Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سقوط النظام السوري... يوم فتحت دفاتر الدم

فوضى تجتاح البلاد من أقصاها إلى أدناها ورسائل دولية حازمة للقيادة الجديدة: "أوقفوا الثأر، نحن نراقبكم"

أحد أفراد قوات الأمن التابعة للحكومة السورية الجديدة يقف بجوار سيارة شرطة في بلدة جبلة في محافظة اللاذقية الساحلية في 10 مارس الماضي (أ ف ب)

ملخص

كيف تفوق الثأر بعد سقوط النظام السوري على بناء الدولة في العقلية المدنية؟ عناصر منفلتة أو منضبطة لا فرق لدى السوريين، فالثورة لم تحقق أهم أهدافها وهو "الأمان"، وتمييع "العدالة الانتقالية" حوَّل المشهد السوري نحو "العدالة الثورية".

خلال الـ21 من أبريل (نيسان) الجاري، نشر "معهد واشنطن للحرب" تحديثاً جديداً له حول سوريا تحدث فيه عن تصاعد لافت في عمليات الانتقام والثأر، تنفذها مجموعات معارضة سابقة في حق عناصر كانوا يتبعون لنظام الرئيس السابق بشار الأسد. ووصف المركز ما يحصل بـ"العمليات الانتقامية" في سياق فشل الحكومة السورية الجديدة في تحقيق عدالة انتقالية جدية، تراعي محاسبة ومحاكمة المتورطين الفعليين في الجرائم المرتكبة بحق السوريين زمن الثورة.

رسائل التقرير الأول

أشار التقرير إلى تشكيل جماعة ثورية في محافظة حلب عرفت باسم "قوة المهام الخاصة"، هدفها اغتيال عناصر النظام السابق والموالين لهم، وباشرت هذه القوة مهامها بتتبع الأفراد بعد سلسلة واسعة من حالات الانتقام الجماعي والفردي المنظم وغير المنظم داخل مدن سورية أخرى، سقط على أثرها آلاف الضحايا خلال أربعة أشهر من انتصار الثورة مع خطف وتغييب آلاف آخرين، في ظل تعتيم شامل وانتفاء إمكانية إجراء إحصاءات موضوعية موثقة على الأرض من قبل جهات تتداخل فيها اللجان الأهلية مع الأممية.
ويؤكد المعهد الدولي أن هذه العمليات بغض النظر عن دوافعها، إلا أنها لا تعكس سوى نهج غياب العدالة الانتقالية، مما يجعل تجاهل ملف المحاسبة الفعلي إعادة لإنتاج دائرة عنف موسعة، وكل ذلك مجتمعاً، وفق التقرير، يهدد شرعية الحكومية الانتقالية القائمة بحد ذاتها.
ويخلص التقرير إلى نتيجة مفادها أن الحكومة الانتقالية السورية باتت أمام اختبار جدي وحاسم، فإما المضي نحو محاكمة رموز النظام السابق بجدية وفعالية ضمن أطر شفافة وقانونية نزيهة، أو الانزلاق نحو مغبة ترك أمر تحقيق العدالة لأفراد وجماعات غير منضبطة، مما يهدد من جديد استقرار البلد خلال مرحلته الانتقالية بأسرها. واعتمد المعهد في دراسته على 91 مصدراً بحثياً واطلاعياً.

جماعة "أنصار السنة" – الرسالة الثانية

بعد يومين فقط من دراسة المعهد تلك، نشر دراسة جديدة استندت إلى 95 مرجعاً تناول فيها بصورة مطولة ملفات إيرانية-أردنية-عراقية ترتبط بسوريا، مع التركيز المباشر والمحوري نحو الأخيرة، وجاء فيها تنفيذ فصائل مسلحة مقربة أيديولوجياً من تنظيم "داعش" أو فكره عمليات قتل وانتقام وثأر بحق من تعتقد أنهم يرتبطون بنظام الأسد السابق.
وركز التقرير في سياقه على جماعة "أنصار السنة" المتشددة والمتطرفة، مشيراً إلى مسؤوليتهم عن قتل كثير من الأشخاص في حلب والساحل السوري وتهديدهم بمهاجمة محافظة السويداء الدرزية جنوب سوريا. وتعتمد الجماعة تكفير "المرتدين" الذين حاربوا "داعش" خلال مراحل سابقة، معتبرة أن هذا التنظيم يمثل رؤية الإسلام الصحيح، لذا فهي تشاركه العقيدة والموقف والتصور والدعم، بالتالي هي تعارض أنصار الأسد والحكومة الانتقالية، وترى في الطرفين هدفاً في آن، غير مستبعدة قتال الطرفين نهاية المطاف. ويعد "الأنصار" من ذوي الفكر الميال للحكم الإسلامي المطلق وفق الشريعة، مبينين إمكانية إحداث تعاون أو اندماج مع "داعش"، على أن يعلنوا عن الأمر فور حدوثه.
وورد في التقرير نصاً "من المرجح أن تسعى سرايا ’أنصار السنة‘ إلى زعزعة استقرار عملية الانتقال السياسي الهشة داخل سوريا، في إطار مساعيها لإقامة دولة إسلامية. وتعارض الجماعة دولةً سورية تضم العلويين والدروز والشيعة، مما يشير إلى معارضتها للعملية الانتقالية الجارية. وقد يكون قتل الجماعة لسوريين يعدون مقربين من نظام الأسد يهدف إلى تأجيج الصراع المتجدد بين عناصر نظام الأسد والحكومة الانتقالية. ويمكن أن تولد عمليات القتل هذه دعماً للجماعة من الإسلاميين الطائفيين الآخرين، وتشجع الموالين للأسد على إعادة تنظيم صفوفهم عسكرياً للدفاع عن أنفسهم. ومن المرجح أن تتمكن سرايا ’أنصار السنة‘ من استقطاب بعض المتشددين الطائفيين الذين شكلوا بالفعل مجموعات حراسة لمهاجمة الموالين للأسد، ويمكن لقوة معاد تنظيمها من الموالين للأسد أن تشكل تهديداً خطراً للحكومة الانتقالية، ويمكن أن تستغل سرايا ’أنصار السنة‘ التوترات الناجمة عن ذلك لتجنيد مقاتلين جدد وتشكيل معارضة مسلحة متشددة لعملية الانتقال الحالية. إن سرايا ’أنصار السنة‘ ليست قوية خلال الوقت الحالي بما يكفي لتهديد الحكومة الانتقالية بصورة جدية، على رغم أنها قد تتعزز مع مرور الوقت".
وكذلك "تستغل سرايا ’أنصار السنة‘ المظالم الحقيقية في سوريا الناجمة عن غياب العدالة الانتقالية لتبرير هجماتها على الموالين للأسد. ويعكس قتل الجماعة للموالين المزعومين للأسد اعتقاد بعض السوريين بعدم وجود عدالة للفظائع التي ارتكبها نظام الأسد، ومع ذلك فمن المرجح أن سرايا ’أنصار السنة‘ تعد معاقبة الموالين للأسد ثانوية بالنسبة إلى إقامة دولة إسلامية. ومع ذلك، فإن الجهود المتضافرة التي تبذلها الحكومة الانتقالية لمحاسبة مسؤولي الأسد السابقين من شأنها أن تقوض رسالة سرايا ’أنصار السنة‘".

من هم؟

في الفاتح من فبراير (شباط) الماضي، أعلن المتشدد أبو عائشة الشامي مغادرته صفوف "هيئة تحرير الشام" وإنشاء جماعة "أنصار السنة" إيماناً منه بأن السلطة الانتقالية متساهلة مع العلويين والشيعة، وفي يوم التأسيس ذاته قتلت الجماعة 17 مدنياً في ريف حماه، وبعدهم 10 مدنيين داخل مناطق مجاورة.
وبينت المجموعة الوليدة أن هدفها النهائي هو الاستمرار حتى القضاء على العلويين والشيعة والمرتدين أو تهجيرهم خارج حدود وطنهم، سوريا، بالإكراه غالباً وعلى وقع المجازر والعنف، وحتى اليوم لم تتخذ الجماعة مقراً رسمياً لها أو تأدلجت بأبعاد مركزية فصائلية ناظمة وواضحة أكثر مما هي عشوائية تعتمد على "الفورات". وتبنت الجماعة خلال الخامس من مارس (آذار) الماضي مسؤوليتها عن إضرام الحرائق داخل جبال القرداحة والساحل. وبحسب باحثين غربيين، فإنه من غير المعلوم ما إذا كانت فعلاً قادرة على تنفيذ أهدافها وهذا الكم من العمليات التي تتبناها، لكن مما لا شك فيه أنها تعد واحدة من أخطر الجماعات المتشددة التي تتبنى عمليات الثأر، وتقض مضجع الحكومة الجديدة لشدة راديكاليتها.

العين الفرنسية

نشرت القناة الأولى الفرنسية وصحيفة "لوموند" واسعة الانتشار خلال اليومين الماضيين تقارير تشير إلى تورط فصائل مندمجة ضمن وزارة الدفاع في المجازر التي وقعت داخل الساحل السوري خلال مارس الماضي، وأسفرت عن ألفي قتيل وآلاف المفقودين. وتستند التقارير التي أوردتها الجهتان الفرنسيتان إلى حيثيات ومعطيات ميدانية تحقق منها صحافيون فرنسيون تابعوا حالات الانتقام والثأر العشوائي في المنطقة، والقصاص من مدنيين أبرياء لا علاقة لهم بمجريات الحرب. وتمكن الفرنسيون من توثيق صور ومقاطع مصورة وشهادات حية تشير إلى ارتكاب انتهاكات جسيمة ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية.
ونبهت القناة الفرنسية الأولى إلى احتمالية وجود مؤشرات خطرة لوقوع مجازر جديدة، مما يفرض ضرورة فتح تحقيق دولي نزيه وشفاف ومستقل وعادل لمساءلة كل المتورطين، أياً كانت مواقعهم وانتماءاتهم، ويأتي ذلك في ظل صخب دولي بات يدرك أن غياب العدالة الانتقالية هو ما أفضى لتعميم حال الثأر، مما يزيد من هشاشة موقف السلطة الرسمية وسط جلسات متعددة عقدها مجلس الأمن الدولي للبحث في الجرائم والتصفيات والتطهير العرقي المرتكب، تزامناً مع سيل المطالب الأميركية والبنود الثمانية التي يتمحور جزء منها حول طرد المقاتلين الأجانب من سوريا، وهو ما رد عليه الرئيس السوري أحمد الشرع في مقابلة حديثة مع صحيفة "نيويورك تايمز" مشيراً إلى إمكانية تجنيس بعض المقاتلين بسبب دورهم الفاعل وثباتهم إلى جانب الثورة، مما وضع الحكم الحالي في مأزق جديد يراه متابعون تحدياً للشروط الغربية المتعلقة بالانفتاح، ورفع العقوبات الجزئي الذي سوريا في أمس الحاجة إليه الآن.

جلسة أممية حازمة

عقد مجلس الأمن جلسة حول سوريا عشية أمس الجمعة الـ25 من أبريل (نيسان) الجاري بحضور وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، الذي قال ضمن كلمته إن السياسات الوحشية لنظام الأسد عمقت الانقسامات بين أطياف الشعب السوري، وإنهم وحدوا الفصائل العسكرية دون استثناء في إطار سوري جامع، وتعمل سوريا على ملاحقة تنظيم "داعش" الإرهابي وعلى استعداد للتعاون مع كل دول العالم لمواجهة التهديدات، متحدثاً عن انتهاء زمن القتل الممنهج والانتهاكات في سوريا، في حين أنهم سيعلنون قريباً عن هيئة للعدالة الانتقالية وهيئة للمفقودين السوريين، مع استعدادهم للتعاون مع الولايات المتحدة في شأن المفقودين، كما أن سوريا متنوعة لكنها ليست منقسمة.

الموقف الروسي

بدوره بدا المندوب الروسي أكثر حدة وصرامة خلال حديثه في الجلسة، والذي جاء فيه أن الوضع الأمني داخل سوريا ما زال هشاً. وقال "ما زلنا قلقين جداً من الوضع الأمني في محافظتي اللاذقية وطرطوس بعد المجازر الفظيعة هناك، إذ أدت إلى قتل المدنيين وبخاصة آلاف العلويين. وعدد من المدنيين العلويين الذين هربوا من العنف لم يعودوا إلى قراهم، وهناك الآلاف منهم محتمون بقاعدتنا العسكرية في حميميم وما زالوا موجودين إلى الآن، والآلاف هربوا خارج البلاد خوفاً من العنف. لذا، نطالب ’مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية‘ (OCHA) بمساعدة المدنيين في قاعدتنا والساحل. كذلك عرفنا أن لجنة التحقيق السورية مُددت ثلاثة أشهر، ونأمل في أن يستغلوا هذه الفترة للتحقيق وإصدار تقرير شفاف بحسب المعايير الدولية في الأمم المتحدة ومحاسبة المسؤولين عن المجازر. ونرجو أن يستغلوا هذا التحقيق لأنه إذا كان شفافاً فسيحدد مستقبل العلاقة بين دمشق والمجتمع العلوي وغيره من الأقليات".
وتابع المندوب الروسي "لقد عرفنا أن هناك فتيات في الساحل خُطفن. وهذا الأمر غير مقبول أبداً في أية دولة علمانية/مدنية ويجب إعادة الفتيات ومحاسبة الخاطفين بإنزال أقصى العقوبات بهم. ويجب على جميع الأقليات في سوريا ألا تحس أنها مهمشة ويجب أن تشارك في بناء أجهزة الجيش والأمن في سوريا".


الموقفان الصيني والأميركي

أما المندوب الصيني في مجلس الأمن فبين شعور دولته بقلق كبير حيال قتل المدنيين في الساحل وعموم سوريا، "المقاتلون الأجانب يقلقونا، ويجب على مجلس الأمن تطبيق قراراته في شأن الإرهاب. هنالك قتل ممنهج في الساحل السوري ووصلتنا تقارير مقلقة".
وبدورها رحبت سفيرة الولايات المتحدة لدى مجلس الأمن بمشاركة وزير الخارجية السوري في الجلسة، مشيدة بدعـم المجلس للتحقيق في الجـرائم التي ارتكـبها النظام المخلوع في سوريا. وأعربت عن أملها في تحقيق مزيد من التقدم في اتفاق "سد تشرين" بين "قسد" والحكومة السورية. وأكدت السفيرة ضرورة مساءلة جميع المسـؤولين عن أحداث الساحل، مشددة على أن "لا أحد فوق القانون". ودعت سوريا إلى تدمير أسلحة الدمار الشامل ومنع النفوذ الإيراني. وأشارت إلى أن الشعب السوري يستحق قيادة تنقله إلى مستقبل أفضل مما عاشه تحت نظام الأسد، مضيفة أن الولايات المتحدة تواصل مراقبة أفعال السلطات السورية الجديدة.
وفي سياق متصل، دعت السفيرة الأميركية الدول إلى تسريع عملية ترحيل مواطنيها من عناصر "داعش" الموجودين في سوريا، مؤكدة أن القوات الأميركية قامت بكل الخطوات اللازمة لمنع إعادة ظهور تنظـيم "داعش". وأكدت أن القيادة المركزية ستظل جاهزة لرد أي عمل إرهابي من التنظيم، مع التنسيق المستمر مع "قسد".

إدارة التوحش

في كتابه الشهير "إدارة التوحش" الذي صدر عام 2004 لكاتبه المتشدد أبو بكر ناجي يشرح مفصلاً عن قوانين وأسس "الجهاد المحلي والخارجي العابر للحدود"، حتى صار الكتاب الذي يتحدث عن مرحلة إدارة الفوضى والتوحش ما بعد مرحلة سقوط الأنظمة مرجعاً عالمياً للمهتمين والباحثين، وترجمه مركز مكافحة الإرهاب في كلية "ويست بوينت" الأميركية العسكرية ووزع نسخاً منه على المسؤولين في الدوائر السياسية للحكومة الأميركية وعلى مسؤولي وقادة وزارة الدفاع.
ولعل أبرز ما جاء في الكتاب المرجعي هو ما حملته فقرة "أخطر مرحلة"، والتي تقول "إن إدارة التوحش هي المرحلة المقبلة التي ستمر بها الأمة وتعد أخطر مرحلة، فإذا نجحنا في إدارة هذا التوحش ستكون تلك المرحلة -بإذن الله- هي المعبر لدولة الإسلام المنتظرة منذ سقوط الخلافة، وإذا أخفقنا -أعاذنا الله من ذلك- لا يعني ذلك انتهاء الأمر، ولكن هذا الإخفاق سيؤدي إلى مزيد من التوحش". ويضيف الكاتب أن "هذا المزيد من التوحش الذي قد ينتج من الإخفاق لا يعني أنه أسوأ مما هو عليه الوضع الآن أو من قبل في العقود الماضية، بل إن أفحش درجات التوحش هي أخف من الاستقرار تحت نظام الكفر بدرجات".
وضمن هذه المراوحة الفكرية من واحد من ضمن آلاف الكتب التي تتحدث عن التشدد، يمكن تفسير الحال السورية التي باتت محمولة على الثأر، بأنها بلغت حد التطهير والاستئثار.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في الداخل

في خضم التطورات المتسارعة المقلقة والتي تعكس حالاً من الانفلات والفوضى، انتشر خلال الأيام الماضية مقطع مصور حديث التسجيل بثه عنصر ينتسب إلى "الأمن العام" ويدعى حسين النعيمي، متحدر من مدينة تل كلخ الواقعة إدارياً في منتصف الطريق الدولي حمص-طرطوس.

النعيمي تحدث عن قتله بصورة مباشرة لشخص يدعى أسامة أبو منصور "لأنه كان قناصاً تابعاً للنظام"، وقتل عمه المدعو "أبو نعيم" برصاصة بالرأس، عدا عن قتله آخرين كثر من أبناء تل كلخ. وبرر فعلته بأنه منذ شهرين يقدم شكاوى لدى الجهات المعنية لكنها لم تلق استجابة أو تحركاً، ويشرح مفصلاً كيف قتل غريمه وأنه لم يعد لديه شيء ليخسره، قائلاً "كل شخص كان يقتل في تل كلخ وغيرها هو -بإذن الله- هدف لي أنا وسأقتله، هو هدفي وهدف أي شاب معي، قولوا ما تريدون عنا فعملنا خالص لرب العالمين، ولست أقيم اعتباراً لأي أحد… سوى دولة بني أمية، وأنا لا أعترف بوجود دولة في مدينة تل كلخ"، وبذلك يكون النعيمي أعلن عن "العدالة الثورية". تلا ذلك الفيديو تسجيل آخر لثلاثة رجال ملثمين يعلنون تشكيل مجموعة اسمها "الاغتيالات الخاصة" في مدينة أعزاز داخل ريف حلب، متوعدين بمطاردة جماعة الأسد، قائلين إن "كل قاتل أصبح هدفاً مشروعاً ومباشراً لنا".
وفي حلب أيضاً قتل مدير المدرسة الشرعية في السفيرة، ومختار حي صلاح الدين، وفي حي سيف الدولة جرى اغتيال الطبيب حسام الضرير أخيراً داخل عيادته وهو الذي عرف بمعارضته للنظام السابق.
تصاعد وتيرة الاغتيالات تلك من حلب إلى حماه فحمص ودمشق ودرعا والساحل، تجاوزت الطائفية وعبرت فوق كل الطوائف وإن كان المسيحيون الأقل ضرراً، ولكن ذلك ينذر بفوضى جسيمة تشير إلى أنه لا مرجعية لفرق القتل الثأرية تلك التي تتحرك في كل اتجاه تحت إطار الانتقام، وإن كان في معظم الحالات ومعظمها الأعم موجهاً ضد شريحة سورية واحدة، وبقية الحالات استثناءات بدأت تنمو على هامش المرحلة.

أدوات بسيطة تدعم الحال العشائرية

باتت كثير من الجرائم ترتكب بسرعة وعشوائية وبأساليب بسيطة، وحمص من أكثر المدن الشاهدة على ذلك، إذ تكفي دراجة نارية يستقلها شخص أو اثنان بحوزتهما بندقية أو قنبلة ليقوما برميها على السائرين في الطريق دون تمييز، ولكن مع تمييز للحي المستهدف. ويقول بعض سكان حمص إن تلك الجرائم يقف خلفها عناصر من المكون البدوي الذي هجَّره النظام من حمص وعاد مع انتصار الثورة، وبالمناسبة فإن العشائر تشكل شريحة يعتد بتعدادها من أصل سكان المدينة، وقد يبدو وصف الموظف المدني كاظم حبيب ما يحصل بأنه "هجوم على التحضر" مسرفاً بعض الشيء، إذ لا يتفق معه كثر في رأيه، ولكنه يبرره بالاستناد إلى أن حال البداوة تتصف أساساً بالثأرية وبأن "داعش" كان وما زال يتبنى قسماً كبيراً منهم ويتمكن من غسل عقولهم والتلاعب بها، مضيفاً أن "هؤلاء ليسوا كباراً في العمر، لم نتشارك معهم قبل الحرب الخبز والملح، خرجوا أطفالاً وعادوا رجالاً ليثأروا من حياة التشرد والخيام وقسوة التنظيمات التي رعتهم وأفهمتهم أننا هجرناهم قسراً لتكون المدينة لنا وحدنا. لذا، أنا مصر على أن ما يحصل هو هجوم على الحال الحضرية المتعايشة، وهذا الهجوم يرى في الثأر واجباً وفرض عين على كل من لم يذق الويلات التي عانوها، وهذا ليس ذنبنا بطبيعة الحال، فأنا وغيري لم نكن نملك طيراناً ومدافع لنقصف بيوتهم". وأضاف أن "الطامة الكبرى هي أن أعداداً كبيرة منهم تطوعت في الأمن العام، وإن كان الشخص المدني العادي في حاجة إلى دورات مكثفة لإتقان فنون الأمن والتعامل فكيف الحال مع تلك الحالة العائدة بنشوة النصر، والتي أجزم أن زعماء عشائرها ليسوا موافقين، حتى إن ثمة عشائر كثيرة والت الرئيس المخلوع".
ويقول الموظف السابق في محافظة حمص رائف حماده "خلال الأسبوع الثاني من الشهر الجاري هاجم أكثر من 50 بدوياً بالأسلحة أحد أحياء الأقليات، الصغير جغرافياً وسكانياً في حمص، وهجَّروا قسماً من أهله واعتدوا بالضرب والقتل على الناس وبالتكسير على الممتلكات في هجمة استمرت ست ساعات، دون أن تتدخل الجهات المتخصصة علماً أن الحي في وسط المدينة واسمه كرم الزيتون".

فتيات مفقودات

وفي ظاهرة غير مسبوقة خُطف كثير من الفتيات والشابات والصغيرات، ويقول بعض إنهن أصبحن سبايا بينما يؤكد آخرون مقتلهن. ويبقى كل ذلك في إطار التكهنات، ومن المبكر جداً الحديث عنها على رغم أنها فتحت جراحاً عميقة في المجتمع. لكن حتى الآن لا معلومة واحدة مؤكدة حول الأمر باستثناء شهادة لناشطة من إدلب اسمها هبة عز الدين أكدت رؤيتها فتاة من الساحل هناك، بيد أنها قوبلت بحرب شعواء على منصات التواصل الاجتماعي عنوانها التكذيب، ليبقى مصير العشرات مجهولاً وسيل التكهنات لا يتوقف، ومضى على اختطاف بعضهن أكثر من شهرين دون أثر أو دليل يمكن السير خلفه.

كل يأخذ حقه بيده

طابق موقع "اندبندنت عربية" بين شهادة أكثر من شخص توجه لتحرير محضر شرطة ضد أشخاص متورطين بجرائم النظام السابق، فإما جرى رفض تسجيل الشكوى بحجة طلب "إحضار إثباتات" أو مُيع الموضوع، وحصل ذلك شخصياً مع أحد الأفراد في حلب الذي حاول تسجيل شكوى قتل عمد بحق أحد قادة ميليشيات الأسد، بعد أن سرب أحد المواقع الإلكترونية الإخبارية السورية صوراً لمعتقلين قضوا في السجون، لكن أقسام الشرطة طلبت منه دليلاً وكذلك النيابة العامة.
تصرفات كهذه تبدو غير متجانسة ولا تحمل روح التوافق بين هرم الدولة وقاعدتها التنفيذية، مما يدفع الناس لأخذ حقوقهم بيدهم على صورة ثأر، وهو ما يقوله الحاج سميع منصف الذي يؤكد أن ولده قضى على يد جماعة الدفاع الوطني ويعرف القاتل بالاسم ولكنه لا يمتلك دليلاً مادياً ملموساً وحسياً ليقدمه، فيرى أن السلطة تعرف القتلة ولكن تأخير تنفيذها للعدالة الانتقالية سيجر المجتمع نحو أن يأخذ كل شخص حقه بيده.

"سري للغاية"

وتمكن موقع "اندبندنت عربية" من الاطلاع على وثيقة مصنفة "سري للغاية" رُفعت من قبل "جهاز الأمن الوطني" الذي كان يديره اللواء علي مملوك التابع لبشار الأسد، وهو جهاز مهمته رسم السياسة الأمنية الداخلية والخارجية وإدارة شُعب وإدارات الاستخبارات وربطها والتنسيق بينها والرئاسة.
وكانت الوثيقة تنضوي على بندين، وتحمل عنوان "احتمالية حرب قادمة"، البند الأول لم يعد مهماً اليوم لأنه كان يتعلق بتحركات إقليمية ودولية في حال رفض الأسد مسار خطوة-خطوة العربي والتقارب مع تركيا، أما البند الثاني وكان الأخطر لأن العمل عليه تطلب أعواماً، وكان يتعلق بمعرفة الأطفال السنة الصغار لمن قتل أهاليهم بالأسماء والصور والعناوين، وكان ذلك سهلاً لكثرة تباهي شبيحة الأسد بإنجازاتهم على السوشيال ميديا. ويكفي ذكر مجزرة التضامن ونشرها على الإنترنت ومنفذها أمجد يوسف الذي صار غريماً شخصياً للمئات، وكل ذلك لأن نظام بشار الأسد كان مكشوفاً للغاية، بخلاف نظام والده، ففي عهد بشار الذي شهد بداية ثورة وسائل التواصل الاجتماعي كان مدنيون يباركون للضباط مع كل إنجاز أو ترفيع مع وضع صورهم. وفي سوريا هناك جدول نصف سنوي للترفيع العسكري، وغير ذلك كثير، فكل السوريين كانوا يعلمون أسماء الشبيحة والجنود والضباط حتى ضباط الاستخبارات والطيران، حتى إسرائيل باتت تعرفهم دون عناء.

وفي المقابل لم يكن العلوي يعرف من يقتله قنصاً أو بقذيفة أو بمفخخة سوى أن مثلاً "كتائب الفاروق" تقصف و"النصرة" تفجر، و"داعش" يرسل انغماسيين. وبحسب المصدر الذي اطلعنا على نسخة من الوثيقة -وكعادته- ميع الأسد هذا التقرير وغيره، وعوض أن ينشغل برأب الصدع بين المكونات السورية خلال أعوام الحرب راح ينشغل بالجباية والمخدرات وإذلال الناس، ولأجل كل ذلك عمت الأفراح يوم سقوطه لكنها أفراح اتضح أنها منقوصة للغاية، فأول عنصر لاستكمالها لم يتحقق وهو الأمان، وعوضاً عنه حل الثأر كبديل لا أحد يعلم إلى أي درك آخر سيجر البلاد.

رفض لمنطق "الثأر"

وكان رئيس الجمهورية العربية السورية أحمد الشرع أكد على وجوب الابتعاد عن الثأر خلال مسيرة الحكم الجديد وبناء مؤسسات الدولة، وشدد على أن عقل الثأر لا يبني الدولة.

وفيما قال وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إن بلاده تواجه "حرباً خفية ومعلنة لكسر إرادة السوريين ببث الفوضى ومحاولات الإغلاق السياسي في الخارج"، أكدت وزارة الداخلية السورية أنها تعمل على "إيقاف التجاوزات التي لا تمثل عموم الشعب السوري"، وفق بيان.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات