Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مسرحية "هواجس" تشرّح واقع المقهورين في سوريا

 المخرج مأمون الخطيب استعار أسلوب السينما التسجيلية ودمج الممثلين بالجمهور

من مسرحية "هواجس" السورية (خدمة الفرقة)

إقتفى الفنان مأمون الخطيب في عرضه الجديد "هواجس" خُطى المسرح الوثائقي، مشتغلاً على تقديم القصص الشخصية لـ 18 ممثلة وممثلاً من جيل الشباب. فعمل معهم على إزالة الفوارق بينهم وبين الشخصيات التي قاموا بأدائها على مسرح الحمراء الدمشقي، بعد أن تلقوا خلال ورشة عمل استمرت قرابة الشهرين، تمارين على الصوت والحركة والجسد، ليصلوا في نهاية المطاف إلى إنجاز عرضهم الخاص، وارتجال أدوارهم بأنفسهم من خلال البوح بما حدث معهم في سنوات الحرب. ونسجوا القصة الفردية لكل واحد من المشاركين مع الظرف العام للبلاد التي تشهد حالة معيشية واقتصادية صعبة للغاية، انعكست على واقع الحركة المسرحية، وجعلت الهواة هم الأمل الوحيد في إعادة الحياة للمسارح السورية المهجورة.

وعمل عرض "هواجس" على الانتصار للمسرح التسجيلي الذي ينحي النصوص المكتوبة مسبقاً لصالح الاشتغال مع ممثلين على عتبة الاحتراف، والخلاص إلى كتابة كل واحدٍ منهم لدوره من خلال استعارة قصص من حياته الشخصية، والنبش عميقاً في الجوانب الحميمية والمكبوتة للمؤدين. بدا ذلك شيقاً ولاذعاً في آن واحد، وكشف بجرأة عن جوانب خفية من أحلام شباب وشابات وجدوا أنفسهم في العراء بعد هجرة عشرات الآلاف منهم إلى خارج البلاد، فيما قضى البعض الآخر موتاً أو اختفاءً قسرياً، أو غرقاً في عرض البحار.

يستعير هذا النوع من المسرح أسلوب السينما التي تمزج بين ما هو روائي وما هو وثائقي في الوقت ذاته، ويُسند مخرجوها عادةً الأدوار في أفلامهم لأشخاص عاديين، إما من أجل الحصول على أداء طبيعي بعيد عن التكلف والصنعة لدى الممثلين المحترفين، أو بغية التخفيف من الأعباء الإنتاجية في دفع أجور باهظة لممثلين نجوم ربما لا تسمح الميزانية المقررة للفيلم بها. ينطبق هذا تماماً على التجربة التي خاضها مأمون الخطيب للمرة الثانية بعد عرضه "حكايتنا"، وها هي تتجدد اليوم مع فريق عرضه الحالي "هواجس". العنوان الذي يشي بأبعاد نفسية للقصص التي نجح المخرج السوري بمساندة مساعده الفنان إبراهيم عيسى في استخلاصها من ألسنة ممثلين، يخوض البعض منهم تجربة الوقوف على الخشبة للمرة الأولى.

قصص صادمة

نعثر في "هواجس" على قصص صادمة لا يمكن توقعها، وتأتي في العرض على شكل اعترافات جارحة، أتى جلها عن واقع الأسرة السورية وما طرأ عليها من تغييرات حادة في بنيتها النفسية. فمن شاب وقع في أسر قبر والدته بعد أن دفنها بيديه في حديقة بيته، إلى شاب يخوض مجابهة مع والده العسكري القاسي تنتهي بهروبه من البيت، إلى فتاة تشعر بوحدة قاتلة رغم أنها تقيم في مدينة يقطنها أربعة ملايين إنسان... ومنها إلى قصة شابة تطمح أن تصير ممثلة مشهورة، لكنها تتعرض للتحرش والابتزاز مراراً وتكراراً في تجارب الأداء.

