Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"يوم" مايكل كنينغهم أطول من الجائحة

ربما لا تكون للرواية علاقة بـ"كوفيد-19" ولكن بوباء آخر في القيم الأخلاقية لأسرة عادية تعيش في نيويورك

كنينغهم "ممسوس بروح يصعب على كثير من الكتاب المعاصرين أن يتخلصوا منها، هي روح فرجينيا وولف" (غيتي)

ملخص

إن لم يكن هذا وباء فماذا يكون؟

بعد عشر سنوات من الصمت صدرت أخيراً رواية جديدة للروائي كاتب السيناريو الأميركي مايكل كنينغهم المعروف لدى القراء العرب برواية "الساعات" الشهيرة التي حصلت على جائزة "بوليتزر" الأميركية المرموقة عام 1998، وتحولت إلى فيلم شهير من بطولة الرائعات ميريل ستريب وجوليان مور ونيكول كيدمان.

صدرت الرواية الجديدة، وعنوانها "يوم"، في 273 صفحة عن دار "راندم هاوس"، وهي شأن طوفان من الروايات في السنوات القليلة الأخيرة رواية عن الوباء، لكن أي وباء؟ الوباء واضح الغياب في الرواية هو "كوفيد-19"، لكن في الرواية وباء آخر ينبغي ألا تخطئه عين.

حضور الوباء واختفاؤه

تعرب هيلاري كيلي في مراجعتها لرواية "يوم" ["لوس أنجليس تايمز" – التاسع من نوفمبر (تشرين الثاني) 2023] عن ضجرها المستحق من روايات الوباء، ولكنها في الوقت نفسه تعلن عن إعجابها برواية كنينغهم قبل حتى أن تتجاوز العنوان من مقالتها، إذ تقول للقارئ "لو أن عليك أن تحتمل رواية واحدة أخرى عن (كوفيد) فاجعلها (يوم) لمايكل كنينغهم".

يكتب الروائي الأميركي كاليب كرين في مراجعته للرواية ["نيويورك تايمز" - 13 نوفمبر 2023] أن مايكل كنينغهم في روايته الجديدة يقوم بثلاث زيارات لأسرة أميركية قاطنة في نيويورك، والزيارات الثلاث تأتي جميعاً في يوم واحد، هو الخامس من أبريل (نيسان) عام 2019، ثم عام 2020 وأخيراً 2021، أي إن أحداث الرواية تجري في ما قبل وباء "كوفيد-19" وخلاله وفي ما بعده، ويلقي الوباء بظلاله على الرواية كلها، ولكن دونما ذكر على الإطلاق لكلمة "كوفيد" أو لفظ "الوباء" على مدار جميع صفحات الرواية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في مقدمة حوار لها مع كنينغهم ["نيويورك تايمز"  13 سبتمبر (أيلول) 2023]، كتبت ألكسنرا أولتر أن الروائي الأميركي شعر بأن وباء كورونا لابد أن يكون جزءاً من نسيج حياة الشخصيات في روايته الجديدة، بل إنه هو نفسه تساءل في ذلك الحوار، "كيف يتسنى لأي شخص أن يكتب رواية معاصرة تتناول البشر، ولكنها لا تتناول الوباء؟"، ثم عاد فكرر رأيه ذلك في حوار أحدث مع سكوت سيمون [إذاعة أميركا الوطنية - 11 نوفمبر 2023] قائلاً، "لقد كنت في منتصف كتابة رواية أخرى حينما تعالى هدير الوباء، فما كان مني إلا أن نحيت تلك الرواية جانباً، إذ لم يكن من سبيل لإقحام الوباء فيها من دون أن أبدو كمن يحاول إقحام الوباء. ولم يبد لي أنه يمكن لأحد أن يكتب رواية معاصرة من دون أن تعترف بالوباء، ولكن في الوقت نفسه، كيف تكتب رواية عن البشر في الوباء، لا رواية عن الوباء؟".

كان الحل الذي تفتق عنه ذهن كنينغهم يتمثل في عائلة من بروكلين في نيويورك، مؤلفة من الزوج دان، والزوجة إيزابل، وشقيق الزوجة روبي، فضلاً عن طفلين هما فيوليت ونيثان.

يكتب كاليب كرين أن مثلثاً غرامياً أفلاطونياً في قلب هذه العائلة إلى حد ما. فإيزابيل محررة الصور الصحافية مستاءة من فقدان العلاقة الإيروتيكية مع زوجها دان. ودان مطرب الروك آند رول المغمور السابق، تحول إلى رب بيت (وبات يعد الفطائر لابنيه بدلاً من أن يعد لألبوم جديد)، وترهل جسمه ولان على نحو شهواني (في نظر من؟)، ولم تزل تتراءى له أوهام العودة إلى الغناء. والزوج والزوجة يعدان شقيقها المثلي روبي - معلم الصف السادس الذي يعيش في علية منزلهما الحجري - أقرب أصدقائهما".

في حواره مع سكوت سيمون يفسر كنينغهم (وهو المثلي المعلن) ما يبدو أن كاليب كرين يتحشم عن قوله صراحة، فيقول إن في الثلث الأول من الرواية، أي قبل حلول الجائحة، تجد الأسرة نفسها في هذا الموقف، "إيزابيل ودان في زواج يتحول إلى شيء مغاير لما في تصور كل منهما عن الزواج. وكلاهما، بطرق معينة، واقع في غرام روبي، شقيق إيزابيل الصغير والأعزب، والمثلي". ويعلق سيمون على مسألة الغرام بروبي، الأخ والصهر، بقوله إن "هذا موقف معقد، حتى بالنسبة إلى عائلة في بروكلين"، فيقول كنينغهم إن "الأمر يتعلق بالمثالية. يتعلق بشخص لا يمكن أن تقوم معه علاقة غرامية فعلية لأنه أخ، أو لأن دان مستقيم الميل الجنسي ومتزوج بأخته، الأمر متعلق بوهم أن شخصاً آخر يبدو وكأنه الخيار الأفضل، حتى لو أنه ليس كذلك".

على رغم ذلك الجيشان الغرامي المكتوم في ذلك البيت النيويوركي المهدد بالانفجار، يتدخل عنصر فينتزع الفتيل في ما يبدو. وليس هذا العنصر هو الوباء، وإنما الزمن. ثمة طفلان يكبران، ويبدو أن هذا وحده يهشم بناءات من حوله.

في آخر العالم

يكتب كاليب كرين أنه "في عام 2019 وفقاً للرواية تعتذر إيزابيل لروبي لأنها ودان يوشكان على إخراجه من البيت، لأن ابنيهما كبرا على أن يظلا مشتركين في غرفة نوم واحدة (فالولد نيثان على أعتاب المراهقة، والبنت فيلويت في الخامسة من العمر، وتتحسس للتو عالم القواعد التي لا تجد سبيلاً للتعرف عليها إلا بانتهاكها) ولذلك فهما بحاجة إلى تخصيص المساحة التي يشغلها روبي لنيثان. ولتخفيف وقع هذه الضربة، تستدعي إيزابل حلم يقظة قديماً، فتقول "إنني لا أكف عن التفكير في ذلك البيت الريفي الذي كنا نوشك أن نشتريه. كان ليصبح لدينا الآن دزينة من الغرف، وحديقة خضراوات، وثلاثة كلاب أو أربعة".

يقول كرين إن ذلك الحلم مألوف في أعمال كنينغهم. "ففي روايته الأولى "بيت في آخر العالم"، حاول رجل مثلي، ورجل ثنائي الميل الجنسي، وامرأة مستقيمة الميل الجنسي أن يربوا معاً طفلاً في منزل في أقصى شمال الولاية". ويضيف أن "كنينغهم بدأ كتابة الأدب عن شخصيات المثليين والمتحولين جنسياً في التسعينيات من القرن الماضي، وكان المثليون آنذاك لا يزالون موصومين على نطاق واسع، كما كانوا أكثر ظهوراً في المدن منهم في الريف"، ومن هنا حلم الريف الطوباوي، إذ إن "غياب المثليين الواضح عن الريف كان يعد  على نحو ما، وكأنه يجعل الريف بمنزلة الصفحة البيضاء، ومن ثم فقد كان بوسع روائي مثلي أن يبعث شخصياته المدنية إلى خارج البلدة بدافع حالم، متخيلاً معهم (ولو بشكل عابر)، أن الريف قد يكون ملاذاً يعيش فيه المثليون وغير المثليين في تناغم".

 

 

تحضر شخصيات المثليين كثيراً في أدب كنينغهم، وله ثمان روايات فضلاً عن مجموعات قصصية، لكنه في حوار قديم قال إنه يرفض وصفه بالكاتب المثلي، أو النظر إلى شخصياته وكأنما لا سمات لها إلا مثليتها.

يكتب كاليب كرين أن "حلم التناغم هذا في ما يبدو لم يزل يسيطر على شخصيات كنينغهم بعد عقود"، وهو يتجسد في تصوير كنينغهم للحوار بين إيزابل وروبي، "فليس بوسع كثير من الأشقاء الراشدين في ما يوشك أحدهم على طرد الآخر من بيته أن يتبادلوا من المزاح مثل ما يتبادل روبي وإيزابل".

غير أن كرين يتلمس مشكلة في أن شخصيات الرواية تفتقر بسبب من فرط الطيبة إلى "الغضب اللازم لإشعال جذوة التبصر التي يحتاج إليها الناس أحياناً لرؤية طريقهم قدماً". ويضرب مثلاً لغياب الغضب بشخصية ثانوية في الرواية، وإن لم يكن غياب الغضب وحده هو ما يظهر في هذا المثال.

للزوج دان شقيق "يقال له في بدايات الرواية، إنه لم يعد موضع ترحاب في حياة امرأة هو الوالد البيولوجي لابنها، كان يفترض بذلك الشقيق ألا يكون أكثر من متبرع بالمني، لكن المرأة سمحت له بالتسلل إلى حياة ابنها لفترة ثم قررت حينما لجأت إليه مرات لرعاية الولد أنه شخص لا يمكن الاعتماد عليه، إذ يتبين لها أنه يمثل حضوراً عاطفياً أكثر قليلاً مما ترتاح إليه، وأنه بطريقة ما لا يولي الانتباه الكافي، وفي الوقت نفسه يولي انتباهاً أكثر مما ينبغي! وعلى رغم أن المرأة تعترف أن كلماتها للرجل قاسية، فلا هي ولا هو يقولان أي شيء يصعب غفرانه، وحتى مع نهاية الرواية يظل الرجل في فلك المرأة، لا هو مقبول، ولا هو مرفوض".

ويمضي كاليب كرين راصداً ما يغيب عن الرواية، غياب الغضب، أو ربما الحمية، فيقول إن "حال الشهوة كحال الغضب. فقليل من الشخصيات لديها التوق لكن لا يوجد من يرغب في أحد رغبة موجعة أو أنانية. وعلى رغم أن روبي معجب برجلين مستقيمي الميل الجنسي، فإن تاريخه الرومانسي يقع في ماضي الرواية دون حاضرها. ففي حاضرها يفتقر روبي إلى "المال والقدرة" ويكتفي بالتركيز على شخصية في "إنستغرام" اخترعها بمساعدة من أخته، وهي شخصية طبيب أطفال مثلي في الثلاثينيات من العمر يدعى وولف، قام الأخوان بتجميعه من صور استعارها دون استئذان (ويجدر بنا أن نتذكر أن إيزابل محررة صور محترفة)، ومن ذكرياتهما عن شقيق ثالث كانا يحلمان به في طفولتهما".

تكتب هيلاري كيلي أن كنينغهم "ممسوس بروح يصعب على كثير للغاية من الكتاب المعاصرين أن يتخلصوا منها، وهي روح فرجينيا وولف التي تسري في أروقة رواياته، فتطل فيها موتيفات وولف برؤوسها، وتشترك شخصياته مع شخصياتها في الأسماء، فضلاً عن أن روايته (الساعات) تتخذ من فرجينيا وولف نفسها بطلة".

تلاحظ كيلي أن فرجينيا وولف لا تظهر بطلة لرواية "يوم"، وإنما تظهر في هيئة "مؤثر على موقع "إنستغرام" يدعى وولف، وهو شخصية خيالية يختفي وراءها روبي الثلاثيني المكتئب".

في يوم الرواية الأول، تتخيل إيزابل وروبي هرب وولف إلى بيت في أقصى شمال الولاية، وبحلول يوم الرواية الثاني، أي الأول من أبريل 2020، يكون روبي نفسه هو الذي فر إلى أيسلندا، مصطحباً معه وولف، وهناك تنقطع به السبل بعد إغلاق الحدود الدولية في أول أشهر الوباء، يقيم روبي في كوخ محاط بخضرة الشجر، فهو مرة أخرى بيت في آخر العالم، وإن يكن في هذه المرة صندوق خشبي صغير ومعزول يثير في النفس صورة التابوت".

