ملخص
اعتادت الجيوش الاعتماد على التفوق الكمي في كتلة العديد والأعتدة، لكنها تخلت عن ذلك في "الحرب الباردة" لمصلحة الدقة في الأسلحة المتطورة. ومع حروب الشرق الأوسط وأوكرانيا، برز ملمح من حروب المستقبل يظلله مفهوم الجمع بين الكتلة الكبيرة لأسلحة صغيرة ودقيقة ورخيصة وبين أسلحة متطورة فائقة الدقة والفاعلية لكنها مكلفة.
مع بداية الحرب في أوكرانيا عام 2022، نشرت القوات المسلحة الأوكرانية حفنة من المسيرات التركية الصنع من نوع "بيرقدار تي بي 2" Bayraktar TB2 كي تستهدف بها أهدافاً روسية، وقدمت تلك المسيرات الدقيقة التوجيه علامة على مستقبل الأمور. وبعد ما يزيد على سنتين من الحرب، لا تزال "تي بي 2" ركناً راسخاً من الترسانة الأوكرانية، لكن باتت الآن بصحبة كثرة وافرة من المسيرات الجوية، وتحضر تكنولوجيا مماثلة في الصراعات الدائرة حاضراً في الشرق الأوسط. وتطلق إيران و"حزب الله" في لبنان والحوثيين في اليمن أنظمة جوية هجومية تحلق باتجاه واحد (مسيرات مزودة بمتفجرات تهوي بما فيها على أهدافها)، وصواريخ على إسرائيل والسفن التجارية والأسطول الأميركي. وكذلك تستخدم إسرائيل في حربها على غزة مجموعة من المركبات المسيرة، وتستكشف الصين طرقاً لاستعمال أنظمة مسيرة، في محاصرة تايوان ومنع القوى الخارجية من مساعدة الجزيرة في حال هجوم الصين عليها. وأطلقت الولايات المتحدة مجموعة من المبادرات لمساعدتها في نشر أنظمة مسيرة على نطاق عملي واسع، وبكلفة متدنية. وفي تلك الحالات كلها، يتاح للجيوش والمجموعات المقاتلة الحصول على إسناد "مكثف" في أرض المعركة، بفضل التقدم في الذكاء الاصطناعي والأنظمة المؤتمتة الذاتية التوجيه، إضافة إلى وجود جيل جديد من التقنيات المتوفر في السوق وانخفاض تكاليف الإنتاج.
وطوال آلاف السنين، فكر القادة في الحجم والعتاد [أحجام القوة العسكرية]، بمعنى وجود قوات متفوقة عددياً ولديها معدات أكثر من الجانب الآخر، بوصفها أمراً حاسماً في إحراز الانتصار في المعركة. واعتبروا أن جيشاً ما سينال فرصة أكبر في هزيمة عدوه إذا استطاع حشد عدد أكبر من الفرق، سواء جهزت بالرماح والأقواس والبنادق، أو امتطت الدبابات. وأملى ذلك المبدأ الكيفية التي اتبعتها الجيوش، خصوصاً تلك التابعة لقوى كبرى، في إحراز النصر بداية من الفيالق الرومانية التي غزت بلاد الغال، ووصولاً إلى الجيش الأحمر على الجبهة الشرقية في الحرب العالمية الثانية. وبفضل امتلاكها الأسطول الأضخم، تحكمت الإمبراطورية البريطانية في البحار، وبفضل حيازتهم عدداً أكبر من الطائرات، استطاع الحلفاء قصف قوات "المحور" [ألمانيا وإيطاليا واليابان في الحرب العالمية الثانية] وتبديدها عن بكرة أبيها.
وفي المقابل، لم تختزل الأمور كلها إلى حجم القوة والعتاد وحدهما. إذ تستطيع جيوش أقل عدداً وأفضل إعداداً وتجهيزاً أن تقضي على جيوش أكبر منها ويفترض أنها أشد قوة، لكن بصورة تقليدية أرسيت الأحجام بوصفها معقد رهانات الحروب.
