ملخص
3 عروض مغربية جمعت بين استعادة التراث والتجريب والسرد الروائي
سجلت المغرب حضوراً لافتاً في الدورة الرابعة عشرة من مهرجان المسرح العربي في بغداد، وهذا عبر ثلاثة عروض تنوعت بين التراثي والتجريبي والحداثي. وعلى رغم جِدة هذه العروض واحتفاء جمهور المهرجان بها، إلا أن عرض "تكنزا... قصة تودة" انتزع جائزة الشيخ سلطان القاسمي كأفضل عرض في المهرجان، وهو من تأليف كل من أمين ناسور وطارق الربح وإسماعيل الوعرابي وإخراج أمين الناسور، وتقديم فرقة "فوانيس".
تروي قصة تودة (هند بالعولا) الفتاة الريفية الأمازيغية التي تعيش في بلدة على ضفاف بلدة درعة، وتؤدي الأغاني الشعبية متأثرةً بصوت أمها رقيّة (هاجر كريكج) صاحبة الصوت الجميل. تتطور الأحداث وتقع الفتاة في غرام الغالي (إسماعيل البوعرابي) الذي يدفعها باتجاه حبٍ كبير، ليس لشخصها وحسب، بل للوطن والثورة، على كل القيم البالية التي تعيق ذلك، فتذهب إلى المدينة للدراسة. في هذه الأثناء تتوطد علاقتها بحبيبها، وتقود الفتاة ما يشبه ثورة بين صفوف النساء المغربيات على الجهل والقيم الذكورية البالية.
استوحى القائمون على عرض "تكنزا" قصته من حكاية تراثية مغربية عن مطربة باتت اليوم من الأساطير الشعبية في البلاد، إذ يتوالى سرد حكاية العرض، عبر جيلين من النساء (الأم وابنتها)، من خلال العزف والغناء والنقر على "البندير" الآلة الموسيقية الشعبية في جبال الأطلس، إضافةً إلى الإيقاعات والرقصات التراثية المغربية التي شكّلت فرجة بصرية مختزلة على مسرح "الرشيد" وسط العاصمة العراقية بغداد.
وتمثل قصة "تكنزا" رمزاً بطولياً للصوت النسائي الأمازيغي الذي حاول البعض أن يقلل من دوره أو يمحو أثره. وقصة تودة اليوم تعد أسطورة لدى قبائل جبال الأطلس، فمن ذلك المكان الريفي الساحر يستعيد العرض المغربي قصة سيدة مهووسة بأداء "الأحواش"، وهو نمط وطقس غنائي أمازيغي. وعلى حافة الجنون تنادي "تكنزا الأم" على حبيبها فيناديها، ويلتئمان روحاً واحدة تصدح أنغاماً في ساحة أسايس (ساحة الفرجة). إذ يجسد هذا النمط الغنائي صدى روح المغنية (إيمان تيفيور)، لكنّ أباها (أيوب أسيوس) لم يكن راضياً عن هذا الحضور، فاستفزه، ودفعه إلى الاشمئزاز من زوجته وابنته معاً، واستشاط غضباً، فقام بسجن ابنته في غرفة صغيرة مظلمة لا يتسرب إليها إلا النزر اليسير من الهواء والضوء.
ويصادف في ليلة من الليالي الربيعية المقمرة أن أقيم حفل زفاف في قرية مجاورة، فصدحت أنغام "أحواش" وتعالت أنغامه لتلتقي أصداء الحفل بصوت تودة وهي تغني من داخل سجنها، فيتعقب المحتفلون أثرها، ويهتدون إليها عبر سحر صوتها، فيقومون بتحريرها من أسرها الطويل. وفي الختام تعود تودة إلى القرية بصوتها المعبّر لتسلم آلة "البندير" إلى والدها، وكي يستعيد توازنه الذي اختل حين فارقته ابنته وقبلها والدتها رقية، فتعود للأب ذكرى شريكة حياته التي قضت تضحية من أجل فنها العريق.
لعبت الأزياء دوراً بارزاً في أحداث العرض المغربي والتعبير عن طقوس الغناء التراثي. وتمثلت في الجلباب واللباس المغربي التقليدي للرجال، والقفطان المزركش بالفضة بالنسبة للنساء. واشتركت عناصر الديكور والإضاءة في تعميق الحديث عن الحكاية عبر قاعدة أو برج عالٍ بخلفية لعرض الصور تبدلت مع كل حدث من أحداث العرض. فمرة نشاهد البرج وهو يتحول إلى نافذة، وتارةً إلى شرفة، وتارة يصبح عتبة منزل، وكانت مرونة تحول الديكور سريعة بحيث لا يشعر المتفرج بتبدلاتها، بل تشارك الصورة هنا إلى جانب السردين الغنائي والشعري في رواية أحداث العرض.
وعلى رغم تعويل مسرحية "تكنزا" على الفرجة الشعبية والغناء والرقصات الفلكلورية، إلا أن هذه العناصر لم تعوّض عن غياب الدراما والصراع الذي بقي في شكله الأدنى أقرب إلى المغنّاة الشعرية منه إلى العرض الدرامي. وهذا خيار فني يتحمل مسؤوليته كل من كتّاب العرض ومخرجه، فتغليب الجمالي على الدرامي جاء هنا لمصلحة الاحتفالي الطقسي. وهو قالب يقترب من أداء الشعائر، ويستوحي عباراته من التراث والطقس الذي عمل صنّاع العرض عليه في رحلة بحث واستقصاء مضنيين دامت لعامين متتالين.
الجنون والهلوسة
العرض المغربي الثاني في المهرجان جاء بعنوان "إكستازيا" لـ (فرقة الشاون للثقافات)، والعرض من تأليف ياسين إحجام وإخراجه. الفنان الذي عمل مع مصمم السينوغرافيا عبد الحي السغروشني لمدة عام ونيف على العرض، إذ تم العمل بشكل مختلف من ناحية الطرح الدرامي وانتهاج أسلوب المسرح الجمالي في وحدة شبه عضوية مع عناصر الديكور والإضاءة والأزياء، وصولاً إلى ما يقترب من أسلوب المسرح الملحمي، وظهور الراوي (رشيد عدواني) بين فقرات العرض للتدخل في الأحداث، أو رواية جانب خفي منها.
يحكي عرض "إكستازيا" -وهو اسم نوع من حبوب الهلوسة- قصة آدم، أستاذ الفلسفة (القديس رضا بن نعيم) وزوجته ليليت الرسّامة الغريبة الأطوار (قدس جندول). الزوج هنا مصاب بحالة من الاكتئاب المزمن، أما الزوجة فتقودها قوى سحرية نحو السيطرة والحب العنيف، للاستحواذ على رغبات الزوج بالإنجاب. لكن هذا ما لا يحدث، مما يدفع الزوج إلى تناول حبوب الهلوسة، والمضي بعيداً في رحلة نفسية مدمرة مع أشباح وأخيلة تخرج من اللوحات التي ترسمها الزوجة، والتي هي هنا جزء من سينوغرافيا العرض. فقد عمد مخرج "إكستازيا" إلى جعل الرسم بعداً من الأبعاد الجمالية لتجربته التي قدمت على خشبة المسرح الوطني في العاصمة العراقية.
ويمكن ملاحظة أن نص "إكستازيا" تعرض للكثير من التحولات التي أملتها السينوغرافيا في رحلة بحث عن قالب فني مختلف ومغاير عن السائد في العروض العربية. لكن هذا جاء أيضاً على حساب الدراما. ومع أن المخرج قام بتوظيف موسيقى حية (ياسر ترجماني) طوال فترة العرض (65 دقيقة) إلا أن الموسيقى التي اعتمدت العزف الحي على آلة الغيتار الإلكتروني، طغت على مجمل حوارات الشخصيتين الرئيستين، وتحولت في مواضع عديدة إلى نوع من الضوضاء العامة، من غير توظيف حذر للموسيقى في مجمل مجريات العرض.
وفتحت مسرحية "إكستازيا" أبواباً للتفسير والتأويل على رغم أن العرض هو اسم عقار يؤدي إلى الهلوسة والتهويم. فاسم ليليت مستنبط من الحضارات البابلية والسومرية القديمة، وهي رمز للرفض والذكاء الشيطاني، وهذا بعض ما اتصفت به ليليت في العرض. فالهوس عند المرأة بالتملك والكيد لشريكها، ورغبة الزوج المدمن في أن يمتلك ذرية له، جعلا العرض يمضي إلى رتابة تحولت في ما بعد إلى إيقاع واحد متكرر وبطيء. كل هذا لعب دوراً في جعل المقترح الفني الجديد يجنح إلى اجترار حواراته وتدويرها في زمن بدا دائرياً ولا متناهياً، إلا حين يقضي الزوج بفعل زيادة الجرعات من حبة "الإكستاز"، وتشعر المرأة بالندم على ما اقترفته حيال زوجها من ألاعيب.
مسرحة روائية
العرض المغربي الثالث شارك على هامش المسابقة الرسمية للمهرجان، وجاء بعنوان "كلام"، وفيه كرر المخرج بوسلهام الضعيف تجربته في مسرحة الرواية. فبعد تجربته الأولى "كل شيء عن أبي" عن رواية "بعيداً من الضوضاء قريباً من السكات" لمحمد برّادة، يعود المخرج بوسلهام إلى هذا التعاون عبر مسرحية كتبها الروائي المغربي بعنوان "كلام يمحوه النهار". وهي مسرحية أقرب إلى لغة السرد منها إلى الخطاب المسرحي، وفيها رحلة خيالية بين مقابر فاس وطنجة وقرطبة وباريس، بحيث تجوب امرأة شابة (سناء عاصف) عوالم تلك المدافن القديمة، وتجري حواراً سرياً مع قبر الروائي محمد شكري (1935-2003) مستعيدةً سيرته الذاتية التي ارتبطت بمومسات طنجة ولحظات النشوة الأولى في حانات البحر، وصولاً إلى قبر جولييت دوريه عشيقة الشاعر الفرنسي فيكتور هوغو (1802-1885).
وعلى رغم محاولات مخرج "كلام" السيطرة على السرد وتوزيعه على أصوات ممثليه الثلاثة، إلا أن المادة السردية بقيت عصية على المسرحة، وبدا العرض المغربي على خشبة مسرح المنصور في بغداد، كأنه مجرد استظهار للمادة المكتوبة بين امرأة وحارسين في مقبرتي فاس وطنجة (أمين بالمعزة وسفيان نعيم). ولهذا انعدم الحوار، ومعه غاب الصراع ليسود نوع من الأجواء الطقسية التي صاغها المخرج بوسلهام الضعيف، وفق سينوغرافيا فقيرة قاربت المقابر الإسلامية بمثيلاتها من المقابر الغربية في الأندلس وباريس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حاول مخرج مسرحية "كلام" استلهام أجواء غناء الملحون والحضرة الصوفية المغربية في عرضه، وأتت بعض الرقصات التي قام الممثلون الثلاثة بأدائها كي تسهم في تعزيز حضور نص الروائي محمد برادة، الذي كان يظهر صوته بين فقرات العرض كراوٍ ولكن بشكل تسجيلي صرف، مما عزز النبرة الأدبية لـ"كلام" على امتداد زمن العرض (70 دقيقة).
هكذا يمكن إحالة هذا النص إلى ما يشبه كتاب "مسامرات الموتى" لمؤلفه لوقيانوس السميساطي (120- 180 م) إذ تجري الحوارات على ألسنة أموات يتذكرون حياتهم الماجنة ويأسفون عليها.
لم يحقق "كلام" طموحه في ترويض النص الروائي واستدراجه إلى خشبة المسرح، وهذا ما كان يحتاج إلى جهد دراماتورجي عالي المستوى، مما أوضح عدم دراية لدى القائمين على العرض بالشرط الفني للمسرح، والظن بأن السرد قادر على صناعة عرض متكامل على الخشبة، والاكتفاء بسحر المادة الأدبية على حساب تحقيق فرجة متفاوتة في مناظرها ومستوياتها الشعرية والفكرية.