خلال ربع القرن الماضي، اشتعلت المنطقة العربية بحروب متزامنة ومعقدة تداخل فيها المطلب الأهلي ببعد النفوذ الدولي، مما عقد طبيعة الصراع وخلف تركة ثقيلة في جردة النتائج اليومية والمستقبل المجهول.
ولأن للحرب قناعاتها التي تفرضها بسطوة من نار توشم بها خرائط البلدان، وتترك آثار آلياتها في وجوه الناس وتراب الشواطئ والحدود، شهدت كل من سوريا واليمن والسودان تداعيات دامية أدخلتها نفقاً مظلماً لا يعلم لمداه منتهى نتيجة لما عرف حينها بأحداث "الربيع العربي" عام 2011 وما أعقب "أحلام التغيير" من كوابيس الدماء والدمار، بعدما تحولت جموع المتدافعين من مشروع "إسقاط النظام" إلى صراع أهلي راح ينهش جسد الدولة الهشة واتخذ أبعاداً دولية ضمن سباق النفوذ الجيوسياسي، لا تزال اعتمالاته ماثلة باستثناء حال التعافي التي تشهدها سوريا اليوم بعيد سقوط نظام الأسد في ديسمبر (كانون الأول) الماضي الذي طوى عهد واحدة من أعنف الحروب وأشدها وحشية، لتضيف مأساة غزة قبل عامين، صوراً أخرى إلى مشهد الواقع العربي المعقد بروزنامة الأزمات والأولويات وترفع منسوب التوقعات باتساع الصراع العربي- الإسرائيلي.
وباستثناء غزة، تشابهت في هذه الدول عوامل الصراع كما تشابهت مآلاته التي بدأت بدعاوى إسقاط النظام لتحل آلة الحرب الخشنة مكان المطالب السلمية الناعمة، فارضة لنفسها واقعاً مغايراً أخذ بالتطور والاتساع وكان التعصب الطائفي والفرز اللاوطني من أبرز مؤججات أواره، ناهيك عن عوامل أخرى كالتدخل الخارجي الذي تعامل مع هذه الملفات من منطلق المصلحة الدولية من دون فرض مقاربات موضوعية توقف نزف الدماء وتضع حداً لهدر المقدرات.
ولأن "السلام أصعب من الحرب"، أدت هذه المعارك، وفقاً لمقتضيات السياسة ولاعبيها، إلى تأزم الواقع العربي وتعقيد ومراكمة الإشكالات في فاتورة مستقبل صراع النفوذ، فمصالح اللاعبين الدوليين التي تتقاطع في ملف ما، تختلف في آخر، لينسحب الأمر على باقي القضايا، بالتالي تعقيد الرؤيا المشتركة للأزمات وترحيلها.
ثابت ومشترك
في اليمن وسوريا كما هي الحال في لبنان سابقاً وقبله العراق، تحولت الثورة إلى حروب متعددة الأوجه، متباينة الأهداف، وعلى غير ما كان متوقعاً أخذ الطابع الطائفي والتحشيد العرقي يضفي بصبغته وجه الصراع وبث في روافده وقود التعصب المتطرف، كشفت عن أهواله للعالم تلك الصور الموثقة للمقابر الجماعية والمعتقلات الرهيبة، فيما دخل السودان مرحلة الانهيار مع عودة الحرب الأهلية منتصف أبريل (نيسان) عام 2023 واقتتال فصيلي القوات المسلحة ممثلة بالجيش الرسمي وقوات "الدعم السريع"، الموازية له، كنتيجة لحال العداء الدفين الذي بينت جزءاً منه تلك الصور المريعة الواردة أخيراً من مدينة الفاشر في ولاية دارفور، كاشفة عن مستوى الانتقام الذي كان المدنيون في مقدمة ضحاياه وبلغت حد تعرضهم لتصفيات جماعية روعت العالم.
وتلتقي الحرب اليمنية والسورية في مشتركات عدة من بينها التأثر بعاصفة "الربيع العربي" ودعوات إسقاط منظومة الحكم التي ضاق بها الناس ذرعاً عقب عقود في السلطة، وانزلاق الثورات السلمية الى قتال دامٍ بعدما واجهت آلة القمع وكانت التدخلات الخارجية وفق البعد الجيوسياسي والنفوذ السياسي لكل طرف من أبرز معززات استمراره بحسب ظروف كل بلد وطبيعته.
وعلى رغم أن علاقة الطوائف والمذاهب ذابت في وعاء التعايش التاريخي المشترك في تلك البلدان، فإن التدخلات الدولية كما هي الحال في إيران، شكلت العامل المشترك الثابت في صميم النفوذ المؤجج عبر إنشاء ورعاية أذرع متقدمة تابعة لها في كل من اليمن وسوريا كشفت الأحداث عن تبعيتها المطلقة خدمة لنظام طهران وفق مستوى مرسوم لكل مرحلة.
وفي اليمن مثل انقلاب الحوثي التجلي الأكبر لحال انهيار الدولة المتتابع الذي بدأ باحتجاجات أطاحت بعلي عبدالله صالح (1942 – 2017) وفق "المبادرة الخليجية" في الـ23 من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2011، واضعة خريطة طريق لمرحلة انتقالية يقودها نائبه، عبد ربه منصور هادي الذي تولى السلطة في فبراير (شباط) عام 2012، كأول رئيس جنوبي يحكم البلاد.
وفي لحظة انشغال القوى السياسية اليمنية بالصراع على تركة الزعيم الذي حكم لأطول فترة في تاريخ البلاد (33 عاماً)، كانت الميليشيات الآتية من الهضبة الشمالية وعمقها الفكري والبشري التاريخي في محافظة صعدة (شمال) تحث الخطى للتقدم والانتشار بعناصر انتحارية بتنسيق مسبق مع فئات سلالية موالية لها في المجتمع بشرت بعودة "آل بيت النبي" للحكم و "تحرير القدس"، وفقاً لمبدأ "الولاية والاصطفاء" و"الحق الإلهي في الحكم"، سعياً إلى "السيطرة على البلاد وتكريس التجربة الإيرانية في اليمن"، وفقاً للرئيس هادي الذي واجه الانقلاب الحوثي بلا حيلة وبلا نفوذ في القوات المسلحة.
فالقيادات التاريخية للبلاد سياسية وقبلية تحكم قبضتها على مفاصل الجيش والسلطة، فيما وجهت الاتهامات للرئيس السابق صالح بدعم الحوثيين وتسليمهم معسكرات "الحرس الجمهوري"، ذراعه العسكرية الأقوى طوال فترة حكمه، وهو اتهام لم يكُن صالح يستنكف تفنيده أو نفيه.
وعام 2012 حذر هادي من "مخطط إيراني للسيطرة على مضيق باب المندب" بواسطة ميليشيات الحوثي ويتردد أنه طرح مخاوفه على عدد من القادة العرب والرئيس الأميركي باراك أوباما وقال خلال لقاء متلفز "من يسيطر على باب المندب لا يحتاج إلى برنامج نووي"، في إشارة إلى المساعي الإيرانية.
ووفق واقع الحال سعى الجنرال هادي المتخرج في أكاديمية "ساندهيرست" العسكرية الملكية البريطانية عام 1966، إلى إيجاد إسناد دولي لبلاده أمام المساعي الحوثية الحثيثة للتوسع كذراع إيرانية مغروسة في المنطقة باتت تنشط عسكرياً بمحاذاة الحدود السعودية بعدما وجد نفسه على رأس دولة شبه مفلسة يتهددها الانقسام والتفكك، وجيش لا يدين له بالولاء، فعلي صالح و"الإخوان المسلمون"، الحلفاء السابقون وأعداء اليوم، يتقاسمون النفوذ التاريخي في البلاد ولا ينصاعون إلا بما يخدم مصالحهم.
وكانت تحذيراته تتواتر مع كل شحنة أسلحة تضبطها قوات خفر السواحل في طريقها للحوثيين، إضافة إلى ما ذكر حينها عن وثائق وجدت في المستشفى الإيراني بصنعاء تكشف عن مستور مخطط السيطرة الذي تحقق لاحقاً بعد أن انشغلت القوى السياسية بصراعات الإزاحة الأخيرة وسعي كل منها إلى استمالة القوة الحوثية الصاعدة لمصلحتها، ناهيك عن المشكلات التاريخية المتراكمة عبر عقود من الأزمات وفي مقدمتها جنوب البلاد الذي بات يرفع مطالب "استعادة الدولة" التي دخلت في وحدة مع الشمال عام 1990.
ودفع التدخل الإيراني الداعم للانقلاب الحوثي في سبتمبر (أيلول) عام 2014 إلى إشعال فتيل الحرب عندما وجد اليمنيون أنفسهم في مواجهة حتمية مع جماعة أصولية تنتهج كل وسيلة لتكريس فرض نهجها الطائفي الطاغي بأدوات العنف والترغيب، لتنطلق عمليات عسكرية جوية من ائتلاف مكون من دول عربية عدو عرف بـ"التحالف العربي" بقيادة السعودية استجابة لطلب من هادي (حكم ما بين أعوام 2012 و2022) بدأت بتنفيذ ضربات جوية على الحوثيين في الـ25 من مارس (آذار) 2015 تحت مسمى عملية "عاصفة الحزم" وتساند "المقاومة الشعبية" التي بدأت تتشكل للتو من جموع الشعب اليمني الذين واجهوا الحوثيين بسلاحهم الشخصي البسيط ومثلوا النواة الأولى لإنشاء فصائل عسكرية موالية للحكومة الشرعية.
