعرت بالحسرة عقب إعلان نبأ وفاته، وظلت لأعوام طويلة تتمتع بعلاقات صداقة مع عائلته، وبينهم ابنته هدى عبدالناصر.
سيرة سميحة أيوب الحافلة لم يكفها بالطبع كتاب واحد، فإلى جانب الكتاب الذي سردت فيه قصتها على لسانها عام 2003، واقتطعت جزءاً ليس هيناً منه لحكايات رفيق دربها الكاتب سعد الدين وهبة، هناك تجارب متعددة كشفت جوانب أخرى من رحلتها، بينها كتاب "أسطورة المسرح العربي" لأيمن الحكيم الذي صدر مطلع العام الحالي، حيث يكشف الكتاب ذكريات سميحة أيوب مع الكاتب الفرنسي جان بول سارتر "1905 - 1980" في ستينيات القرن الماضي، وذلك حينما ذهل من أدائها لشخصية إلكترا في مسرحيته "الندم"، والمعروفة أيضاً باسم "الذباب"، وعلى رغم أنها حاولت الهرب من المسرح كي لا تلتقي به خوفاً من ألا يعجبه أداؤها، فإنه لخص إعجابه بها قائلاً "لقد وجدت أخيراً إلكترا في القاهرة"، كذلك يسرد الكتاب كيف منحت سميحة أيوب عمرها للمسرح، ولم تكن مهتمة بأن تجني من ورائه ثروة، بل كانت مشغولة بالمساهمة في نهضة هذا الفن.