حدود المنفى العاطفي

"في عزلته يبدأ روبي نشر صور لنفسه على حساب وولف ليدخل بشخصيته الحقيقية في سردية وولف، وذلك فعل تخييل واع جعلني أتساءل عما لو أن كنينغهم يوحي بتماثل بين "إنستغرام" بالنسبة إلى روبي والرواية بالنسبة إلى كنينغهم، أم تراه يشير إلى ما يضيع عندما تحل أنماط الحياة التخيلية الرقمية محل الروايات؟ ويبدو هذا محتملاً عندما تتحول منشورات روبي عبر "إنستغرام" فتفقد المعقولية وتجنح إلى العاطفية فتجتذب مزيداً ومزيداً من الإعجابات".

"يأتي اليوم الثالث من الرواية في 2021، وقد باتت إيزابل هي الأخرى خارج المدينة، إذ لاذت بمنزل رطب في شمال الولاية يستعصي على الإصلاح. وهي تقول لوكيل عقارات، "أعتقد أن علينا أن نبحث عن بيوت مسكونة تماماً بعدم قابليتها للسكنى، لو أنك تفهم ما أرمي إليه". بما يعني أنها، في يوم الرواية الثالث، تصبح على استعداد لتقبل عيش الحياة مصطبغة بالذكريات والندم، أو لعلها تتخلى عن حلم التناغم المستحيل وتتقبل فكرة الحياة الأسرية المصاحبة بطريقة ما للصراع. و"في النهاية، يبدو أن أفراد الأسرة قد تخلصوا من أشباحهم، إذ تصالحوا مع فكرة المضي قدماً، وعيش صراعات الحياة التي يبدو أنهم باتوا يجدون فيها ما يشبه المتعة".

ترى هيلاري كيلي أن "يوم" رواية "ليست عن الوباء مطلقاً، فأحداث ثلثها الأول تدور قبل وقت طويل من نطق أحد (عدا علماء الفيروسات) عبارة وباء كورونا، وهو القسم الأقوى في الرواية على الإطلاق"، بل إنها، بعيداً من الوباء، ترى أن كنينغهم "ينثر شخصياته كل في منفاها العاطفي، راجياً أن يجمع بينها مرة أخرى في نهاية اليوم". وتوشك كيلي أن تحدد موضوع الرواية الأساسي بأنه التجاوز. فكنينغهم يضع شخصياته الرئيسة على شفا تغير كبير، "ثم يفصل تفصيلاً جميلاً ما يعنيه أن يتجاوز شخص شيئاً ما، وأن يعيش في الفضاء الحدي القائم في ما بين ذاته الماضية وذاته المستقبلية، عاجزاً عن "معاودة الاندراج في مسار الزمن المعهود". حتى إن رواية "يوم" تجري أحداثها في يوم يعرف أبناء نيويورك أنه ربيع زائف، إذ تظل الأرض صلبة والزهور مدفونة في جوفها، في تحد صارخ لما يقوله التقويم".

ربما لم يذكر الوباء قط في "يوم" مايكل كنينغهم، وربما تكون هيلاري كيلي محقة في أن الرواية لا علاقة لها به، لكن ربما وباء آخر غير "كوفيد-19" كان بطريقة ما فاعلاً في صفحات هذه الرواية كلها، وباء في قيم الأسرة الأخلاقية نفسها، في الأخ الذي يكون لأخته حبيباً محتملاً، والصهر الذي يكون في عيني صهره مثيراً وشهوانياً، في المتبرع بالمني مرفوض الحضور في حياة ابنه البيولوجي. وإن لم يكن هذا وباء فماذا يكون؟

غير أن المطمئن ربما هو أن الأسرة، وإن لم تتخلص من هذا الوباء، لم تستسلم له أيضاً، وبمرور الزمن في ما يبدو تعلمت التعايش مع الفيروس، لكن يبقى الفيروس خطراً كامناً إلى حين.

العنوان: DAY

تأليف: Michael Cunningham

الناشر: Random House

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة