ملخص
كيف صار مبنى دار الأوبرا الذي شيدته بلدية حمص في سوريا قبل نحو قرن من الزمان بلمسة إيطالية؟
يمر كثير من العابرين في شارع شكري القوتلي بمدينة حمص من دون أن يعلموا أنه يحوي بين جنباته أعرق وأقدم الأبنية في حمص العدية، فهنا طغت أصوات وسائل النقل ووقع أقدام المارة على صوت أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب اللذين غنيا في ثلاثينيات القرن الماضي على مسرح كان في البدء دار أوبرا.
لكن هذه الدار تحولت مع الزمن إلى مجرد مكان للتسلية في معظم أقسامه التي بقيت على قيد الحياة بعد أن مرت الحرب عليه وسببت له جرحاً وإن كانت لا تزال آثارها باقية حتى اليوم.
أول دار للأوبرا في سوريا
يمتد شارع القوتلي ما بين الساعتين القديمة والجديدة، حيث يشكل وسطاً تجارياً وإدارياً مهماً ينتشر على طرفيه عديد من المحال التجارية في مدينة حمص، إذ يعتبر من الشوارع الرئيسة وسط المدينة، وهو على اسم الرئيس السوري الراحل شكري القوتلي.
وفي مكان طاولات البلياردو التي فرش بها المسرح اليوم وقف محمد عبدالوهاب في لقائه الأول مع أهل حمص في يوليو (تموز) عام 1930، ومن على منبره أيضاً صدح صوت أم كلثوم والمطربات منيرة المهدية وصباح ونجاح سلام. كما وقف على خشبته تمثيلاً أمينة رزق ويوسف وهبي ونجيب الريحاني وإسماعيل ياسين وبشارة واكيم وقدموا عديداً من أعمالهم الفنية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى هذا المسرح ألقى عميد الأدب العربي طه حسين محاضرة عن الشاعر ديك الجن الحمصي في أربعينيات القرن الماضي، أما وصفي القرنفلي فاتخذ من طاولته صالوناً أدبياً له، كما ألقى الشاعر عمر أبو ريشة قصيدته الميمية المشهورة فيه.
وعن هذا المكان تحدث خالد الأحمد في كتابه "معالم وأعلام حمص" فقال "شهد هذا المقهى معظم التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها سوريا خلال القرن الماضي، خصوصاً أن جل رواده كانوا من رجال الأدب والسياسة، ومع رشفات فنجان القهوة ودخان السجائر كان جزء كبير من تاريخ البلاد يصنع وفوق طاولاته تطلق الإشاعات والنكات، خلال أيام الانتداب الفرنسي مما جعله يغلق المقهى أكثر من مرة".
وعندما نالت سوريا استقلالها عاد مقهى الروضة ليراقب الأجواء السياسية والاجتماعية والاقتصادية ويصدر تعليقات رواده وآراءهم المختلفة لتنتشر في الشارع وتصبح على كل لسان، وفق ما ذكره الأحمد.
تجربة جيلين
وبما أن المقاهي لعبت دوراً بارزاً في الحياة اليومية للإنسان لارتباطه بالذاكرة الجمعية للناس، تحدث غسان الذي تخطى عمر الـ60 لـ"اندبندنت عربية" عن هذه الذاكرة، قائلاً "في ثمانينيات القرن الماضي كنت أرافق والدي إلى هذا المقهى، إذ كنا نأتي من إحدى قرى حمص إلى مركز المدينة ليتسلم والدي مرتبه الشهري ويدعوني لنجلس فيه، حيث كانت طاولة الزهر (النرد) تنتظرنا".
واليوم واكب هذا المكان عصر التسلية، حيث طغت أصوات "البلايستيشن" وطاولة "البلياردو" ومن يلعبون بها على أصوات شخصيات أمت هذا المكان وجعلت منه صرحاً ثقافياً، فمسرح "تياترو الروضة" تحول إلى مجرد مكان للتسلية وإضاعة الوقت من دون فائدة معرفية ممتدة من تاريخه العريق، إذ لا يعرف اليوم عديد من رواده الصغار تاريخه.
وهذا ما عبر عنه مازن ابن الـ20 سنة "لم أكن أعرف أن للمكان هذا التاريخ الذي كنتم تتحدثون عنه مع المشرف، لقد صدمت أثناء استماعي لحديثكم".
وتابع كلامه بعد سؤاله عما يفعله هنا "أنتظر أصدقائي ريثما نجتمع مع بعضنا بعضاً لنبدأ لعبة البلياردو التي نمارسها يومياً كلاعبين أو متفرجين، وأحياناً قليلة ألعب بالبلايستيشن".
دار السينما... حرب وترميم
وبما أن للدار ثلاثة أقسام، فإن الزائر يلج من غرفة البلياردو أو المسرح سابقاً إلى فسحة داخلية مسقوفة في وسطها بحيرة ماء وعلى محيطها تصطف الطاولات والكراسي للزائرين، منهم الرواد ومنهم من قصدوا المدينة من مكان آخر ويحتاجون إلى استراحة وتناول فنجان قهوة أو كوب من "الزهورات" (شاي أعشاب سوري).
وعن هذا تحدث أبو أحمد القادم من مدينة دير الزور "أعرف هذا المكان منذ 20 عاماً، وكلما أتيت إلى حمص أقصده كاستراحة محارب أتناول فنجان قهوة ريثما أنهي عملي في المدينة، وقد عرفت ابني وزوج ابنتي الجالسين معي عليه منذ سنة تقريباً".
أما المشرف عن المكان ففتح باب القسم الصيفي على رغم الشتاء والبرد القارس في حمص وفيه يظهر المكان كما قسم على يد الأتاسي سابقاً، إذ إنه يجهز في الصيف لاستقبال عدد كبير من الزائرين.
وبالعودة للقسم الشتوي، استخدمت صالته الرئيسة كدار للسينما، بدءاً بسينما أمبير وصولاً إلى سينما الكندي، لكن المقهى تعرض للتخريب خلال الحرب في حمص (2011-2014) مما تسبب في تخريب نوافذه وواجهة المبنى، ليعاد ترميمه وافتتاحه عام 2015، ولكن لم يعد لدار السينما وجود وانتقلت إلى مكان آخر وترك بعض الخراب الذي حصل شاهداً على حقبتين، ماض جميل ومستقبل ينتظر سعي الحاضر لربطه به والبناء عليه.