وعقب أكثر من 11 عاماً من الاقتتال استعادت الشرعية أجزاء واسعة من المناطق بما فيها عدن الساحلية التي اتخذتها عاصمة موقتة للبلاد لحين استعادة صنعاء التي يحكم الحوثيون قبضتهم عليها ومعها عدد من المحافظات الشمالية.
وبموازاة الصراع الداخلي، استهدفت الميليشيات الحوثية عبر الصواريخ والطائرات المسيّرة منشآت استراتيجية في السعودية والإمارات، بما فيها مطارات وحقول نفط وأهداف مدنية.
و في المجمل يواجه اليمن مرحلة معقدة في ظل سلسلة من التحولات التي فرضها الانقسام السياسي والجغرافي والاقتصادي بين سلطتي الحكومة الشرعية في العاصمة الموقتة عدن والحوثي في العاصمة صنعاء، وحاول الأخير تكريس هيمنته كسلطة أمر واقع وتعزيز مفهوم الولاية الدينية وفق نهج الاصطفاء عبر سلسلة من الإجراءات من بينها إقامة اقتصاد موازٍ والسيطرة على التعليم والإعلام والقضاء من خلال استمرار تبعيته لطهران كأداة بيدها في معادلة الردع الإقليمي، فيما تحاول الشرعية استعادة ثقة الشعب والدعم الإقليمي والدولي.
ولعل أكثر الإشكالات التي تتهدد استقرار البلاد إقحامها في معادلة الحرب التي شهدتها غزة من خلال السلوك الحوثي في البحر الأحمر بشن غارات تستهدف سفن التجارة الدولية وبعض الصواريخ غير المؤثرة التي تطلق من الأراضي اليمنية وتتبناها الجماعة "نصرة لفلسطين"، فيما يراها مراقبون مناورات إيرانية ضد تل أبيب وتعريض البلاد لضربات انتقامية إسرائيلية عملت على إخراج مطار صنعاء وميناء الحديدة من الخدمة ودمرت عدداً من المواقع والمنشآت الحيوية المهمة.
التركة الأثقل
يلتقي اليمن وسوريا في إشكال تركة الصراع ونتائجه التي فرضت واقعاً جديداً له ما بعده وفي مقدمها الفصائل المسلحة، ولعل أبرز التحديات أمام مهمة اليمنيين والسوريين استعادة دولتيهما، حال الانقسام الحاد التي أفرزتها دورات العنف وباتت تهدد بمزيد من التشظي والانقسام بعد أن أنتجت المقاومة للمشروع الإيراني في البلدين فصائل مسلحة أضحى كل واحد منها يحكم قبضته على المنطقة التي سيطر عليها كما في اليمن الذي على رغم التقاء القوى الفاعلة على مبدأ العداء المشترك للحوثي، فإنها لا تزال تتصارع بينياً استناداً إلى خلفياتها السياسية التي لم تفلح فكرة السلطة الائتلافية ممثلة بمجلس القيادة الرئاسي برئاسة الدكتور رشاد العليمي في احتوائه. والحال ذاتها في سوريا التي مع زوال النظام "الأسدي"، بقي مستقبل الفصائل المسلحة كابوساً مؤرقاً على مستقبل البلاد وسلمها الأهلي ونهجها السياسي الوطني حذر منه قادة وخبراء سوريين على نحو متواتر، خصوصاً القوى التي يراد لها أن تحل محل مؤسسة الجيش النظامي السابق.
ومنذ عام 2022 يعيش اليمن حال لا حرب ولا سلم بفعل تهدئة أممية وتفاهمات دولية غير معلنة، أنتجت سلسلة طويلة من التعقيدات كانت "المأساة الإنسانية الأسوأ على مستوى العالم" وفقاً لتصنيف الأمم المتحدة العنوان الأبرز لكارثة الصراع. وحتى نهاية عام 2021، بلغ عدد الضحايا نحو 377 ألفاً، بحسب تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الذي قال إن طفلاً يمنياً دون سن الخامسة يموت كل تسع دقائق، فيما لا يزال نحو 10 ملايين طفل بحاجة ماسة إلى المساعدات الإنسانية. ونزح نحو 4.5 مليون شخص، أي ما يعادل 14 في المئة من السكان وفقاً لتقديرات حديثة من الأمم المتحدة و"يونيسيف".
لكن الكاتب في "اندبندنت عربية" حسن فحص رأى أن ضعف إيران الفاعل الأكبر في تأجيج الصراع، وسعيها إلى الاستثمار في الموقف السعودي الداعم للتفاوض والتوصل إلى حلول واضحة في الأزمة النووية، قد يدفعان إلى تسوية.
وبرر ذلك بأن "القيادة الإيرانية باتت تدرك بوضوح أن أي اتفاق أو تفاهم بينها وواشنطن لا يأخذ في الاعتبار المصالح السعودية في الإقليم، سيكون صعباً ولن يساعد في إعادة دمج إيران في محيطها أو يسهم في تعزيز الثقة بها وبطموحاتها في الإقليم، كما خلال عهد أوباما الذي ترك لها الباب مفتوحاً لتوسيع نفوذها ودورها على حساب مصالح دول المنطقة".
صراع النفوذ الأخير
ولم يكُن السودان بعيداً من حال الصراع وتقاسم النفوذ العسكري والسياسي العربي، كواقع القوى المتسيّدة التي ترفض مشاركة الآخر ثم تخلق من داخلها خصماً جديداً للتفرد عقب أعوام من المداراة السياسية والتقاسم بين رأسي القوات المسلحة التي يقودها كل من رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبدالفتاح البرهان، وقوات "الدعم السريع" بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي" انتهت بالصدام الدامي الذي لم تفلح معه محاولات الترقيع للتوفيق بين القوتين المتوازيتين داخل الدولة بدءاً من إزاحة الرئيس السابق عمر البشير وتركته التي كوّنها خلال فترة حكمه، مروراً بتشكيل مجلس السيادة الانتقالي وانقلاب الجنرالين المتشاكسين على رئيس الوزراء التكنوقراطي عبدالله حمدوك الذي بدأ السودان يستعيد شيئاً من أنفاسه معه.
وبدأ الطرفان مساعي التفرد المطلق مع اتهامات متبادلة بالضلوع في شبكات مصالح شخصية بمعزل عن مصلحة الشعب السوداني ومصير مستقبله، ليندلع الاقتتال الأهلي في الـ15 من أبريل (نيسان) عام 2023، معلناً عن واحدة من أعنف الحروب في تاريخ البلاد بدءاً من العاصمة الخرطوم ثم إلى باقي ولايات الجزيرة وسنار وشمال النيل الأبيض وجنوب النيل الأزرق، ثم تراجع نحو ولايات شمال كردفان وغربها وجنوبها وإقليم دارفور، بدأ بهجمات لقوات "الدعم السريع" على مواقع حكومية رئيسة في العاصمة ورد قوات الجيش الرسمي لتدور معارك عنيفة في شوارع الخرطوم في الأسبوع الأول الذي تبادل فيه الطرفان الاتهامات بالخيانة وتلقي دعم خارجي، بالتزامن مع سباقهما للسيطرة على كثير من المواقع الحكومية الرئيسة بما فيها القصر الرئاسي ومطار الخرطوم الدولي والتلفزيون الرسمي ومواقع أخرى، ولكن واقع الحال يؤكد أن المعركة ظلت تراوح أسلوب الشد والجذب من دون رجوح كفة طرف على الآخر، مما ينذر بتفاقم الصراع لأمد أطول.
وداخل مسرح العمليات انقسم ميدان النفوذ، فالغرب دان لـ"حميدتي" والشرق سيطر عليه الجيش وتفوق الأخير عقب استعادة سيطرته على العاصمة الخرطوم وهو التقاسم الذي يعقد المشهد السياسي والمواقف الدولية واقتراحات الحل السياسي.
وفي التاسع من سبتمبر (أيلول) عام 2024، أفادت منظمة "هيومن رايتس ووتش" بأن قوات "الدعم السريع" حصلت على أسلحة ومعدات عسكرية متقدمة من صنع أجنبي.
وادعى مسؤولون من الولايات المتحدة والدول الأوروبية والأفريقية بأن الإمارات كانت تدعم قوات "الدعم السريع" في الحرب، فيما تقول أبو ظبي أن عمليتها كانت إنسانية بحتة، وبالتزامن تمدد القتال الذي غلبت عليه نزعة الانتقام الشرس من دون الاكتراث بسلامة السكان المدنيين من الخرطوم إلى ولايات الجزيرة وسنار وشمال النيل الأبيض وجنوب النيل الأزرق، ثم تراجع نحو ولايات شمال كردفان وغربها وجنوبها وإقليم دارفور مخلفاً أرقاماً مخيفة في فاتورة الحال الإنساني الآخذ في التعقيد مع فشل الأمم المتحدة والمجتمع الدولي في التوصل إلى هدنة تسمح بوصول المساعدات الإنسانية للمتضررين بعدما بلغ عدد الضحايا 150 ألف شخص، وفقاً للجنة الإنقاذ الدولية وهو رقم أعلى من الحصيلة المعلنة للأمم المتحدة التي تراوح حول 20 ألف قتيل، فيما بات أكثر من 25 مليون إنسان بحاجة إلى مساعدة غذائية طارئة، بينهم 18 مليوناً مهددين مباشرة بالجوع الحاد، وفاقم من المأساة انقطاع مناطق كاملة مثل دارفور والجزيرة وغرب كردفان وشرق النيل عن الإغاثة بسبب القتال أو الحصار، فيما يكابد نحو 5 ملايين طفل سوء تغذية قاتل.
ولعل أشد الصور بشاعة تلك التي تدفقت عبر مواقع التواصل الاجتماعي لمشاهد إعدام وتنكيل ميداني ضمن الانتهاكات المنسوبة إلى قوات "الدعم السريع" في حق أهل مدينة الفاشر عقب سقوطها في أيدي عناصرها نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مع تزايد التساؤلات عن مصير مئات الآلاف من سكانها وسط غياب التدخل الدولي الفاعل على رغم تواتر بيانات الإدانة والتنديد للعمليات المستمرة التي تسببت إجمالاً بنزوح أكثر من 10 ملايين نسمة داخلياً في ظل ما يعانيه اقتصاد البلاد، ولا سيما أن لديه أزمات مركبة خلال العقود الماضية، أبرزها العجز منذ انفصال الجنوب عام 2011 بموارده البترولية.
ويخلص المدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمي أليكس دي وال إلى أن ما يشهده السودان اليوم ليس معزولاً عن تاريخ البلاد المرير، فعلى مدى 40 عاماً من دراسته السودان والعمل في هذا البلد، قال "رأيت المذابح والإبادة الجماعية وهي تغدو استراتيجية دورية في ساحة القتال".
وأضاف أن "مقاتلي الميليشيات وضباط الاستخبارات العسكرية الذين أرسلوا إلى جنوب السودان في الثمانينيات لقمع التمردات، ارتكبوا مجازر ضد المدنيين وتسببوا في انتشار المجاعة. وقيل لهؤلاء المقاتلين ’افعلوا ما عليكم فعله ولا تبلغوا عن ذلك‘. وقد جرت المذابح والمجاعة في سرية تامة. واضطر المحللون الخارجيون إلى الاعتماد على التقارير الشفوية التي جمعها الصحافيون والعاملون في مجال الإغاثة، ومعظمهم من السودانيين".
ويعتقد بأن المأساة المتجددة في البلاد لا يمكن أن تنقضي من دون تدخل البيت الأبيض "فمهما كانت الحرب والمجاعة الناتجة منها في السودان اليوم مروعة، فإنها لا تزال تنطوي على احتمال أن تتدهور أكثر فأكثر".
من درعا إلى كل الشام
لم يعلم صغار مدينة درعا (جنوب سوريا) أن كلمات كتبوها على جدران مدرستهم في مارس عام 2011 ستغير وجه تاريخ بلادهم وستعلن فصلاً دامياً بعد أن أرسلت حروفها مطالب سلمية إلى نظام الرئيس بشار الأسد تنادي بالديمقراطية والحريات، كانت بالنسبة إلى النظام تعدياً على الخطوط الحمراء التي ضاق بها الناس ذرعاً، لتتصاعد ردود الفعل المتبادلة وتواجه تلك الاحتجاجات بالقمع المميت. وأدت هذه الاستجابة العنيفة إلى توسع الغليان الشعبي الى حمص وحماة فدمشق.
وكانت شرارات الغضب تتطاير وتكبر كلما فتح الأمن نار القمع، لتتحول المطالب البسيطة إلى مطالب بإسقاط نظام بشار الأسد برمته بالتزامن مع تشكيل مجموعات مسلحة كونها منشقون عن الجيش، أبرزها ما سمي "الجيش السوري الحر" الذي أعلن عزمه مواجهة النظام والسعي إلى إسقاطه بالقوة والدفاع عن تظاهرات الشارع.
وأخذت صور الانفلات تتكثف في كنف المشهد المشتعل ومعه انزلقت حاضرة الشام إلى حرب أهلية دامية جرحت خدها المتورد وتسببت بأبشع الحروب وحشية في القرن الـ21 بالنظر إلى لجوء النظام للعنف القاتل وبصورة عشوائية طاول المدنيين ومن أشدها بشاعة الإغارات التي تقذف على السكان في ما عرف بـ"البراميل المتفجرة" والتصفيات الجماعية الميدانية ومحاكم التفتيش العنيفة والمعتقلات الرهيبة ومن بينها سجن صيدنايا سيئ الصيت.
وشمل الصراع تدخلات إقليمية ودولية مباشرة زادت من تعقيد الأزمة ودمويتها، فسارعت إيران من خلال "حزب الله" اللبناني إلى تزويد حليفها الأسد بالدعم الكامل من خلال فرق الميليشيات المقاتلة التي بلغ قوامها البشري نحو 100 ألف مقاتل وفقاً للأمين العام للحزب الراحل حسن نصرالله، فضلاً عن الدعم المسلح واللوجستي المتواصل، إضافة إلى روسيا التي بدأت تدخلها في سبتمبر (أيلول) عام 2015 بالسيطرة على الأجواء السورية بمقاتلات الـ"سوخوي-25" ومثيلاتها مزودة بأنظمة دفاع جوي، بينما تشكل في جانب المعارضة تحالف فضفاض يضم خليطاً من جماعات المعارضة المسلحة الجيش السوري الحر في طليعتها، إضافة إلى جماعات سلفية جهادية مثل "جبهة النصرة" وتنظيم "داعش" و"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) ذات الغالبية الكردية.
وأخذت أذرع التدخل الدولي بالتغول تارة بالمشاركة العسكرية المباشرة، وتارة بتقديم الدعم للفصائل المسلحة، وبمرور الوقت أخذ كل فصيل يتبنى رؤيته الخاصة وفق خلفياته الأيديولوجية والسياسية التي استند إليها، وتخلت بعض الفصائل عن توجهاتها المعتدلة مثل "جبهة النصرة".
وكلما علت أصوات المدفعية، تلاشى الحديث عن إصلاح منظومة الحكم وبناء سوريا وتمايز صوت الغلبة المسلحة برؤى إسلامية متشددة كل منها يجر مناطق سوريا في جهة.
في المقابل شدد نظام بشار الأسد من وطأة القمع الجماعي ووثقت فرق التقصي التابعة للأمم المتحدة استخدام قواته التي تصفها المعارضة بـ"الشبيحة" وتعني الأفراد أو العصابات الخارجة عن القانون، لأسلحة كيماوية من بينها غاز السارين في الهجمات التي خلفت خسائر في الأرواح وأدت إلى إثارة رد فعل دولي، ولا سيما تلك التي وقعت في الغوطة عام 2013، وفي أغسطس (آب) 2016 ألقى تقرير سري صادر عن الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية باللائمة صراحة على الجيش السوري لبشار الأسد لإلقائه الأسلحة الكيماوية (قنابل الكلور) على مدينتي تلمنس في أبريل (نيسان) 2014، وسرمين في مارس (آذار) 2015، وتنظيم "داعش" لاستخدام غاز الخردل في بلدة مارع في أغسطس 2015.
وقدرت الأمم المتحدة عدد ضحايا الحرب الأهلية بنحو 600 ألف شخص نصفهم من المدنيين بينهم عشرات آلاف القتلى من الأطفال والنساء.
كما تسببت الحرب في موجة نزوح قسري لملايين السكان هاموا في بقاع العالم إلى مصائر مجهولة بعضهم تقطعت به السبل وخذلته رحلة الفرصة الأخيرة عن الوصول إلى بر الأمان المنتظر بعيداً من نار الحرب، وقدر عددهم بنحو 13.5 مليون شخص توزعوا بين النزوح الداخلي والخارجي في ظروف إنسانية صعبة.