وفي مقلب مغاير، شهدت السنوات الـ50 الماضية انصرافاً عن الأحجام ترافق مع التوجه إلى الدقة. وتسارع ذلك الميل خلال "الحرب الباردة"، واكتشفت جيوش على غرار القوات الأميركية سبل زيادة الكفاءة والفاعلية عبر استخدام أسلحة مكلفة ومتطورة تستطيع أن تضرب بدقة كل ما تستهدفه في أرجاء العالم، وبالتالي مال القادة إلى تقليص حجم قواتهم العسكرية في مقابل التركيز على المكانة العالية لتقنياتهم المتفوقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتبين الحروب الحالية والاستثمارات الضخمة التي تنهض بها الولايات المتحدة والصين، أن الأحجام توشك على استعادة مكانتها، لكن ليس على حساب الدقة. وبالتأكيد تعمل الحروب الجارية على تحطيم الاستقطاب الثنائي بين الحجم والدقة، أو بين المدى والتقدم. ولنسمِّ ذلك عصر "الكتلة الدقيقة" precise mass [أي الكتلة العسكرية من حيث الحجم والدقة من حيث التكنولوجيا المتطورة]، وتجد الجيوش نفسها في حقبة جديدة تتسم بأن عدداً متزايداً من الأطراف الفاعلة يستطيع التمرس بالصواريخ والأنظمة المسيرة، مع اكتسابهم الوصول إلى الأقمار الاصطناعية والتقنيات الأكثر تقدماً المتوفرة في الأسواق. ومع تلك الأدوات بات في استطاعتهم بسهولة تنفيذ عمليات استطلاع، وشنّ هجمات دقيقة ومخربة. إن الإملاءات المترتبة على "الكتلة الدقيقة" باتت تعطي شكلاً للأعمال الحربية في أوكرانيا والشرق الأوسط، وتؤثر في آليات المواجهة في مضيق تايوان، وتقدم المعلومات للتخطيط والمشتريات في البنتاغون.
وفي زمن "الكتلة الدقيقة"، يتحدد مصير الحرب إلى حد كبير، بمدى حشد أعداد كبيرة من الأنظمة التي لا يديرها البشر، سواء أكانت مؤتمتة كلياً وتعمل بقدرات الذكاء الاصطناعي، أو مدارة من بعد، أي من الفضاء الخارجي أو من تحت البحار. ووضعت القوات الأميركية نفسها في موقع القيادة لمسار التأقلم مع تلك المتغيرات في مواصفات أعمال الحرب، لكن يتوجب عليها التأهب لتبني تلك الابتكارات بسرعة وعلى نطاق واسع. إن الاختراقات الريادية في الابتكارات التي تتكشف في الصراعات الجارية اليوم، ليست سوى عرض استهلالي لما ستكونه الحروب في السنوات والعقود الآتية، فيما تسارع الجيوش إلى التعامل مع إملاءات الكتلة والدقة كليهما معاً.
التوق إلى الدقة
كثيراً ما اعتقدت الدول بأنها قد تحقق النجاح في أرض المعركة إذا امتلكت قوات ومعدات وإمدادات، تفوق ما لدى منافسيها. وفي تلك الذهنية، فإن للأعداد وزن يتكفل بإحراز النصر. ولكن، منذ ستينيات القرن الـ20، شرعت تلك النظرية في التبدل. وأخذت القوات الأميركية تفكر في فضل الدقة على الكمية وحدها. وتطلعت القوات الأميركية إلى تحقيق دقة متزايدة باطراد في التعرف إلى أهدافها، وتتبعها وضربها. وأدى التشديد على هذا المنحى إلى تقليل عدد الأسلحة ونقاط الانطلاق اللازمين للعمليات الحربية، بالترافق مع مساعدة الولايات المتحدة في الاستجابة إلى القانون الإنساني الدولي عبر تقييد إمكان حدوث أضرار جانبية بأثر من الضربات العسكرية.
وفي سبعينيات القرن الـ20، واجهت الولايات المتحدة وحلفاؤها في أوروبا، مسألة التفوق العددي للقوات السوفياتية. ولم يكن مستطاعاً مضاهاة القوات السوفياتية في عدد الدبابات. وتملّكت كبار القادة الأميركيين خشية من انتصار موسكو في حرب قد تجري في أوروبا بسبب التفوق العددي. وللتعامل مع ذلك القلق، أدخلت الولايات المتحدة برنامجاً سمي "كاسر الهجوم" Assault Breaker بهدف إرساء التكامل بين التقنيات الصاعدة آنذاك وبين التخطيط العسكري، مع نية استعمال الصواريخ والقنابل الدقيقة في زعزعة القوات السوفياتية. وبالتالي، حتى لو حقق السوفيات اختراقاً أولياً في هجوم على وسط أوروبا، فسيخفقون في تحقيق ثغرات عميقة في الخطوط الغربية. ومع استعمال المجسات والأشكال الأولى من أنظمة التوجيه وكذلك الأسلحة البعيدة المدى، أرست الولايات المتحدة قدرات تتكفل بتدمير الموجات الثانية والثالثة وما يليها، للقوات السوفياتية في أوروبا.
ولم تتحول "الحرب الباردة" إلى مواجهة ساخنة في أوروبا، لكن قدرات الاستهداف الدقيق سجلت انطلاقتها العلنية الأولى في "حرب الخليج" عام 1991. وشاهدت شعوب العالم أشرطة متلفزة تظهر ضرب الدبابات العراقية بالقنابل الموجهة بالليزر، ومع تراجع إمكان المواجهة بين القوى العظمى تعاظم الاهتمام بالتفوق في الدقة مترافقاً مع تركيز العالم على صراعات بأمدية أقل على غرار تلك التي خيضت في البوسنة وكوسوفو، وتلاها آنذاك، الحرب ضد الإرهاب وضد التمرد في أفغانستان والعراق. وفي تلك الصراعات، جرت العمليات العسكرية بين قوى أصغر تواجهت في مناطق مأهولة بالسكان.
وخلال الجزء الأول من القرن الـ21، استمرت الولايات المتحدة في الإمساك بموقع القيادة عبر أجيال من تطوير الضربات الدقيقة. وآنذاك واجه "البنتاغون" مشكلة الارتفاع الصاروخي في تكاليف المركبات والطائرات والغواصات والسفن والأسلحة، بالتالي عملت أفضلية الدقة على إقناع العسكريين الأميركيين بأنهم يستطيعون الانتصار رغم تقليص الكمية العددية، عبر إعطاء الأولوية للدقة والكفاءة. وبوعي تام، اختارت الولايات المتحدة خفض المستوى الكمي لجيشها، بالترافق مع الاعتماد على الدقة. وتقلصت الكشوف العددية للقوات الجوية وحجم الأسطول إلى نحو ثلث ما كانا عليه في عام 1965، لكن قوة الضربات لكل طائرة وسفينة وغواصة، باتت أكبر بكثير.
استقطاب ثنائي زائف
ودار الدولاب كرة أخرى، ولم تعد الولايات المتحدة تتمتع بالتقدم الواسع للريادة في حقل القدرة على توجيه الضربات الدقيقة، بعد أن حازته طويلاً. ومع مرور الوقت صارت التكنولوجيا التي تستند إليها تلك القدرة، كالذخيرة التقليدية والمجسات وأنظمة التوجيه، أقل كلفة، وباتت في متناول دول ومجموعات محاربة كثيرة خارج أميركا. ومن أذربيجان إلى كوريا الشمالية، امتلكت قوى أخرى القدرة على ضرب أهداف بدقة وقوة وعبر مسافات طويلة، بعد أن اقتصرت تلك الأمور لفترة من الزمن، على الجيش الأميركي. لقد استفادت تلك القوى من التطورات التي شهدها القطاع الخاص في الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى التوسع المطرد في توفر منصات الاتصالات والتتبع على غرار أنظمة تحديد المواقع على الكرة الأرضية. ومع هذا التكاثر في المعرفة والتكنولوجيا والأسلحة، باتت العمليات العسكرية ومعداتها موضع تغيير. وبصورة حاسمة، أدى التقدم في التصنيع والبرمجيات إلى خفض أسعار معدات أساسية من الأنواع المذكورة آنفاً. ومن شأن مسيرة تجارية رخيصة مجهزة بالأسلحة، وتوجهها مسيرة رخيصة أخرى مزودة بتقنيات استشعار، أن تضرب أهدافاً محددة بعيدة أو تنفذ عمليات استطلاع. ولأنها رخيصة نسبياً، يجري توظيف تلك الطائرات على نطاق واسع. وأخذت الجيوش تدرك أنها لا تملك أن تفاضل بين الأحجام والدقة، بل توجب عليها امتلاكهما كليهما معاً.
وفي اللغة العسكرية، يشار إلى تلك الأنواع من الأنظمة بأنها "قابلة للتبدد"، بمعنى أن رخص أثمانها يهون من شأن خسارة أي نظام منها إلى حد اعتباره فاقداً للأهمية. وتعتبر أنظمة متدنية بالمقارنة مع الأسلحة الأشد تقدماً التي يوظفها جيشا الصين وأميركا، على غرار المقاتلة "إف-35" الشبحية [أميركية] والصاروخ البعيد المدى المضاد للسفن [صيني]. في المقابل، من المستطاع نشر الأنظمة الرخيصة على نطاق أشد اتساعاً بالمقارنة مع نظيراتها من الأنظمة المتقدمة والمكلفة. ويضمن انخفاض ثمن كل واحدة منها، أن تصبح قدراتها المجمعة في متناول اليد.
وبالتأكيد، لا يعني ذلك أن تلك الأنظمة الدقيقة الرخيصة ستحيل الدبابات والمدفعية وغيرها من الأعتدة الحربية الحديثة إلى التقاعد. وبالأحرى، إنها تتكامل مع ما سبقها، على غرار ما حصل بالضبط مع ابتكارات سابقة. ومثلاً لم يؤدّ التقدم في الأسلحة الجوية إلى وضع نهاية لاستخدام المشاة في المعارك. وستتميز معارك المستقبل بأنها مزيج من أنظمة فائقة التقدم تحشد بأعداد قليلة، مع أنظمة قابلة للتبدد توظف بأعداد تفوق الأولى بأضعاف كثيرة.
وعملت تلك التوجهات والتقنيات الجديدة على جعل حرب أوكرانيا "مختبر معارك"، وفق صيغة وضعها وزير الدفاع البريطاني بن والاس عام 2023. واستخدم الجانبان كلاهما حشوداً من المسيرات الرخيصة نسبياً في مراقبة وضرب كل منهما للآخر. وفي البحر، سددت القوارب الروبوتية الأوكرانية ضربات مؤذية للأسطول الروسي كجزء من حملة أعطبت أو دمرت الأسطول الروسي الثالث في البحر الأسود، وفق تقديرات أوكرانية. وتحاول روسيا الآن التخلص من تلك القطع البحرية الأوكرانية بواسطة مسيرات موجهة من بعد عبر نظام تحليق واستهداف يعتمد على أول ما تشاهده العين البشرية الموجهة.
ويتمثل الأمر المختلف اليوم، بالمقارنة مع العقدين الأولين من القرن الـ21، في مستوى توظيف تلك القدرات، أي كميتها وكتلتها التي لا مجال لإنكارها. وتستخدم أوكرانيا وروسيا آلافاً من المسيرات كل أسبوع، وأحياناً تخسرها، لأداء مهمات تتضمن المراقبة والقتال. وإن بعض تلك المسيرات قابل لإصلاح وإعادة التوظيف، فيما بعضها الآخر مصمم لأداء مهمات باتجاه واحد تحققها بعد أن تقطع مئات الأميال. وفي ديسمبر (كانون الأول) 2023، أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن بلادة قد تنتج مليون مسيرة في 2024، وكونت ذراعاً عسكرية خاصة تركز على الأسلحة المسيرة، وتشتهر في أوكرانيا بتسمية غير رسمية هي "جيش المسيرات".
هجمات كثيفة
يحدث هذا التغيير في طبيعة الحرب بسبب الفوائد المتوقعة لهذه التقنيات على أرض المعركة، وليس بتأثير توفرها التقني وحده. ويستطيع كل طرف فاعل، بما في ذلك الدول الصغيرة والأطراف التي تعمل خارج إطار الدولة، إنتاج قدرة قصف عبر توظيف أنظمة رخيصة على نطاق واسع. ومثلاً تستطيع أوكرانيا إنفاق ما يتراوح بين حفنة من مئات الدولارات لصنع مسيرة تكتيكية تستطيع مساندة وحدة عسكرية صغيرة في تنفيذ عمليات مراقبة، إلى ما يصل لـ 30 ألف دولار لصنع أنظمة مماثلة تتولى عمليات قصف قد تصيب أهدافاً تقع على بعد 500 ميل (نحو 800 كيلومتر). وتوظف روسيا عدداً كبيراً من المسيرات الإيرانية الصنع من نوع "شاهد-136" التي تنفذ مهمات باتجاه واحد ولا تعود، وتحلق لمسافة تصل إلى نحو 150 ميلاً (240 كيلومتراً) وتكلف ما يتراوح بين 10 آلاف و50 ألف دولار. ومع أسلحة كتلك، قد يلزم لجيش ما أن يستخدم مجموعة من الإطلاقات كي يدمر هدفاً معيناً، لكن الكلفة الكلية للتخلص من ذلك الهدف ستكون أدنى مما يتطلبه إنجاز الأمر نفسه باستخدام أنظمة الأسلحة المكلفة. وفي مقارنة حادة الملامح، لنفكر في "صاروخ جو أرض المجهز للمدى البعيد" الأميركي الذي يمتلك قدرات متقدمة وفائقة القوة، ويستطيع ذلك الصاروخ إنجاز الهدف المشار إليه آنفاً، لكن التقديرات العامة لكلفته تتراوح بين مليون ومليوني دولار.
وفي الوقت الحاضر أيضاً، يعتبر الدفاع ضد مثل هذه الهجمات [بالمسيرات الرخيصة] أكثر كلفة بكثير مقارنة مع عمليات إطلاقها. في أبريل (نيسان) 2024، أطلقت إيران على إسرائيل ما يزيد على 300 سلاح، بما في ذلك مسيرات وحيدة الاتجاه، وصواريخ كروز وأخرى باليستية. وبدعم من الولايات المتحدة وبضع دول شرق أوسطية، تصدت إسرائيل لكل تلك الأسلحة تقريباً. لكن، كم بلغت الكلفة؟ وثمة تقرير يقترح أن إطلاق الضربة تكلف 80 مليون دولار لكن الدفاع ضدها استلزم بليون دولار. وبإمكان بلد غني وحلفاؤه تحمل مثل تلك التكاليف بضع مرات، لكن ليس 20 أو 30 أو 100 مرة. إن الحماية من مثل تلك الهجمات مكلفة، إضافة إلى كونها صعبة. ويستطيع المهاجم أن يضرب خصمه بمجموعة منوعة من الأسلحة، لكن ذلك الخصم قد يقدر على التخلص من أحدها لكن سيتوجب عليه التصارع مع بقيتها. ويقف القادة والمحللون عند البدايات في تصور الكيفية الدقيقة للتصدي لهجمات تطلق بصورة كثيفة.
لم تعد الولايات المتحدة تتمتع بالتقدم الواسع للريادة في حقل القدرة على توجيه الضربات الدقيقة، بعد أن حازته طويلاً
ومن وجهة نظر المهاجم، لم تعد الجيوش قادرة على افتراض أن عدداً صغيراً من الأسلحة العالية التقنية، يكفل لها تحقيق الانتصار. ومثلاً، إن بعض الأسلحة الأكثر تقدماً التي تمتلكها أوكرانيا بما فيها "أنظمة القصف الصاروخي العالي الحركة"، اختصاراً "هيمارس" HIMARS، والمدفعية الموجهة بنظام "جي بي إس" اللذين قدمتهما الولايات المتحدة لها، واجهت تحديات في أرض المعركة لأن روسيا طورت القدرة على وقف أنظمة التهديف والتوجيه فيهما. وللسبب نفسه، تحتاج أوكرانيا إلى المستوى الذي يقدمه لها استعمال أنظمة أقل كلفة كي ترهق الدفاعات الروسية.
وفي المقابل، يساعد استعمال كمية كبيرة من الأسلحة الرخيصة في جعل الأسلحة العالية التقنية والمكلفة، أكثر فاعلية. إذ تستطيع ضربة بكتلة من الأسلحة الدقيقة استنفاد قدرات الدفاع الجوي عند العدو، مما يتيح لأنظمة الطرف المهاجم نفسه، الأكثر تقدماً والأقل عدداً، فرصة أكبر لضرب أهدافها. ومثلاً استعملت روسيا مزيجاً من الأسلحة الرخيصة مع صواريخ كروز المكلفة، بما في ذلك الصواريخ الفرط صوتية، ضد أوكرانيا.
وتظهر تلك الحرب التي استمرت حتى الآن ما يربو على سنتين في أوكرانيا، أن الصراعات بين الدول قد تستمر في كونها متوحشة ومؤذية، لكنها ليست قصيرة دائماً. إذ تملك الدول فرصة أكبر في تحمل مثل تلك الحروب الطويلة حينما يتوفر لها مخزونات عميقة من أنظمة الأسلحة الرخيصة، مع ملاحظة أن محاولة الاحتفاظ بمخزونات كافية من الأنظمة الأكثر كلفة، سيغدو أكثر صعوبة. وكذلك فمن شأن التركيز على كتلة من الأسلحة الدقيقة، أن يتيح للجيوش الاستعداد لإمكان خوض حرب قد لا تنتهي بسرعة، وتتضمن سنوات من القتال.
كيفية تشكيل الحد الأعلى
وفي الغالب، يتهم البنتاغون بالبطء في الابتكار، وكذلك الحال بالنسبة إلى تبني الابتكارات، واعترفت بذلك نائبة وزير الدفاع كاثلين هيغز. في المقابل تعبر مجموعة من المبادرات والبرامج عن الاهتمام المتصاعد لوزارة الدفاع بمفهوم الكتلة الدقيقة، إضافة إلى تبني تلك التقنيات التي تواصل تطورها. ومثلاً تسعى القوات الجوية إلى حيازة مسيرات مقاتلة ورخيصة الثمن تستطيع التحليق مع منظومات مثل مقاتلات "إف-35"، وتخطط لشراء تلك المسيرات مع نهاية العقد الحالي، ونشر آلاف منها. وبلغ الأمر بأن ركب مسؤول القوات الجوية فرانك كندل، في طائرة "إف-16" حلقت بتوجيه من الذكاء الاصطناعي، كي يبرهن على مدى تبني ذلك الفرع من القوات المسلحة للتقنيات الجديدة. وكذلك تعمل القوات الجوية مع القطاع الخاص على إنتاج صواريخ "كروز" قد لا تتكلف أكثر من 150 ألف دولار لكل صاروخ، مما يمثل كسراً عشرياً من الكلفة الحالية التي تتراوح بين مليون و3 ملايين دولار. وعلى نحو مماثل، شرع الأسطول باستئجار اختصاصيين في شؤون المعدات الحربية الروبوتية، وكون فيلقاً متخصصاً بالسفن المسيرة، واختبر عدداً كبيراً من المسيرات في الشرق الأوسط.
ويتجسد أبرز استثمار عسكري أميركي في مفهوم الكتلة الدقيقة بمبادرة "ريبليكاتور" Replicator، أو حرفياً، المحاكي. [الاسم مشتق من مصطلح ريبلكا Replica الذي يترجم في التقنيات الرقمية بصنع نسخة رقمية شبيهة عن شيء، أو بالأحرى محاكاة رقمية عنه]. ويركز "ريبليكاتور" على تسريع تبني التقنيات التي يحتاج إليها الجيش الأميركي الآن، وليس بعد خمسة أو 10 أعوام. وتتمثل المساحة الأولى التي تركز عليها تلك المبادرة في تضخيم الأنظمة "المؤتمتة القابلة للتبدد في المجالات كلها"، بمعنى الإكثار من تلك المنظومات المعقولة الثمن التي باتت تحدد معالم الحقبة الجديدة من العمل العسكري. وتستيطع تلك المنظومات العمل في الأمكنة كلها من الجو إلى أعماق البحار، مع استهداف نشر آلاف عدة من تلك الأنظمة مع حلول أغسطس (آب) 2025. وأعلن "البنتاغون" الاستثمارات الأولى في مبادرة "ريبليكاتور"، وتشمل مسيرة "سويتش بلايد 600" Switchblade 600 أحادية الاستخدام، مع مراكب غير مأهولة وأنظمة تستطيع التصدي للمسيرات الجوية. ومن خلال مبادرة "ريبليكاتور"، أحرزت وزارة الدفاع تقدماً في تطوير قدرات خلال أقل من سنة، فيما قد يستغرق إنجازها تقليدياً أكثر من سنوات عدة. ودفع ذلك الإنجاز بهيغز إلى إعلان انخراط وزارة الدفاع في مسار تحقيق أهداف مبادرة "ريبليكاتور" المتعلقة بالأنظمة المؤتمتة القابلة للتبدد، مع حلول عام 2025.
إضافة إلى الاستثمارات المحددة في الكتلة الدقيقة، ينكب الجيش الأميركي على إجراء تعدلات تنظيمية بغية مساعدة القوات المسلحة في التأقلم عبر تبني تقنيات جديدة. ويعتبر ذلك ضبطاً لكيفة تنظيم القوات المسلحة الأميركية وتدريبها وتجهيزها ونشرها. وتختبر وحدات من مشاة البحرية "مارينز"، أجهزة استشعار مزودة بأنظمة الذكاء الاصطناعي من شأنها مساعدة الجنود في فهم البيئة المحيطة بهم، ومراقبة وتقييم سفن الخصوم. وأنشأ الجيش قوات للمهمات تعمل عبر حقول عدة كي تختبر القدرات التقنية الصاعدة في الجو والأرض والبحر والفضاء والفضاء السيبراني، ولمعاينة مدى كفاءة توظيفها في أرض المعركة. وكذلك كون الجيش "الوحدة العسكرية للابتكارات" كي تكون تنظيماً ضمن وزارة الدفاع يناط به مهمة تسريع تطوير التقنيات التجارية المتوفرة، وكذلك الحال بالنسبة إلى توظيفها. وترفع تلك الوحدة تقييمها مباشرة إلى وزير الدفاع. ووفر لها الجيش أيضاً زيادة دراماتيكية في الموازنة تلقتها من الكونغرس في 2024. وتثبت تلك المعطيات أن البنتاغون والكونغرس يأخذان بجدية تلك المتغيرات في الأعمال العسكرية.
وأخيراً يقدم "صندوق التجارب العسكرية السريعة" تمويلاً لعمليات ترمي إلى وضع تلك القدرات التقنية التي يعتبرها الجيش الأميركي فائقة الأهمية موضع الاختبار، بهدف التعامل مع التحديات في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، إضافة إلى غيرها من الأخطار. وبالفعل، أثمرت النشاطات الأولى لذلك الصندوق ثلاثة مشاريع باتت تتحرك ضمن الجيش الأميركي. وتشمل تلك الثلاثية تسريع بمقدار خمس سنوات لقدرة مشاة البحرية على إنجاز ضربات عسكرية في منطقة الهندي-الهادئ. وعلى رغم تبقي كثير مما يجب فعله، إلا أن هذه المقدمات تبرهن على أن الولايات المتحدة أرست أرضية العمل للاستفادة من الكتلة الدقيقة، إضافة إلى مواجهة كل ما قد يأتي تالياً.