مفارقات لا تنتهي حتى تعود وتبدأ من جديد، فتروي حكايات جيل أتت الحرب على أحلامه، وتكشف ما تركته النزاعات المسلحة من آثار لا تمحى في نفوس جيل الشباب. تروي فتاة تحلم بالغناء حلمها المقتول، وأُخرى تعيش حالة من فوضى المشاعر والأفكار ومحاولات الانتحار، إلى شاب يعمل كشّاش حمام يتعرض لظلم ذوي القربى، وآخر يقضي حياته كطبيب بيطري في صحبة الحيوانات مؤثراً إياها على صداقة البشر، في حين نطل على حياة شاب يكتشف خيانة زوجته مع رفيق عمره، فيما هو منفي على جبهات القتال البعيدة.

ويقدم العرض قصة جارحة لممثل فقد صوته بعد شجار مع أحد أصدقائه، وفتاة تكتشف قسوة الموت في رحيل أخيها الوحيد فتعيش على ذكراه، بينما نتعرف إلى ساحات الحرب الخلفية عبر قصة شاب يحلم بالهجرة، فيتورط مع شبكة للإتجار بالبشر، وآخر يطالب الجميع بالظلم على أن يتم توزيعه بالتساوي على كل البشر بعد صراع دموي يخوضه مع أخوته. بينما تحكي لنا إحدى الفتيات عن أحلامها الموءودة في مكانٍ بات لا يشبهها، وأُخرى تقع ضحية التنمر المستمر، ولا تستطيع التواصل مع محيطها الاجتماعي الذي بات يشبه مسلخاً عمومياً.

سردُ هذه القصص تم في العرض عبر مونولوغات متجاورة ومتقاطعة، وعبر حركية أسس لها مخرج العرض، لتبدو وكأنها تنجز حواراً خفياً بعضها مع بعض، وتخفف من توجه الممثل لقول مونولوغه للجمهور مباشرةً، من خلال مجموعة من الكراسي التي يتم تبادلها بين الممثلين، وتغيير وضعياتها على الخشبة تبعاً لطبيعة كل قصة. بالإضافة إلى الاستعانة بمزاج خاص لإضاءة متفاوتة في سطوعاتها، ترافقت مع عرض شاشة في عمق الخشبة، لصور من لوحات عالمية ولأعمال فنانين سوريين (السينوغرافيا والمؤثرات بصرية لريم الماغوط). وصولاً إلى مناخ زاوج فيه القائمون على عرض "هواجس" بين الشخصي والموضوعي، وبفواصل موسيقية رشيقة (رامي الضللي) بدأها الممثلون بغناء موشّح "لما بدا يتثنى" من التراث الأندلسي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولم يكتفِ العرض بالقصص الشخصية لممثليه، بل دمجها بذكاء مع أشعار وقصائد لكل من نزيه أبو عفش ومحمود درويش (1941-2008)، بالإضافة إلى مقاطع من مسرحيات "ملحمة السراب" لسعد الله ونوس (1941-1997)، و"الآنسة جوليا" للسويدي أوغست ستريندبرغ (1849-1912) و"الخال فانيا" للروسي أنطون تشيخوف (1860-1904). أتت هذه الشذرات من النصوص لتتقاطع بقوة مع ما يشبه استحضار المخيلة الفردية، وجعلها جزءاً من مخيلة جماعية يائسة ومُحبطة، وتجد في جعل الحياة الشخصية آخر أمل لإنقاذ أصحابها مما هم فيه، بل يمكن القول إنها أقرب إلى نداء استغاثة لعربة تسير بكل هؤلاء المعصوبي الأعين نحو ساحة الإعدام.

بهذه الشفافية يمكن قراءة مستويات متعددة لمسرح تسجيلي سوري انطلق من تجربة البرازيلي أوغيستو بوال (1931-2009) في تشريح واقع المقهورين، والدمج بين ما هو اجتماعي وما هو سياسي، في إطار تغيير الفصل التقليدي بين الجمهور والمنصة. فالجميع هنا بهذه الحالة ممثلون وجمهور في الآن نفسه، وبذلك يتم البناء على مسرح مطروح للنقاش العام، وليس مسرحاً مسرحياً ينتهي أثره بانتهاء العروض وإسدال الستارة على المشهد الختامي. وهذا ربما ما دفع مأمون الخطيب للمضي في هذه التجربة بعد سنوات من تدريسه للتمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية. واعتبار مسرح الهواة هو المختبر المفتوح لإنتاج النظرية، والأداة الأكثر تأثيراً في رفع الصوت عالياً في وجه الظلم وقمع الحريات وكبت وسائل التعبير.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة