Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

يوم الصمت الأكبر في تاريخ الأدب

15 ألف رسالة لنسف خرافات صمويل بيكيت واستعادة تفاصيل حياته بقلمه

من تقديم مسرحية في انتظار غودو (موقع المسرحية)

ملخص

كثيراً ما اشتهر صمويل بيكيت على الدوام بصمته وعدم رغبته في التواصل مع الآخرين.

"لست أعرف شيئاً حول هذه المسرحية إلا ما يمكن أن يعرفه من يقرأها بانتباه، ولست أعرف بأية روحية قد كتبت ولماذا كتبت؟ ولست أعرف عن شخصياتها سوى ما يقولونه عن أنفسهم وسوى ما يفعلونه على الخشبة وسوى ما يحدث لهم، ولا أدري من هو غودو، بل لست على علم بأنه موجود فعلاً"، وذلك خلال سهرة إذاعية على محطة راديو فرنسية، والإجابات الوحيدة التي تمكن مقدم البرامج الثقافية الشهير في ذلك الحين ميشال بولاك من الحصول عليها من ضيفه الذي كان يحاوره في تلك الحلقة.

وعلى الأرجح أدرك القراء هنا أن الحديث يدور من حول مسرحية "في انتظار غودو" للكاتب الإيرلندي باللغة الفرنسية صمويل بيكيت والتي كان بولوك يقدم في تلك الأمسية عرضاً إذاعياً لها. حسناً، هنا قد يتساءل القراء ما هو وجه الغرابة في هذا الخبر الذي يعود موضوعه لعقود من السنين إلى الوراء كي يشكل مفتتحاً لموضوعنا هنا؟

وجه الغرابة هو أن الضيف لم يكن سوى مؤلف المسرحية نفسه والذي كان مقدم البرامج الشهير قد خاض رهاناً على أنه "سيجعله يتكلم"، بخاصة أن المسرحية مسرحيته وأسئلة بولاك التي كانت معروفة بصعوبة مراسها وطابعها المغري لم تطرح عليه، لكن بيكيت صمت وكانت تلك العبارات الوحيدة التي تمكن بولاك من انتزاعها منه، بصدد المسرحية في الأقل.

عاجز عن التواصل

في الحقيقة كان صمويل بيكيت معروفاً على الدوام بصمته وبعدم رغبته وربما عدم قدرته على التواصل مع الآخرين، إلى درجة أنه حين حقق فيلمه السينمائي الوحيد ذات مرة وهو في أوج مجده المسرحي تعمد، وقد عنونه "فيلم"، أن يجعله صامتاً تماماً أو تقريباً صامتاً بالنظر إلى أن فيه كلمة واحدة تختتمه هي "هراء"، يقولها بالتحديد الهزلي الفرنسي وملك فن الإيماء في فرنسا مارسيل مارسو، ما اعتبره كثر قمة المزاح في تاريخ الفن السابع، لكن بيكيت لم يعتبره كذلك بل اعتبره معبراً عن نظرته إلى الفن وإلى اللغة ورغبته الدائمة في تشذيب تلك اللغة ولا سيما في مسرحه إلى حدود مدهشة، فلئن كان هو صموتاً لم لا يكون فنه صامتاً؟ ولكن هل كان بيكيت صموتاً حقاً؟ الواقع أننا إذا حكمنا عليه من خلال الحكايات الأسطورية المتداولة عنه ومن خلال مسرحه كما من خلال أحاديثه الصحافية النادرة وظهوره التلفزيوني الأكثر ندرة، لن يمكننا القول إنه لم يكن صموتاً بل إن بولاك نفسه الذي كان يعرفه من كثب أطلق في تلك الحلقة الإذاعية نفسها طرفة تقول إن أحد الباحثين أجرى دراسة معمقة تبين له خلالها أن بيكيت لم ينطق طوال حياته بأكثر من 837 كلمة معظمها بالفرنسية.

وطبعاً كل هذا معروف ولم يتمكن أحد من نقضه، ولكن ماذا لو أخبرنا القارئ الآن بأن مجموع الرسائل التي كتبها صمويل بيكيت لناشريه وعشيقاته وأصدقائه وحتى لأناس بالكاد كان يعرفهم، بلغ بحسب أكثر الإحصاءات موثوقية 15 ألف رسالة، مما يجعله واحداً من أكثر الكتاب ثرثرة في تاريخ الأدب المعاصر. واللافت أن تلك الرسائل لم تنشر كلها بعد حتى الآن، بالنظر إلى أن الكاتب نفسه كان قد أوصى بألا تنشر إلا بعد موته، وهو كما نعرف عاش طويلاً ولم يرحل عن عالمنا إلى عام 1989، إذ لم يتسع الوقت حتى الآن لنشر أكثر من ثلاثة مجلدات تضم أقل من خمس الرسائل.

لغة بلا أسلوب

ولعله لن يكون من الغريب أن نؤكد هنا أن بيكيت كتب معظم تلك الرسائل بالفرنسية، وليس فقط لأنه كان منذ عام 1945 يعيش في فرنسا بعد أن اختارها وطنا نهائياً له واختار لغتها لمسرحياته، والطريف أنه حين سأله واحد من مترجميه الأصدقاء ذات مرة عن السبب الذي جعله أصلاً يختار الفرنسية لغته للتعبير، وبعد أن قال له مازحاً على غير عادته إن لذلك أسباباً عدة، "لكني لن أفصح لك عن أي منها"، صمت برهة ليكمل قائلاً إنه اختارها لأنها "لغة من دون أسلوب"، ثم صمت برهة أخرى كانت أطول قبل أن يقول وكأنه يكشف سراً خطراً، إنه اختارها تحديداً لأنه لا يتقنها، وهي بذلك تناسب مزاجه إذ تحد من تبسطه في الكلام كتابة أو حكياً، وتجبره على أن يختصر في الحالين ما يتناسب مع ميله إلى عدم الثرثرة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يومها أراد بيكيت أن يبدو مقنعاً في هذه المحاججة، ولكن من المؤكد أن قراءة ولو غير متأنية لرسائله تكشف عن ثرثار بلا حدود، وتنفي ذلك جملة وتفصيلاً.

بين الحياة والرسائل

أمر آخر لفت نظر مؤرخي حياة بيكيت وأدبه في ما نشر حتى اليوم من رسائله، وهو أن هذا القسم المنشور منها يستجيب نظرياً لما كان بيكيت قد اشترطه على من سيقومون بنشر الرسائل بعد موته، وعلى رأسهم رفيقته سوزان التي أمضت مجمل أعوام عمرها في رفقته، وكانت هي على أية حال التي تكتب رسائله المتعلقة بعمله ونشر كتبه، وكان شرطه ألا ينشر من الرسائل أي شيء يمس حياته الخاصة، بل يكتفي فقط بتلك التي تطاول عمله الإبداعي.

ولكن مؤرخيه يتساءلون الآن عما إذا كان جاداً في هذا الشرط بالنظر إلى أن ما لا يزيد على 40 في المئة من مجمل رسائله يدنو من ذلك العمل، فما الذي يجب أن يكون عليه مصير بقية الرسائل، أي 9 آلاف رسالة أخرى، ثم أين الجدية في هذا الشرط وحياة بيكيت تكاد تختلط كلياً بكتاباته في الرسائل كلها، بخاصة بالنظر إلى ما أشرنا إليه من أن سوزان كانت هي كاتبة الرسائل المتعلقة بأعماله، والتي لا تحسب عادة ضد تلك التلال من رسائله؟

 

 

ولعل ثمة أمراً آخر لا بد من التوقف عنده قليلاً، لا يبتعد بنا كثيراً من موضوعنا، وهو يتعلق بما يوصف عادة بـ "بيكيت قبل بيكيت" أي بالتحديد بحياة هذا الكاتب قبل مرحلته الفرنسية الأخيرة، وهي على أية حال مرحلة جرى الحديث عنها كثيراً لمناسبة صدور المجلد الأول من رسائل الكاتب عام 2014، وكانت بالإنجليزية لأن معظمها كتب بتلك اللغة التي هي لغة الكاتب الأصلية كما هو واضح، ولنذكر هنا عرَضاً أنه لئن كان بيكيت قد كتب مسرحياته كلها بالفرنسية بدءاً من "في انتظار غودو" التي اعتبرت ثورة حقيقية في مسرح منتصف القرن الـ 20، فإنه حرص دائماً على أن يكتب رواياته، وأشهرها "مورفي"، بالإنجليزية حتى حين كان مقيماً في فرنسا ويتبادل الحديث مع الناس بلغة موليير.

من ألمانيا النازية إلى المقاومة الفرنسية

والحقيقة أنه كان ثمة كثير من الغموض يتعلق بالحياة التي عاشها بيكيت عند بداياته، بخاصة بعد أن تخرج في "ترينيتي كوليج" ووصل للمرة الأولى إلى باريس عام 1929 وكان في الـ 23 من عمره، وربما بفضل ما نعرفه الآن من رسائل تلك المرحلة الباكرة يتبين لنا أنه كان معتل الصحة وعمل معيداً في محاضرات اللغة الإنجليزية في المدرسة العليا، ثم تعرف على جيمس جويس الذي سيكون تأثيره في كتابته كبيراً، لكنهما اختلفا حين تعمد بيكيت أن يردع ابنة جويس عن محاولاتها التقرب منه، فقال عنها لاحقاً إنها مصابة بالانفصام.

غير أن الأهم من هذا هو أن بيكيت انصرف طوال الأعوام الـ 10 التالية إلى قراءة مكثفة وضعته على تماس مع كبار الفلاسفة والروائيين، وكذلك حاول دخول العمل السينمائي من خلال رسالة حول هذا الأمر بعث بها عام 1936 للسينمائي الروسي الكبير إيزنشتاين، لكن هذا الأخير لم يعبأ به كما يبدو ولم يكلف نفسه عناء الرد عليه، غير أن ذلك لم يحبط بيكيت الشاب حيث نراه في العامين التاليين يتنقل في ألمانيا وقد أضحت نازية متجولاً بين مدنها.

ومع هذا فحين اندلعت الحرب التالية واحتل هتلر فرنسا كان بيكيت من أوائل الأجانب الذين انضموا إلى المقاومة الفرنسية، لكن أمر شبكته سرعان ما افتضح، إذ وشى بهم رجل دين كان مقرباً منهم.

والحقيقة أن كل هذا لم يكن من السهل طبعاً معرفته من خلال نتاجات بيكيت المسرحية والنثرية، لكننا عرفناه بتفاصيله غير المملة من خلال رسائله، فمن ذا الذي قال يا ترى إن هذا الرجل كان صموتاً؟

المزيد من ثقافة