ضباب المستقبل
لا تخطئ العين رؤية علامات التغيير الكبير في طريقة خوض الحروب، إذ إن توظيف مسيرات صغيرة ورخيصة بصورة مكثف في أوكرانيا خلال السنتين الأخيرتين، يقدم لمحة خاطفة عن الهيئة التي ستتخذها تلك الحروب في المستقبل. ويتوجب على الجيوش التفكير في سبل إلحاق الهزيمة باستراتيجية الكتلة الدقيقة، وسيؤدي ذلك الجهد إلى مزيد من التغيير. ومثلاً، هناك أسلحة توجيه الطاقة التي تستعمل شكلاً فائق التركيز منها، على غرار تكثيف أشعة الليزر أو حزمات من الجزيئات كبديل من المقذوفات الصلبة. ومن شأن تلك الأسلحة خفض كلفة كل إطلاق لها للتصدي إلى أسراب سابحة من المسيرات. وفي الآونة الأخيرة، اختبر الجيشان الأميركي والبريطاني، ووظفا أيضاً، أنظمة في الطاقة الموجهة صممت للتصدي للمسيرات الجوية، في الشرق الأوسط. وبالتأكيد، وعلى مدار أربعة عقود في الأقل، رسمت المخيلات صور الطاقة الموجهة باعتبارها تكنولوجيا المستقبل. ولكن، مثل تلك الأسلحة قد تجد مكاناً لها في الحروب الآتية.
ثمة شيء مؤكد يتمثل في أن التوقف والجمود يعني خسارة السباق. ولا تكف الصين وروسيا وإيران ووكلاءها ومجموعة من الأطراف الفاعلة الاخرى، عن متابعة الوصول إلى الكتلة الدقيقة مع ما تحمله من فوائد ملموسة في ميدان المعارك. ويتوجب تنبيه صناع السياسة في واشنطن، وبصورة محددة، عن التقدم الصيني السريع في الأشياء كلها، من السفن إلى الصواريخ الفرط صوتية إلى الصواريخ المضادة للسفن، إذ تضاف كلها إلى استثماراتها الهائلة في الذكاء الاصطناعي، واهتمامها بمفاهيم الكتلة الدقيقة، والقدرة على إنتاج أنظمة. وتفوق سرعة الصين في تلك المجالات، ما تنهض به الولايات المتحدة اليوم.
ويتوجب على الجيش الأميركي أن يسرع وقع خطاه، ذلك أن ابتكارات اليوم وأنوية نماذجه يجب أن تغدو القوة اليومية للقوات المسلحة غداً، إذا أرادت الولايات المتحدة الاحتفاظ بقيادتها العالمية. وثمة دلائل متنامية على فاعلية أنظمة الكتلة الدقيقة، وذلك يفترض به أن يشكل نقطة انطلاق للنقاشات عن التغيرات المستقبلية، إضافة إلى إحداث تبدلات حقيقية في الاستثمارات اليوم. ومن شأن هذه الأطر التأثير في مروحة واسعة من القرارات، بداية من السفن التي يبنيها الأسطول إلى الصواريخ التي يشتريها الجيش، ووصولاً إلى البنية التحتية للذكاء الاصطناعي التي ستحتاج إلى استخدامه كل الخدمات العسكرية. وإن نسبة الوصول إلى أنظمة الكتلة الدقيقة ستحدد شكل السبل التي ستسلكها البلدان كلها، بما في ذلك الولايات المتحدة والصين، في الاستعداد للمستقبل.
مايكل سي. هورويتز، أستاذ مقعد ريتشارد بيري ومدير "بيري ورلد هاوس" في جامعة "بنسلفانيا"، وبين عامي 2022 و2024 شغل منصب نائب المساعد لوزير الدفاع الأميركي في شؤون "تطور القوة والقدرات الصاعدة". وألف كتاب "توزع القوة العسكرية، أسبابها وتداعياتها على السياسات العالمية".
مترجم عن "فورين أفيرز"، 22 أكتوبر (تشرين الأول) 2024