وأخيراً قدر لهذا البلد أن يستعيد شيئاً من أنفاسه المقطوعة في ديسمبر عام 2024، على وقع التقدم الحثيث لقوات المعارضة السورية وبآلية مفاجئة ومتسارعة عندما لم يجد الرئيس الأسد بداً من الهرب إلى حليفته موسكو، والوصول إلى دمشق والإعلان عن سقوط نظامه الذي طوى صفحة العامل الرئيس في استمرار الصراع وتشكيل حكومة جديدة خلال فترة لمع فيها نجم قائد المعارضة الشاب أحمد الشرع الذي انتقل إلى منصب الرئاسة بطريقة أثارت انتباه العالم بالنظر إلى خلفيته الفكرية والقتالية، مع بقاء الصراع وبوادره في مناطق مختلفة تنتشر فيها جيوب وثكنات فصائل مسلحة تدين بالولاء للخارج، لا تزال تشكل عوامل قلق كبيرة على مستقبل البلاد في مقدمتها القوات الموالية لتركيا التي ضلعت بصورة كبيرة في تلك التطورات، وهي معطيات تطرح تساؤلات عدة حول مصير بلاد الشام وشكل الدولة المستقبلي، ناهيك عن الضغوط الإسرائيلية التي هدأت عقب سلسلة محادثات مباشرة مع الإدارة السورية الجديدة التي تواجه أيضاً تحديات اقتصادية هائلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غزة... الإبادة الأعنف
وفي الحرب المدمرة التي شهدتها غزة خلال العامين الماضيين، عادت القضية الفلسطينية لواجهة الأحداث بعد حال من مساعي التهدئة على أمل التوصل إلى إبرام اتفاقات أمنية وسياسية تقرب الطريق نحو إقامة علاقات إسرائيلية- عربية مقابل اعتراف بدولة فلسطين على حدود 1967 برعاية أميركية، لتأتي عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023 التي شنتها حركة "حماس"، معلنة عن فصل جديد في مشهد الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، امتدت تداعياته إلى خارج القطاع الذي تعرض لإبادة كاملة شملت الإنسان والبنيان وتسببت بجرح عميق إنساني تفاعل لأجله العالم بأسره كأزمة مستمرة في الشرق الأوسط.
تفاجأ العالم في ذلك اليوم بالهجوم الأكثر إيلاماً لإسرائيل بالنظر إلى حجم الاختراق وعدد القتلى والأسرى، عندما استطاع مسلحو "حماس" اختراق الحاجز بين غزة وإسرائيل وسيطروا على سلسلة من المواقع العسكرية قتلوا خلالها قرابة 1195 إسرائيلياً وأجنبياً بينهم 797 مدنياً وأسروا نحو 251 آخرين واقتادوهم إلى مخابئ تتبع "حماس" لترد إسرائيل بهجوم استعاد المستوطنات التي سيطرت عليها "حماس" قبل أن تعلن عقب مرور 20 يوماً حرباً هستيرية شاملة برية وجوية مع فرض حصار خانق على القطاع في حرب كانت الأكثر دموية بالنسبة إلى الفلسطينيين في تاريخ الصراع العربي- الإسرائيلي.
وبينما لم يكف العالم عن التعبير عن قلقه مما يجري وتواتر حديث القادة والزعماء عن أهمية التوصل إلى حل جذري لمشكلة الصراع التاريخي في تلك البقعة الدامية، كانت إسرائيل تتحدث عن هدف معلن تكرس له كل قوتها وهو القضاء على القدرات العسكرية لـ"حماس" واستعادة الأسرى، وفي سبيل ذلك شنت واحدة من أعنف حملات القصف الجوي دموية وتدميراً في التاريخ الحديث، وكانت مقاتلات "أف-35" تمهد الطريق للجيش على الأرض في عملية اجتياح عنيفة، إضافة إلى ما تقذفه دبابات "ميركافا" على مدى الساعة من دون اكتراث بالمدنيين كباراً وصغاراً ليسجل الهجوم سلسلة من المجازر التي صدمت العالم من بينها استهداف مستشفى المعمداني، ودوار النابلسي التي سميت "مجزرة الدقيق" ومخيم تل السلطان، إضافة إلى عملية مقتل الطفلة هند رجب ذات الخمس سنوات وحالات قتل مماثلة لعشرات الأطفال.
ولم تكتفِ آلة الحرب الإسرائيلية بتدمير ما يعترضها، بل راحت تفرض حصاراً مشدداً من المنافذ كافة، أدى إلى قطع الضروريات الأساسية من الغذاء والمياه والكهرباء والوقود والأدوية، مما تسبب في تفشي موجات مجاعة مميتة راح ضحيتها عشرات الأطفال وكبار السن، فضلاً عن التدمير الكامل للبنية التحتية والفوقية وانهيار الرعاية الصحية وتفاقم الأزمة الإنسانية. وجرى الإبلاغ عن مقتل نحو 50 ألف فلسطيني غالبيتهم من النساء والأطفال، ووصل عدد الضحايا من النساء إلى أكثر من 12 ألفاً وأكثر من 17 ألف طفل وجرح نحو 114 ألفاً، إضافة إلى أكثر من 10 آلاف آخرين في عداد المفقودين تحت الأنقاض.
وإزاء ذلك أدرجت الأمم المتحدة إسرائيل في القائمة السوداء للدول التي تقتل الأطفال، فضلاً عما كشفته المنظمة عن المأساة التي خلفها نزوح السكان الفلسطينيين في قطاع غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة داخلياً في ظل ظروف إنسانية صعبة للغاية وسط إصرار إسرائيل على دفعهم بالنار والحصار إلى إخلاء شمال غزة للجانب المصري في سيناء، مما رفضته القاهرة بصورة قاطعة وعدته تهجيراً قسرياً من شأنه أن يرقى إلى جريمة حرب، فيما دعت الأمم المتحدة وعدداً من الدول إلى وقف فوري لإطلاق النار وحملات التطهير العرقي الجماعي للشعب الفلسطيني.
هذا الواقع المريع خلف تداعيات دولية كبيرة عبرت عنها صور الاحتجاجات الغاضبة التي اجتاحت العالم، مطالبة بوقف إطلاق النار وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي. أما على الصعيد الإجرائي الدولي، فبدأت جنوب أفريقيا في ديسمبر عام 2023، بإجراءات أمام محكمة العدل الدولية تتهم فيها إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة.
وصرّح ساسة وخبراء ومنظمات حقوق الإنسان بأن إسرائيل و"حماس" ارتكبتا جرائم حرب، واصفين الأحداث في غزة بـ"إبادة جماعية"، وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال بحق قادة إسرائيل منهم بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت والقائد في "حماس" محمد الضيف.
ولم يكُن في حسبان المتابعين التنبؤ بمدى تداعيات هذا الحدث، ليطاول المنطقة والعالم بأسره على المستويات السياسية والقانونية والاقتصادية، مع تباين عربي ودولي في الموقف من "حماس" التي تتهم بتنفيذ أجندة تخدم كيانها السياسي وداعميها من دون اكتراث بفارق القوة الهائل مع إسرائيل وتعريض الأبرياء الفلسطينيين للقتل وتأزيم الجهود الرامية إلى إيجاد حل شامل للقضية.
وكانت الاتهامات تتجه نحو إيران التي تتحدث علانية عن تقديم الدعم المسلح لـ"حماس" في إطار ما اعتبره مراقبون مساعي إيرانية لاستخدام ملف غزة و"القدس" كورقة سياسية لمصلحة مفاوضاتها مع الغرب، قبل أن ترتد تداعيات تلك الأحداث بصورة عميقة على طهران التي تعرضت لموجة قصف إسرائيلي بدأت في الـ13 من يونيو (حزيران) الماضي بضربات جوية واسعة النطاق وغير مسبوقة شملت أهدافاً عسكرية ونووية وقادة عسكريين وعلماء نوويين أتبعته الولايات المتحدة فجر الـ 22 من الشهر ذاته بتدمير مفاعلاتها النووية ضمن عملية عسكرية سمتها "مطرقة منتصف الليل" واستهدفت منشأة فوردو لتخصيب اليورانيوم ومنشأتي نطنز وأصفهان بالتنسيق مع إسرائيل.
وفي جانب هذه التداعيات، امتدت الحرب الإسرائيلية في المنطقة لتشمل لبنان وسوريا والعراق واليمن وإيران وقطر في إطار مساعيها لتفكيك "محور المقاومة" الإيراني المكون من أذرع ميليشياوية تابعة لطهران ظلت لأعوام تستثمر كثيراً من الموارد لتسليحها وتدريبها وتقدمها كمنقذ للأمة تحت ظل حكم "المرشد الأعلى" علي خامنئي.
وظل المحور يتلوى من الألم في تلك البلدان قبل أن تأتي الضربة القاصمة ممثلة بسقوط نظام بشار الأسد في سوريا العام الماضي الذي عده مراقبون الضربة المميتة لإيران للأهمية التي يمثلها كممر بين لبنان وسوريا وباقي الأذرع في العراق واليمن.
لكن مع ذلك ترى مجلة "فورين فيرز" الأميركية أن واشنطن أصبحت تمتلك "فرصة نادرة لإعادة تشكيل أمن الشرق الأوسط بفضل إضعاف القدرات العسكرية لإيران ووكلائها وتمكين الشركاء الخليجيين، على رغم استياء دول الخليج من إسرائيل".
ورجحت تبعاً لذلك أنه يمكن لأميركا وحلفائها، بالاستناد إلى الضمانات الأمنية، أن تضفي الطابع الرسمي على اتفاقات دفاعية متعددة الأطراف بين دول الخليج (وربما إسرائيل)، أو توسع نطاق "اتفاقات أبراهام" لتشمل الاستثمار والتكامل الاقتصادي.
وتأتي هذه الفرصة في نظر المجلة بعد فترات سابقة (1974 و1991) أتيحت فيها لواشنطن قيادة تحالفات لهزيمة مسببي النزاعات، لكن حكومات المنطقة فشلت في ترسيخ سلام دائم، "لذا، يجب على واشنطن وشركائها اليوم محاولة تجنب تكرار تلك الإخفاقات وتحويل الاستقرار الحالي إلى وضع طبيعي جديد ومستدام".