ملخص
المفارقة الأقسى أن خطاب رئيس مجلس القيادة اليميني رشاد العليمي في القمة العربية، الذي يحذر من خطر الجماعة الحوثية ويصفها - بحق - كميليشيات عقائدية لا تؤمن بالدولة، لا ينعكس داخل بنية السلطة الشرعية سوى على شكل بيانات متكررة
في لحظات التحول الكبرى، لا تعود اللغة مجرد أداة تواصل، بل تصبح اختباراً لمقدار ما تبقى من معنى في السياسة. ذلك أن الخطاب الرسمي، حين يتكرر من دون أثر فاعل على الأرض، لا يكشف عن مدى قوة الدولة، بل عن عدم قدرتها على إقناع ذاتها قبل الآخرين بقدرتها على الفعل. وهنا لا يتعلق الأمر بفصاحة القول، بل بفجوة متسعة بين ما يقال وما ينجز، بين طمأنينة تقال في العلن، وارتباك يدار في الخفاء. فحين يغدو الخطاب فعلاً وحيداً في زمن يتطلب أفعالاً صارمة، يصبح من المشروع أن نسأل: هل ما نسمعه يمثل بداية فعلية لاستعادة الدولة، أم أنه امتداد لسلسلة من الأقوال التي قالت الشيء نفسه، من دون أن تفعل شيئاً على الإطلاق؟
حين تتكرر الخطب، تستنزف اللغة. وحين يؤكد فخامة رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني الدكتور رشاد العليمي مجدداً في قمة عربية جديدة، أن اليمن سيظل عمقاً وسنداً وشريكاً، فإن السؤال لا يتعلق بما قيل، بل بما لم يفعل بعد. لأن القيمة الرمزية لأي خطاب لا تقاس بما يحمله من شعارات قومية أو صيغ طمأنينة موقتة، بل بما يملكه من قدرة على صناعة التحول، وتحويل القول إلى سياسة، والسياسة إلى استعادة حقيقية لوظيفة الدولة.
لكن جوهر الإشكال - في تصوري - لا يكمن في الخطاب ذاته، المشار إليه بعاليه، على رغم أهميته بلا شك، بل في غياب الآليات التي تجعله ملزماً لمن يفترض أنهم [المعنيون بترجمته]، إذ لا تزال البنية الداخلية للشرعية أقرب إلى تحالف غير متين بين مشاريع متضادة، منها إلى سلطة قوية موحدة تدير صراعاً وجودياً بمستوى التهديد القائم.
وعلى رغم أن رئيس مجلس القيادة الرئاسي الدكتور رشاد العليمي، المعروف بحنكته وإلمامه بتفاصيل المشهد السياسي، أثبت مرونة وتفهماً غير عاديين لصعوبة الوضع وتراكماته المعقدة، أسقطا رهان عدم قدرة المجلس على الصمود لفترة ستة أشهر حال تأسيسه وفق إعلان نقل السلطة من رئيس الجمهورية اليمنية عبدربه منصور هادي في السابع من أبريل (نيسان) 2022، إلا أن التحدي لم يكن يوماً في البقاء، بل في نوعية الفعل ومقدار التحول. فكيف يمكن لسلطة أن تخوض معركة استعادة الدولة بينما يتنازع أطرافها توصيف العدو، ويختلفون على تعريف الوطن، بل وعلى هوية الكيان الذي يفترض أن يستعاد؟
هذه الهوة بين اللغة والمؤسسة، بين الموقف والتطبيق، تبقي القول في دائرة الطموح، من دون أن ترفعه إلى مقام الفعل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن مشروع الحوثية الذي تصفه الرئاسة - محقة فعلاً - بأنه تهديد وجودي، ليس مشروعاً عابراً لكي يكتفى حياله بالتوصيف والانتظار، فالفارق الجوهري بين جماعة تحمل مشروعاً سلالياً بغيضاً، وسلطة شرعية لم تحسم خيارها بعد، ليس في من يملك الحق، بل في من يملك الإرادة. والإرادة هنا ليست إعلان النوايا، بل التزام استراتيجي يتجاوز خطاب القمم، ليعيد تعريف معنى الشرعية كفعل لا كلقب، وككيان جامع لا كمجموعة مكونات متنازعة على شكل الدولة قبل استعادتها.
ولعل المفارقة الأقسى أن الخطاب ذاته، الذي يحذر من خطر الجماعة الحوثية ويصفها - بحق - كميليشيات عقائدية لا تؤمن بالدولة، لا ينعكس داخل بنية السلطة الشرعية سوى على شكل بيانات متكررة، تفتقر إلى ما يجعلها إطاراً جامعاً لإرادة وطنية صلبة. فما الجدوى من رصد تهديد خارجي إذا كانت مؤسسات الداخل مفرغة من محتواها السيادي والوطني، ومنهكة بمنطق المحاصصة والصراع بين مكونات تتبنى سرديات متضادة؟
من هنا، فإن الكلمات مهما بلغت من فصاحة، لا تسقط الميليشيات، ولا تحمي الهوية الوطنية من التشظي. فمشروع استعادة الدولة يبدأ حيث ينتهي التردد، وينهض حين تجابه الفوضى بوحدة قرار: سياسي وعسكري في آن، وتفعل النصوص بإرادة لا ترتجف. وقد طال بنا الزمن والانتظار، حتى بات من المشروع أن نسأل: متى يصبح مجلس القيادة الرئاسي تجسيداً للدولة، لا مجرد ممثل مؤجل لها؟ وهل يكفي أن نخطب في بغداد بينما مجلس القيادة الرئاسي نفسه لا يعلم متى يمكنه فعلاً استعادة الدولة وقد طال انتظارها وكأنها مجرد سراب؟
فالكلام على حافة الهاوية لا يكفي، إن لم يترجم إلى خطوة حاسمة نحو الدولة الواحدة، والقرار الواحد، والمصير المشترك.
إن السلطة التي تكرر القول من دون أن تلامس الفعل، تشبه من يمسك خريطة ولا يجرؤ على السير فيها. فاستعادة الدولة لا تتم بالخطب، بل بإعادة تعريف العلاقة بين الكلمة والقرار، وبين الخطاب والنتيجة. وكل خطاب لا يخلق واقعه، دال على عدم قدرة ماثلة على الأرض، بل وتصبح الكلمة عبئاً إن لم تكن مرآة لفعل شجاع وحاسم.