Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حكايات لعائلات سورية ضحت بـ"الغالي" لتهجير أبنائها

باعت كل ما تملك حتى يغادر أولادهم البلاد نازحين أو لاجئين هرباً من الجوع والتشرد

أكثر من 6.5 مليون لاجئ سوري نازح خارجي مسجلين الرقم الأعلى عالمياً بين عامي 2011 و 2022 (أ ف ب)

ملخص

هل صارت الهجرة قدراً محتوماً على شباب سوريا؟ ومن سيبني الخراب في غيابهم؟

شهدت سوريا خلال أعوام الحرب موجات هجرة قاسية متعددة الأشكال أفضت إلى وجود ملايين النازحين واللاجئين والمشردين، منهم أكثر من 6.5 مليون لاجئ سوري نازح حول العالم مسجلين الرقم الأعلى عالمياً بين عامي 2011 وحتى نهاية 2022، يضاف إليهم نحو 7 ملايين نازح داخل البلاد حتى آخر إحصاء موثق عام 2017 بحسب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين والتابعة للأمم المتحدة.

نزوح مستمر

واللافت أن الهجرة السورية لا زالت مستمرة حتى اليوم دونما انقطاع، ولكن الأسباب تبدلت بشكل جوهري، فما كان مناصاً من حرب واسعة بات منوطاً بظروف اقتصادية أشد قسوة، فإن كان يمكن تقسيم الهجرة إلى مرحلتين زمنيتين فيمكن القول إن الأولى انتهت مع اندثار أخطار الحرب العسكرية المباشرة أواسط  عام 2018 مع نهاية معارك ريف دمشق، واتخاذ الخريطة السورية شكلاً جديداً متنوعاً لناحية القوى المسيطرة عليه والمنكفئة بالغالب ضمن حدود وهمية يصار إلى تجاوزها عسكرياً في أحيان قليلة.

أما المرحلة الزمنية الثانية فهي التي انطلقت عام 2020، وهو العام الذي استقبله السوريون مع تطبيق حزمة عقوبات قانون قيصر وبدء الانهيار التاريخي في قيمة العملة المحلية والمعيشة المجتمعية والظروف العامة وما تبعها من انعدام سبل وأساسات الحياة المطلوبة من شح القمح وانقطاع المشتقات النفطية وغيرها، بالتوازي مع حزم عقوبات أخرى أبرزها قانون "كابتاغون" وقانون "مكافحة وصل العلاقات مع النظام السوري".

دوافع متبدلة

وتلك الهجرة المستجدة والمستمرة لم تكن تحت ظلال بندقية وصوت مدفع، وأسفرت فعلياً عن هجرة مئات آلاف الشباب، وهي الأخطر، لأنها لا زالت مستمرة بشكل متواصل من دون أن تعرف انقطاعاً، ولأنها انضوت على الفئة الشابة التي يغلب عليها خريجو الجامعات حديثو العهد، وبمعنى أدق القوى البشرية العاملة التي لم تجد مكاناً لها في سوق العمل ولا مكاناً لطموحها في بلد لا وسيلة نقل تعمل فيه باستمرار لتقلهم إلى حيث هم ذاهبون.

والهجرة عموماً حينما بدأت تركزت نحو أوروبا كمقصد إستراتيجي ولأعوام متعددة فلحَ فيها مئات آلاف السوريين من الوصول، لكن تلك المهمة صارت مع تتالي الأعوام تتخذ شكلاً أقرب إلى المستحيل، فهي تحتاج الوصول إلى تركيا أولاً وإسطنبول تحديداً، ثم خوض صراع مرير وطويل مع غاباتها وأمطارها وأنهارها ووحوشها حتى لحظة الاصطدام مع "الجندرما" التركية التي تعتقلهم وتقودهم إلى السجون، عدا عن آلاف رحلات الموت غرقاً عبر البحر.

وكل ذلك في سبيل الوصول إلى اليونان كمحطة أولى، وهناك تتكرر المعاناة، وتظل تتكرر مع المهاجر من بلد نحو آخر حتى يبتسم له الحظ في الوصول إلى أوروبا الغربية، وقد لا يبتسم له، فثمة سوريون كثر عادوا لسوريا مستسلمين بعد أشهر العذاب تلك.

وخلال حال ضبط الهجرة تلك من قبل دول العبور الرئيسة عرف السوريون في عامي 2021 و2022 طريقاً آخر إلى أوروبا ولكنه جاء ضمن حسابات سياسية هذه المرة وعبر الحدود البيلاروسية التي وصل إليها الآلاف وعلقوا في ثلوجها وبين أسلاكها الشائكة من جهة بولندا لأشهر، فبعض السوريين صبر ونجح أخيراً في التسلل، وآخرون عادوا يجرون ذيول الخيبة.

رحلة العمر

ومن بين أولئك الذين صبروا لشهرين ونصف على الحدود شاب اسمه مؤنس عبدالحق، فمؤنس يعيش اليوم حياة سعيدة في ألمانيا كما يقول والده لـ "اندبندنت عربية"، شارحاً أن ولده تعلم لغة ذلك البلد وبدأ بعده بالدراسة الجامعية مع تلقي منحة دورية شهرية "مجزية" كما يصفها، تعطيها الحكومة الألمانية للاجئين لديها.

يقول والد مؤنس "حال سوريا لا يسر أحداً، أنا رجل مثقف ومتعلم، ومن الواضح والجلي والثابت أن هذا البلد انتهى، نحن كبرنا بالعمر، لكن لماذا سنقضي على مستقبل أولادنا الذين لم يرو شيئاً من الحياة؟ فكان قراري ووالدته أن نرسله على رغم كل تعلقنا به، ولكن هل نبقيه معنا لنرضي أنانيتنا الأبوية، أم نساعده في تأمين مستقبل يستحقه؟ ومن هنا جاء قرارنا قبل أن نصطدم بالكلفة الباهظة التي يتوجب أن نؤمنها تجنباً لأي طارئ في رحلته".

ويضيف والد الشاب، "كل ما نملكه في هذه الحياة هو منزل في مدينة جرمانا بريف دمشق بعته وقتها بما يقارب 14 ألف دولار أميركي، أخذ مؤنس لرحلته 10 آلاف، واحتفظنا بأربعة لنتمكن من استئجار عقار نتظلل تحت سقفه معتقدين أن نهايتنا ستكون حيث نحن بغارة من سلاح جو لم نعد نعرف أصحابه لكثرة ما يعتدى علينا".

هجرة بقبول جامعي

عائلة الطالبة الجامعية نوارة عيصون التي كانت تدرس في كلية الهندسة المعمارية اتخذت قراراً تعتقد أنه أكثر عقلانية لفتاة يقع على عاتق أسرتها تأمين نجاتها خارج ما وصفوه بـ "المحرقة" الدائرة من حولها، ولا سيما أن لنوارة أخاً نجا بنفسه نحو هولندا عام 2014 متمكناً من الوصول بكلف بسيطة كما كان الحال حينها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

والد نوارة أمن لها قبولاً جامعياً من إحدى جامعات رومانيا لإكمال دراستها، وتلك القبولات الجامعية بدأت تنتشر أخيراً ويمكن الاستحصال عليها عبر مكاتب متخصصة ولكن في مقابل مبالغ تصل إلى 8 آلاف دولار أميركي.

يقول والدها، "لم أكن لأرسل ابنتي نحو الغابات والأخطار وتحديداً من الاتجاه التركي على رغم وجود كثير من الفتيات اللاتي عبرن ويعبرن ذلك الطريق، لكن لا أريد خسارتها، والخسارة هناك قائمة ولو كانت بفعل العوامل الجوية أو الجوع أو غيرها، لذا جئت إليها بالقبول الجامعي، وبعد أن وصلت إلى رومانيا تمكنت من شق طريقها إلى حيث يوجد أخوها".

باع كل ما يملك

والد نوارة اضطر إلى بيع كل ما يملك وهو سيارة أجرة "تاكسي" كان يعمل عليها، مستنداً إلى أن أولاده سيسندونه في المعيشة مالياً، فباع السيارة بـ 10 آلاف دولار وأعطى المبلغ كاملاً لابنته التي يصف وصولها إلى أخيها بالشجاع والمغامرة المحسوبة التي لم تجعله يندم على التفريط بكل ما يملك.

ويضيف عيصون، "لم يبق في سوريا شيء اسمه عائلات محافظة وغير محافظة، أي يسمحون لأولادهم أو لا يسمحون لهم بالسفر، فالجميع يسافر والبلد يفرغ من شبابه، وهذا ليس غريباً، فلماذا يبق الشاب هنا ليقف على طابور المساعدات أياماً، نفتقدهم نعم، وأمهم تبكي كل يوم، ولكن ماذا؟ أليس من حقهم أن يحظوا بحياة كريمة كتلك التي عشناها قبل الحرب؟ ولأننا عشناها حان دورهم ليعيشوها، وليس ثمة عائلة ستبخل في دفع أي شيء لتسفير أولادها، وهذا يحصل من حولي في كل مكان".

الرحلة الأطول

ومن بين أولئك المغامرين كان الشاب أحمد موصللي الذي اختار طريق تركيا متحدياً كل الأخطار الممكنة ومجرباً العبور نحو اليونان سبع مرات جميعها باءت بالفشل، وانتهت بالاعتقال الموقت من الشرطة التركية، فوصل أحمد تركيا عبر رحلة طويلة ومكلفة من دمشق إلى بيروت فأربيل ثم إسطنبول، سعياً منه إلى اكتساب مبالغ مالية إضافية عبر القيام بأعمال متنوعة تضاف للرصيد القليل الذي خرج به من البلد وهو 4 آلاف دولار.

رحلة أحمد بدأت في مارس (آذار) 2020 بعد أن رهن والداه منزلهما وهو كل ما يملكان لتأمين كلفة سفره الأولية، على أن يجتهد أحمد ليل نهار ليتمكن من سداد قيمة الرهن وإعادة المنزل لأهله، وهو اليوم في اليونان عالق هناك بعد أن نجح أخيراً في تجاوز أهوال الطريق بداية الشتاء الحالي، وبعد سيل من المحاولات الفاشلة.

هرب من الخدمة

لم يكن والد أحمد ليدخر جهداً في توفير أي مبلغ لمساعدة ولده في ما يصفه بالهرب، رافضاً تسمية رحلة ابنه بالهجرة لأسباب يشرح عنها انطلاقاً من أن البقاء كل ساعة إضافية هو خطر عليه، خصوصاً أن استدعاء ولده للخدمة العسكرية الإلزامية كان قد اقترب.

ويقول، "لا نملك شيئاً في الحياة، لا أرزاقاً ولا سيارات ولا دولاراً ولا ذهباً، أنا ووالدته موظفان وله أخ لكنه لا يزال صغيراً، ولم يكن هناك خيار سوى رهن المنزل بذلك الرقم، وقد تناقشنا أنا ووالدته سراً أنه حتى لو فقدنا المنزل فلا بأس لكننا في الأقل حمينا مستقبل ولدنا وحياته، ويعيننا الله لنستأجر منزلاً".

خيارات اضطرارية

وبالتزامن مع ذلك بدأ يظهر لدى السوريين توجه جديد نحو الهجرة باتجاه بلدان مكتسباتها أقل بكثير من دول أوروبا، لكن الوصول إليها آمن ويسير وغير مكلف نسبياً، ويكون السفر إليها من مطار دمشق غالباً، وتلك الدول هي الإمارات والعراق وسلطنة عمان والسودان قبل حربها الدائرة، وشكلت تلك الأسواق مثالاً أكثر من مناسب لاحتضان العمالة السورية ولو بشروط قاسية أحياناً تتعلق بالأجور.

وما زاد مرغوبية تلك الدول هو استصدارها "الفيز" والإقامات للسوريين من دون قيود تذكر وبأجور معقولة قياساً بالهجرة نحو القارة العجوز، كما أنها أقرب جغرافياً لبلدهم الأم فتكون الزيارات أكثر سلاسة ومتاحة على الدوام، كما يمكن للأهل زيارة أولادهم حيث هم.

بيد أن فرقاً وحيداً ركز عليه سوريون يقيمون في تلك الدول، وهو أن تلك الأوطان لا تؤمن لهم الاستقرار أو الديمومة والدخل الممتاز والأهم من كل ذلك الجنسية، فمهما ظلوا فيها من سنين سيظلون مقيمين لا مجنسين.

الخليج للخليج

واحد من أولئك السوريين استحضر مثلاً عن عمته المقيمة في الكويت منذ 45 عاماً ولا تزال مهددة بفقدان الإقامة إن غادرت الأراضي الكويتية لأشهر عدة متواصلة، وعلى رغم أنه يقيم في دبي على مقربة منها ولكن زيارتها ممنوعة عليه وفق أحكام سياسية تتعلق بالسوريين.

وذلك الشاب يعمل في مجال التصميم البصري واسمه عماد السيد، وعلى رغم أنه في دبي ولكن حالهم المادي ما دون السيء قبل سفره لم يسمح له بالسفر لولا أن استدان له والده مبلغاً مالياً بالفائدة، قبل أن يسد أحمد المبلغ لاحقاً من عمله، قائلاً "دبي مدينة عمل وتعطيك مالاً، ولكنها مصممة لتصرف معظم مالك فيها لا خارجه".

إيثار ومجازفة

يعيش 90 في المئة من السوريين تحت خط الفقر، بحسب الأمم المتحدة، وغالبية من يسافر ينتمي إلى تلك الشريحة الواسعة سعياً إلى تحسين معيشته والنجاة بنفسه وتأمين مستقبل جيد له ولأسرته التي ظلت في الداخل بعد أن بذلت كل ما باستطاعتها لتؤمن سفره، وكل ما باستطاعتها هو سيارة اشترتها قبل الحرب، والقليل من المصاغ الذهبي المخبئ لأسوأ الأيام، منزل اشتروه بالتقسيط أو ورثوه، أياً يكن ما يملكونه، فغالباً أولئك المهاجرون الصغار عمراً لم تتح لهم الحرب يوماً ليجمعوا فيه مالاً، فاستندوا إلى أهلهم في مجازفة بعضهم كسبها وانتشل عائلته وغير أحوالها، وبعضهم خسرها وأغرق عائلته في ديون إضافية.

المزيد من تقارير